لم أكن متشائما بقدر ما أحاول نقل ما يجري لشباب فلسطين الذين يعانون من انسداد الأفق ويعيشون حياة أصيبت باليأس ولا يجدون بها ما يطمحون إليه مثل باقي الشباب في مختلف دول المنطقة، وللتوضيح فإننا نجد ارتفاعا لمعدلات البطالة في فلسطين بل نجد أكثر من 40 ألف خريج وخريجة سنوياً، حيث يستوعب السوق المحلي قرابة 8 آلاف فرصة عمل للأفراد «20-29» سنة، وبالرغم من انخفاض النسبة في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة إلا أن الفجوة في معدل الأجر الشهري لا تزال كبيرة، حيث بلغ المعدل 671 شيقل في قطاع غزة مقابل 1,076 شيقل في الضفة الغربية، وهذا الأمر يدفع الشباب إلى التفكير في الهجرة من أرض الوطن، وخاصة من قطاع غزة حيث انسداد الأفق لدى الشباب مما يعرض حياتهم للخطر الشديد ويعرضهم للموت غرقا في البحار، وقد ارتفعت نسبة من تعرضوا للموت من الفلسطينيين غرقا في السفن التي تقلع في عرض البحر مقابل الشواطئ الإيطالية أو اليونانية حيث يبحث الشباب من قطاع غزة عن الهجرة هربا من جحيم الحياة هناك . شعب يموت في اليوم خمس مرات، شعب يموت غرقا وقصفا ونفيا وسجنا، شعب يعرف كل أشكال الموت، هو شعبي الفلسطيني، كل نشرات الأخبار تعرف شعبي وتتحدث عنه وعن احتمالات موته ببطء وموته بأشكال متعددة وبكل الطرق والسبل، كل محطات التلفزة ترصد الموت الفلسطيني وتتحدث عن حكايات الموت لأطفال فلسطين، الموت قصفا والموت إعداما والموت غرقا والموت انتحارا والموت نوما، الفلسطيني يموت في أرضه ويموت في السماء ويموت في البحار ويموت على أبواب المساجد . للموت في تراجيديا الفلسطيني حكايات وقصص طويلة تذكرها الأجيال ويحفظها كل فلسطيني، كل منا يعرف قصص الموت فمن لا يعيش وقائع الموت سمعها من أصدقائه أو أحد من معارفه وكان حكى له جده أو جدته قصصا عن الموت، الموت لا يفارق الفلسطيني واليوم تدخل تاريخنا قصص موت جديدة ومن نوع خاص، الفلسطيني يجبر على ترك وطنه والبحث عن المجهول في طريق لا يعرف الرحمة، شباب غزة يبحثون عن حياة وعيش بعد كل هذا الدمار وأول ما يبحثون عنه اليوم هو رحلة المجهول الجديدة والمصير المجهول فيكون الحل السحري رحلة الهجرة وأن يهاجر الفلسطيني من جديد ليبتلعه البحر ويموت غرقا . لك الله يا شعبي، لك الله معينا ومسيرا وميسرا ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، هجرة الفلسطيني من يافا وعكا واللد والرملة قصرا وهجرة الفلسطيني من مخيمات اليرموك ونهر البارد واليوم هجرة الفلسطيني من غزة، الهجرة الفلسطينية بطعم الموت لها نكهتها وأنت تتذوق مرارة الحياة، فمن الموت المحقق إلى الموت المجهول نمضي ويمضي معنا الوطن يسكن في أنفاسنا ويسكن في أعماقنا وآهات شباب فلسطين، يهربون من الموت إلى الموت، هذا ما حل بأهلنا في قطاع غزة، أصبح الموت يلاحقهم في الأعوام الأخيرة نتيجة الهجرة القسرية حيث يدفعهم المجهول إلى المجهول . في غزة يفكر الشباب في حقيبة سفر والتوجه نحو ما تبقى من الأنفاق في مدينة رفح جنوبي قطاع غزة، أو ينتظر دورة في السفر من خلال معبر رفح البري لتبدأ رحلة اجتياز الحدود بين رفح وغزة في اتجاه واحد وهو البحث عن مكان جديد للعيش بعيدا عن جحيم وشبح البطالة وانسداد الأفق . الموت والتهجير والهجرة لا يعرفهم إلا الفلسطيني، من النكبة إلى الغربة إلى النكسة إلى بيروت إلى صبرا إلى غزة إلى مخيم جنين إلى المنافي والمنفى المجهول، ولا تكون هناك خيارات أمام هذا الواقع الصعب وظروف الموت التي ينتظرها أبناء شعبنا، فما أصعب على الإنسان أن يفترش رصيف الموت وينام على الأرصفة الباردة ويبتلعه البحر ويرحل بصمت، وما أصعب أن يترك وصيته الأخيرة، إني اليوم رحلت، هذا هو رحيلي الأخير بدون أي مقدمات، من هناك إلى هنا ومن الموت إلى الموت يكون رحيل الفلسطيني، ليبدأ من جديد رحله البحث عن مكان تحت الشمس، هل أراك مرة أخرى؟ وهل تعرفون معنى أن تموت جوعا أو أن تغضب وأنت تبتسم أو أن تبحث عن شربة ماء قبل أن يستيقظ أطفالك ساعة رحيلهم وأن يكون قدرهم مجهولا؟ ترحال وترحيل وإبعاد وسجن واعتقال واستشهاد ومنفى ووطن جميل، آه ما أجملك يا وطني وأنت تسكن فينا، تلملم تلك الأشياء الجميلة في ذاكرة المجد القادم ليرحل الوطن معنا ويكون حكايتنا التي نحلم فيها قبل موتنا وقبل لحظة الرحيل . شباب في مقتبل العمر يبحثون عن حياة أفضل يرحلون عنا بصمت وتبتلعهم البحار في شواطئ الغربة القاسية والبعد عن الوطن، وكان آخرهم الشاب تامر السلطان الذي رحل عنا بصمت، حيث أصيب بإصابات بالغة من جراء قطعه لمسافات طويلة سيرا على الأقدام ليفارق الحياة في أحد مستشفيات البوسنة والهرسك بعد أن اضطر لمغادرة قطاع غزة هربا من جحيم الملاحقات والموت، بعد أن شارك في الحراك الشبابي بقطاع غزة مطالبا بالتغيير وبإيجاد فرص للعمل وتحسين ظروف الحياة في القطاع، الشاب تامر البلاغ من العمر (37 عاماً) ويحمل شهادة البكالوريوس في الصيدلة، لم يكن الأول في قائمة طويلة امتدت على امتداد الأعوام الأخيرة حيث يبتلع الموت شباب فلسطين دون أن يدق أحد جدار الخزان، بكتك غزة يا تامر وهي تتوشح بسواد الحزن لتستقبل جثمانك وتحتضنك الأرض الطيبة بثراها لتكون انت الشاهد والشهيد رحمك الله . وأخيرا لا بد لنا من طرح هذا السؤال الكبير، لماذا يصمت الجميع عن انتشار أخبار هجرة المئات من أبناء القطاع بطرق «غير شرعية»؟ هل هناك من له مصلحة في إفراغ القطاع من شبابه لأغراض سياسية؟ ومن المسؤول عن رحلة الموت وهذا الدمار ؟ سؤال ينتظر الجواب وبقوة، سؤال يقرع جرس الإنذار بكل قوة !!! سفير النوايا الحسنة في فلسطين رئيس تحرير جريدة الصباح الفلسطينية