إذا كانت المالية العامة تحيل على ذلك العلم المستقل، ولا يمكن اعتباره جزءا من العلوم الأخرى، إلا أنه يرتبط بها ارتباطا جدليا، حيث إن علاقته بالعلوم الأخرى هي علاقة الجزء بالکل خصوصا بعد تطور فكرة الحاجة العامة وتغير وظيفة الدولة، فإن نظام المالية العامة يعتمد في تحقيقه على عدة أدوات مالية، وهي النفقات والإيرادات والميزانية العامة. وبالتالي، يقوم النشاط العام من خلال هيئاته بتحديد الحاجات العامة، ولا يمكن للقطاع العام أن يلبي هذه الحاجيات إلا إذا توافرت السلع والخدمات اللازمة لذلك، ويقوم النشاط العام في مقابل الحصول على هذه السلع والخدمات بتسديد ما يسمى بالنفقات العامة، غير أن تغطية هذه الأخيرة يتطلب توفر الدولة على العديد من الإيرادات العامة المتأتية من الضرائب، باعتبارها المصدر الأساسي الذي يمول الخزينة العامة، حيث تمثل التحويلات الإجبارية لجزء من المداخيل والثروات الخاصة وما تحققه من منفعة عامة. أو تلك المتأتية من أملاك الدولة العامة والخاصة، وهي الممتلكات العقارية والمنقولة المملوكة للدولة. إضافة إلى ذلك نجد القروض العامة والإعانات كأحد المصدرين الاستثنائيين اللذين تلجأ إليها السلطات العمومية بقصد تمويل الميزانية العامة للدولة، هذه الأخيرة التي هي الأخرى، أحد الأدوات التي تعمد عليها المالية العامة للدولة، والتي تحيل على كل خطة مالية تمثل تقريرا مفصلا لنفقات الدولة وإيراداتها مدتها سنة، ويصدر سنويا القانون المالي بعد موافقة السلطة التشريعية عليه. وإذا كانت إدارة المالية العمومية تعتبر إحدى المهام الرئيسية لوزارة الاقتصاد والمالية، فهي تسهر على إعداد القانون المالي ومتابعة تطبيقه وتنفيذه الفعلي، وعلى إرساء السياسات الضريبية والجمركية ومتابعة تطبيقها، كما تسهر على تحصيل الإيرادات ودفع النفقات العمومية. فإن هذا المعطى يأتي في إطار صدور القانون التنظيمي رقم 130 . 13 الذي يعتبر إرادة حقيقة لإجراء إصلاحات قوية في مجال تدبير الشأن المالي، في سياق دولي يتسم بالتزام العديد من الدول الإصلاح أنظمتها المالية والمحاسبية وفقا لمبادئ الحكامة والشفافية ونقل أسس التدبير العمومي من منطق تدبير الوسائل إلى فلسفة تحقيق النتائج والفعالية، كما يأتي هذا القانون لملاءمة قوانين المالية مع أحكام الدستور المغربي الجديد لسنة 2011 التي ترتكز على ربط المسؤولية بالمحاسبة، وأيضا مع المعايير الدولية في مجال المحاسبة، ونذكر بالخصوص المعايير الدولية المحاسبية الخاصة بالقطاع العام من جهة. ومن جهة أخرى يعمل هذا القانون على احترام مبادئ الشفافية والوضوح في تدبير الشأن العمومي، ويحدد إطارا جديدا لتنفيذ قوانين المالية بالاستناد إلى ثلاثة مبادئ رئيسية مرجعية في تحسين نجاعة أداء التدبير العمومي، وتعزيز المبادئ والقواعد المالية وتقوية شفافية المالية العمومية، وتقوية الرقابة البرلمانية للمالية العمومية. ويلح المشرع المغربي من خلال مبدأ تحسين نجاعة أداء التدبير العمومي على إلزامية إعداد قانون المالية استنادا إلى برمجة متعددة السنوات تغطي ثلاث سنوات، وإخضاع منظومة المالية العمومية لمنهجية نجاعة الأداء من خلال تعريف وتحديد مسؤوليات المدبرين (آمرون بالصرف ومحاسبون) ومنحهم مزيدا من الحرية في التصرف مقابل التزامهم بإنجاز الأهداف المحددة وتقديم الحساب حول النتائج. بينما يرمي من وراء إقرار مبدأ تعزيز المبادئ والقواعد المالية وتقوية شفافية المالية العمومية، إلى التأسيس القواعد مالية جديدة من أجل تعزيز التوازن المالي، ويؤطر الدين العمومي من خلال تنصيصه على ضرورة عدم تجاوز حصيلة الاقتراضات مجموع نفقات الاستثمار وسداد أصول الدين. وأخيرا يروم من خلال مبدأ تقوية الرقابة المالية للبرلمان، إلى تعزيز دور المؤسسة التشريعية في ميدان الرقابة على السياسيات العمومية، ويتجلى ذلك في التشاور القبلي من خلال تمكين هذه المؤسسة التشريعية من متابعة عملية إعداد وتحضير مشاريع قوانين المالية لكل سنة، وكذا تزويد أعضاء البرلمان بالمعطيات المتعلقة بتنفيذ قانون المالية عند نهاية الفصلين الأول والثاني من السنة المالية، وتقديم عرض أمام لجنة المالية بمجلس النواب، قبل شهر يوليوز، بخصوص عملية التحضير لمشروع القانون المالي للسنة الموالية. كما أن القانون التنظيمي الجديد للمالية العمومية قد سعى أيضا إلى تحسين أساليب تدبير السياسات العمومية، وتغيير – أنماط الإدارة المالية ونقلها من منطق إدارة الوسائل إلى منطق تحقيق النتائج، مع تقييم فعالية وجدوى هذه السياسات من حيث المؤشرات التي يضعها القطاع الوزاري أو المؤسسة المعنية. وعطفا على ما سلف، نستنتج أن المشرع المغربي يعتمد فلسفة جديدة، باعتبارها جزء من منطق تغيير أساليب العمل في مجال المالية العامة، باعتماد مقاربة جديدة في تدبير ميزانية الدولة تنبني على تحقيق النتائج حسب البرمجة متعددة السنوات للميزانية، ومنح الآمرين بالصرف هامش من الحرية بالنسبة لتوظيف الاعتمادات المالية الموضوعة رهن إشارتهم، واعتماد محاسبة تحليلية إلى جانب المحاسبة الميزانياتية والعامة، التي ستسمح بحصر مجموع أنشطة الدولة وممتلكاتها، وإنتاج معلومات محاسبية صادقة تعكس صورة حقيقية للوضعية المالية، من شأنها إعطاء مصداقية للمغرب لدى المنظمات الدولية المانحة. وهو الأمر الذي يمكن أن نعتبر معه أن القانون التنظيمي الجديد للمالية، يكرس توجها جديدا يجعل الفعل العمومي المالي أكثر قابلية واستجابة للمعايير المتقدمة في مجال شفافية قوانين المالية والميزانية وتجسيدا للجرأة في اتخاذ القرار السياسي، كما من شأنه أيضا بعث دينامية جديدة في طرق تدبير الشأن العام. غير أن إنجاح هذا القانون في بلوغ الأهداف المتوخاة منه، يتطلب انخراط جميع الفاعلين والمتدخلين، من وزارة المالية وباقي القطاعات الوزارية والمؤسسات العمومية الأخرى، في عملية تنزيل مضامينه على مستوى الممارسة بروح من المسؤولية والجرأة، فضلا عن إرساء نظام فعال للتتبع والتقييم من قبل الآمرين بالصرف والمحاسبين العموميين الذين يعتبرون مسؤولين بالدرجة الأولى عن ضمان احترام القواعد والمبادئ المحاسبية والتأكد من صدقية الحسابات، استعدادا لإرساء دعائم المحاسبة التحليلية في السنوات القادمة، بما يؤهل تدبير المالية العامة بالمغرب في ظل مستجدات القانون التنظيمي رقم 130.13 ، يجعلها تضاهي مختلف البلدان المتقدمة في هذا الميدان. أستاذة باحثة في القانون العام