(1) قبل سنوات قليلة خلت، لم تخف أستاذة جامعية إيرانية متخصّصة في الأدب الإنجليزيّ، دهشتها من وقوفها لتلقّي محاضرة في مؤسّسة بحثية أمريكية ذائعة الصيت تدعى «الصندوق الوطني للديمقراطي»(NED)، إذ كانت تخشى أن تنفر المؤسّسة وروادها من حديث قد يتركّز على روائيين على غرار جين اوستن مثلا. لكن بدا واضحا أنّ آزار نفيسي، المقيمة في الولاياتالمتحدة منذ 1997، قد بخست المؤسّسة وجمهورها حقّ قدرهما، ذلك لأنّهم توّاقون لسماع أيّ حديث، ليس عن جين أوستن ذاتها، ولكن عن كيفية قراءة الغرب ومنتجاته الثقافية في مجتمعها الإيراني حيث الهيمنة غير المشكوك فيها لرجال الدين. إذن رصيد آزار من الأدب الإنجليزي غير مهمّ على الإطلاق في هذا الصدد، فالمهمّ لدى المؤسّسة- التي كانت آنذاك منخرطة بشدة في معاونة إدارة أمريكية مشغولة بتصدير الديمقراطية إلى الشرق الأوسط- أن تسمع حديثا يردد المفردات التي عشقها الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش من عينة القمع والمصادرة وغياب الحرية والطغيان في بلدان الشرق الأوسط محاضرة آزار كانت في أبريل من عام 2005. أي في الوقت الذي تصدّر فيه الشرق الأوسط قائمة الأولويات الأمريكية. جرت المحاضرة في اللحظة التي تمكّنت فيها إدارة جورج بوش من إحكام السيطرة العسكرية على العراق، وبدت لوهلة وكأنّها تحقّق نصرا مؤزرا. فهذه مثلا أول انتخابات «حرّة» في تاريخ العراق تزيح الهيمنة السنّية وتأتي بتحالف شيعيّ موالٍ لواشنطن. كان المشهد وقتها آسرا للرئيس الأمريكي السابق، فقد تحدّى 8 مليون عراقي (نسبة 59% من إجمالي الناخبين) تهديدات أبو مصعب الزرقاوي وذهبوا إلى صناديق الاقتراع. مشهد خلب لبّ الرئيس الأمريكي ودفعه إلى أن يخرج على الناس قائلا : إنّ العالم يسمع صوت الحرية من قلب الشرق الأوسط. انتصارات الإدارة الأمريكية تخطّت الحدود العراقية. ففي لبنان جرى تحقيق نصر آخر باندلاع ثورة الأرز احتجاجا على اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري في 14 فبراير/شباط 2005، واحتجاجا على تحكّم دمشق في مجريات الأمور ببيروت. لم تجد سوريا لاحقا أيّ مخرج سوى سحب قواعدها كاملة من لبنان في 27 أبريل/نيسان من عام 2005. وفي مصر قفز مشروع المحافظين الجدد خطوة أخرى إلى الأمام حين نسب إليه الفضل في دفع الرئيس حسني مبارك إلى تعديل الدستور عام 2005 ليسمح بإجراء أوّل انتخابات رئاسية تعددية في تاريخ البلاد. في هذا السياق كان احتفاء «الصندوق الوطني للديمقراطية» بآزار. فهي سيّدة تنتمي إلى واحد من النظم السياسية التي يمقتها جورج بوش. والصندوق الوطني للديمقراطية كان سباقا في الاحتفاء بأولئك الذين يناوئون النظم التي تسبب صداعا للرئيس الأمريكي. منحت المؤسسة جائزتها السنوية للديمقراطية إلى الصحفيّ السوداني المعارض لنظام الرئيس البشير ألفريد تعبان. كما منحت الجائزة أيضا إلى الناشر المصري هشام قاسم، صوت ليبرالي مناوئ لنظام الرئيس مبارك. آزار في هذه المنظومة لم تكن سوى صوت يحتجّ على النظم الديكتاتورية في الشرق الأوسط، صوت يدعو الإدارة الأمريكية إلى فعل المزيد، صوت يؤكّد أنّ الشرق الأوسط مصيره الفشل الحتميّ لو لم يتدخّل جورج بوش. ترغب المؤسسة والإدارة في الإصغاء إلى حديث حول فشل المنطقة وإخفاقها. هذا ما وعته آزار تماما. فراحت توظف مفردة الفشل، قائلة إنّه بعد نحو ربع قرن من تغيير نظام الحكم في طهران فشلت «الثورة الإسلامية في تحقيق هدفها» المتمثل في خلق جيل جديد يرفع لواء ثورة «الإسلامية» Islamism في إيران وفي المنطقة. ومضت بعيدا لتفسّر ما حدث قبل ثلاثين عاما. حين أتى نظام الخميني للحكم، فعل مثلما تفعل كل الأنظمة الديكتاتورية. صادر الماضي من أجل تبرير الحاضر. قمع الخميني التاريخ وصادر الذاكرة. (2) عنوان محاضرة آزار السابقة الذكر كان «النساء والثقافة وحقوق الإنسان: حالة إيران». لا جديد في عناوين مثل هذه. فالحديث عن إيران الثورة وإيران ما قبل الثورة يستدعي دائما الحديث عن النساء. أو بالأدقّ قطاعات من نساء الطبقة الوسطى ممن ضقن ذرعا بالثيوقراطية على حدّ تعبير شهير لفريد زكريا. وحالة نفور النساء من نظام الملالي ليست جديدة. ففي الأشهر الأولى من عمر الثورة، أي قبل انتخاب أيّ رئيس أو صياغة دستور للبلاد، صادرت النخبة الجديدة من رجال الدين الماضي القريب. نبذوا التقليد الذي يعطي الحرية لتغطيه شعر رأس النساء أو كشفه، رافعين لواء فرض الحجاب كقانون. بعد ذلك حاولوا افتراس قانون الأحوال الشخصية، بتغيير السنّ الدنيا لزواج الفتيات من 18 عاما إلى تسعة أعوام! وعلى مدار سني الثورة، تعدّدت أشكال القمع ضد النساء. من الشرطة الدينية التي تراقب المساحة التي ينحسر فيها الحجاب عن شعر الرأس، إلى مؤسسة قضائية تحكم برجم النساء وصولا إلى صورة الفتاة ندى سلطان التي خرجت العام الماضي لتتساءل عن مصير صوتها الانتخابي فاستقرّت رصاصات الحرس الثوريّ في جسدها. عدّدت آزار على مسامع جمهور غربيّ عريض هذه المرّة أشكال هذا القمع حين ظهرت على شاشة برنامج «أخبار المساء في بي بي سي» يوم الاحتفال بيوم المرأة العالمي عام 2007. والاحتفال بهذا اليوم في إيران أضحي تقليدا في القبض على النساء. في ذلك العالم جرى القبض على مجموعة كبيرة من النساء اللاتي شاركن في هذه الاحتفالية. نساء إيران عند آزار هنّ العلامة الرمزية للاحتجاج اليومي في شوارع طهران. رفض التقيّد بالزيّ المفروض من الدولة مظهر من مظاهر الاحتجاج. والمخاطرة بالسير يدا بيد مع شابّ هنا أو هناك هو في نهاية المطاف تحدٍّ لهذه السلطة. وكان المطلب حتى وقت قريب تغيير قوانين الحضانة المتعسّفة التي تتيح للرجل أخذ الطفل الذكر ما إن يتجاوز العامين، والابنة ما إن تتجاوز الأعوام السبعة. لكن بعد الإضراب السياسيّ غير المسبوق الذي ضرب البلاد عشية إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية التي جرت العام الماضي، باتت النساء في أوضاع أشدّ قسوة ذلك لأنّهنّ أضحين ساحة معبّرة عن روح الانقسام لدى النخبة الحاكمة. احتجاجات الشارع لم تكن سوى مؤشّر على حجم التحوّل العميق الذي أصاب المجتمع والسياسة في إيران في ولاية نجاد الأولى. خلال هذه السنوات الأربع (2005-2009)، أعاد نجاد الاعتبار للممارسات الأولى التي حكمت السنين الأولى عمر الثورة الإيرانية، بمعنى : 1) تصعيد الخطاب الديني ضدّ المجتمع 2) عسكرة الخطاب السياسي ودفع فصيل الحرس الثوري إلى صدارة عملية التحكم شبه المطلقة في القرار السياسي 3) التعالي الجبري على الانقسام داخل قطاعات النخبة الحاكمة. فوز نجاد الكاسح لولاية ثانية وانحياز مرشد الثورة السافر له، أخلّ بالتوازن المعقّد بين الفاعلين السياسيين (قوى ومؤسّسات). ولأوّل مرة وجد مرشد الثورة نفسه في مربّع الخطر. كريستوفر ديكي، ألمع مراسلي النيوزويك، لم يخف شماتته في خامنئي، وهو يقدّم إحدى أفضل القراءات لإيران ما بعد الانتخابات. استعان ديكي بالتاريخ الإيراني لتفسير ما حدث. أو بمفردات آزار وظف الماضي الذي جرت مصادرته. الماضي عند ديكي مجرّد قصيدة يؤلّفها جيّدا مرشد الثورة عليَ خامنئي وردّدها كثيرا حين كان مجرّد رجل دين شابّ حديث التخرّج يتنقّل ما بين النجف ومشهد وقم. قصيدة «شتاء لمهدي أخوان ثالث،» التي كتبت عام 1956. هي «أقوى تعبير مجازي عن القمع» . ردّدها خامنئي حين طغي عليه اليأس من «الجوّ الضاغط والإحباط العميق» من نظام الشاه. تقول القصيدة : «النفَس الذي يخرج من صدرك/يتحوّل غيمة داكنة/ويقف مثل جدار أمام عينيك» . كان الجدار آنذاك الشاه، الآن أصبح الخميني ذاته. خامنئي حسب ديكي هو من تساهل مع أحمدي نجاد «الشخصية الأكثر إثارة للانقسام في البلاد». هذا الانقسام الذي عدّه فريد زكريا مؤشّرا على «سقوط الثيوقراطية الإسلامية في إيران». لم يكن زكريا يعني، سقوط النظام نفسه، وإن كان يتمنّى ذلك، كان يعني أنّ هناك حالة نفور من هذه الثيوقراطية وبموجبها فشلت الإيدلوجية الحاكمة التي منحت رجال الدين سلطة أخلاقية منبثقة من الله. روح الانقسام لم تكن وليدة اللحظة، لكنها كانت مسكوتا عنها. حاولت آزار أن تخترق المحظور وتكلمت في «أن تقرأ لوليتا في طهران : سيرة في كتب» الذي صدر عام 2003، وظل لفترة طويلة على قائمة أكثر الكتب مبيعا. إلا أنّ مساحة الصمت ظلت حتى بعد نشر هذا الكتاب أكبر من مساحة الكلام، خاصة أنّها تختزل في ذاكرتها الكثير مما يستحقّ قوله. حين سئلت آزار في برنامج أخبار المساء في بي بي سي ، «هل تفتقدين طهران»، جاءت إجابتها «افتقدها دائما… لذلك احتفظ بأفضل ما يمكن تقدّمه طهران وهو الذاكرة». (3) الذاكرة هي الفاعل الرئيس في كتابها الأخير «أشياء صمَتُّ عنها : ذكريات». في هذا الكتاب تغامر آزار بربط ذاكرتها الشخصية بذاكرة أمّتها. تبحث من خلال الذاكرتين عن المساحات التي يتلاقى فيها الشخصيّ والفرديّ مع العامّ والسياسيّ. في هذه المذكّرات تخترق آزار الخطوط الحمر التي تبقت بعد كتابها «أن تقرأ لوليتا في طهران». تعلن عداءها منذ الصفحات الأولي الواضح لنظام الملالي في إيران. لكنها لا تقع أسيرة الماضي، لا تظهر حنينا لبيئة ما قبل الثورة الإيرانية أو الزمن الذي سيطر فيه الشاه على مقاليد الحكم، فقط تريد إنعاش الذاكرة التي صادرها النظام الحاكم. وعبر صفحات الكتاب تحيا الذاكرة لتسقط المحظورات واحدا يتلو الآخر. تبدأ آزار القائمة بالمحظور المركزي، أي بالحديث عن الموتى الذين يقسمون عالمنا إلى اثنين. عالم الأحياء الذي نستسلم له في النهاية، وعالم الذين رحلوا تاركين لنا ألم الفقد. (ص xvii) «أشياء صمت عنها»، وفقا لآزار ، ليس سردا في عوالم السياسة والاجتماع ولا حتى سردا يجلب الموعظة عن حياة عائلية. إنها قصة حياة أسرة قدّر لها أن تشهد بعض مفارق التاريخ الإيراني الحديث في قرن من الزمان. جاءت جدّة نفيسي إلى العالم في أوائل القرن العشرين وإيران مجرّد ملكية مطلقة ومستبدة. كانت مشاهد قمع النساء هي القانون، كن يلزمن بيوتهنّ، وكان يحال بينهنّ وبين طلب العالم. لكن كان من حظ الجدّة أن تشهد، ما بات يعرف في التاريخ السياسي الإيراني بالثورة الدستورية 1905-1911، الثورة الأولى من نوعها في الشرق الأوسط والقارّة الآسيوية. حاولت هذه الثورة تقديم الغرب إلى إيران. رغبت في خلق نظام ثقافي واجتماعي وسياسي جديد. عرف الناس السينما وجرت كتابة نشيد وطني لأول مرة عهد مظفر الدين شاه قاجار وتمادت الثورة لتؤسس البرلمان (المجلس) وتدعو إلى تقييد الملكية المطلقة. هنا تستعير آزار بعض الكلمات التي كتبها مورجان شوستر(William Morgan Shuster)، المستشار المالي الأمريكي الذي عيّنه البرلمان الإيراني بهدف الإشراف على تنظيم الوضع المالي في البلاد. يكتب شوستر أنّه بحلول عام 1912 حقّقت المرأة الفارسية في فترة وجيزة نسبيا ما حقّقته النساء الغربيات في سنوات طوال (ص xix). هذه القفزة هي التي مكّنت جيل بنات الثورة الدستورية على غرار والدة آزار واسمها نزهت من أن يجدن أنفسهن خلال العشرينات والثلاثينات في واقع مغاير تماما عن ذلك الذي عاشت فيه الجدة. خرجت النساء إلى الحيز العام بالحجاب أو بدونه. وفازت الأمّ بفرصة التعلّم في مدرسة فرنسية. واندفع الإيرانيون نحو مزيد من الحريات الشخصية التي كانت تتمفصل ببساطة مع الوضع الطبقي. تعرّفت نزهت على زوجها الأول (صايفي) فى حفلة زواج شهدت رقصتهما الأولى معا. سلوك ما كان ليحدث قبل عقدين من الزمان. حادثة الرقص فردية بالطبع، لكنها جاءت في سياق فترة الثلاثينات التي حاول فيها رضا شاه بهلوي (تولّى الحكم من أواخر 1925 حتّى 1941) أن يسرع من وتيرة التغريب في البلاد، متلمّسا آثار جاره كمال أتاتورك الذي كان يعيش آخر سنواته في سدّة الحكم في تركيا. في عام 1936 أصدر بهلوي قرارا بسفور النساء وإلغاء الزي التقليدي للرجال أسوة بما فعله أتاتورك. خطوة لم تنجح على الإطلاق بفعل الانقسام المجتمعي الشديد جراء هذا القرار، الأمر الذي جعل بهلوي يتراجع عنه عام 1941. العقود اللاحقة التي شهدت ميلاد آزار كانت حبلى بتناقضات شتى. وجدت نزعة التغريب في الأسرة الحاكمة صدى مجتمعيا في سني الخمسينات والستينات. بات الحجاب موضة قديمة لدى الطبقة الوسطى الصاعدة. لم يكن هناك قرارات فوقية بنزع الحجاب مثلما حدث في منتصف الثلاثينات. لكن كان هناك تجاوب ما مع عملية التغريب توازي مع نفور واضح من حالة القمع السياسي الرهيبة التي هندسها نظام الشاه. وعلى مدار أجيال أربعة في أسرة آزار، كان التاريخ الإيراني انعكاسا لوضع النساء. ففي حين شهدت الجدة ميلاد أول ثورة تنادي بوضع دستور. عاصرت ابنتها قرار حظر الحجاب ثم جاءت آزار نفسها لتشهد حالة التغريب القصوى التي تزامنت مع قمع وحشي للسياسة وتنتهي القصة بالعصر الحالي الذي بدأ شخصيا عند آزار بميلاد ابنتها (نجار)عام 1984 لتجبر على ارتداء الحجاب بوصفه قانون الثورة والمعبر عنها. (4) هنا يبدأ ربط الخاص والعام عند نفيسي. تاريخ إيران القرن العشرين قد يغدو في النهاية صراعا على شعر النساء. أسرة حاكمة تقليدية تفرض الحظر كلية على النساء قبل أن تحاول أسرة حاكمة جديدة تخفيف هذا الحظر بهدف التقارب مع الغرب، ثم تعود الكرة من جديد على يد نخبة حاكمة هذه المرة (وليست أسرة) ترى في تغطية شعر النساء مؤشّرا للتمايز عن الغرب. لا تسعي آزار، كما تقول، في هذا الكتاب إلى عرض عامّ للأزمنة التاريخية بقدر لهفتها للبحث عن خطوط التقاطع الهشة ما بين الحدث العام وكيفية استقبال الأفراد لهذا الحدث وتفاعلهم معه(ص xx). تتذكر آزار الصعوبة البالغة حين بدأت في كتابة سطورها حول فلاديمير نابوكوف (1899- 1977)، والأزمنة المتباينة التي قرأت خلالها أعماله. لم تكن الصعوبة مجرد السياق الاجتماعي والسياسي الذي تعيشه إيران «الإسلامية» فحسب، بل كان هناك فكرة المخاطرة بالحديث عن الذات تحت مظلة نظام يرى في الخبرة الشخصية المكتوبة واحدة من المحرمات. في هذه اللحظة بدأت آزار تضع قائمة بالأشياء التي صمتت عنها. مساحة الصمت فى نظام الثورة الإيرانية أكبر بكثير من مساحة الحديث. وقائمة المحظورات تتسع باطّراد. في مقابل ذلك كانت هناك قائمة شخصية للأشياء التي لم يجر الحديث عنها : الوقوع في الحبّ مثلا، أو أن تذهب إلى الحفلات الراقصة في إيران، أو «أن تقرأ لوليتا في طهران». كانت آزار راغبة في خرق المحظور وكسر حاجز الصمت بالكتابة عن الشأن الخاص. والصمت عند آزار ليس فعلا واحدا. هو كما تقول مساحات متعددة وأنواع مختلفة. هناك صمت الشاهد الذي حبّذ السكوت وآثر تجاهل الحقيقة. وهناك الصمت المفروض من قبل أنظمة ديكتاتورية تسرق ذاكرة الأفراد وتعيد كتابتها جبرا، فارضة على الناس تاريخا وهوية تشجّعهما ولا ترضي بغيرهما بديلا. (5) ولدت آزار في محيط أسرة مفكّكة، تتمتع بثراء واضح وتتنوّع إسهاماتها في التاريخ الإيرانيّ لتشمل العمل بالسياسة وصنع الثقافة. أبوها عمدة طهران أحمد نفيسي وأمّها نزهت عضو البرلمان الإيراني قبل الثورة. لم تذكر في الكتاب العام الذي ولدت فيه. وعلى مدوّنتها الخاصة امتنعت عن كتابته أيضا. لكن على أية حال تلقت آزار تعليمها في مدارس طهران قبل أن يقرّر والدها أن تستكمل دراستها في سنّ صغيرة في بريطانيا. سافرت إلى الولاياتالمتحدة وحصلت من هناك علي رسالة الماجستير ثم حصلت لاحقا على شهادة الدكتوراه في عام من «جامعة أوكلاهوما». عادت نفيسي إلي إيران سنة 1979، حيث درّست الأدب الانجليزي في جامعة طهران. وبسبب نفورها من التدخلات في عمل الجامعة مكثت في البيت فترة قبل أن تقرّر الهجرة إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية سنة 1997. تشغل آزار الآن منصب محاضر زائر في «معهد السياسة الخارجية» بجامعة جون هوبكنز، كما أنها عضو في «مجلس أمناء بيت الحرية». «Freedom House». ألفت آزار عدة كتب آخرها «أشياء صمت عنها» وهو كتاب كبير نسبيا يقع في 337 صفحة. ويحوي بين جنباته حوالي 70 صورة فوتوغرافية للحظات أسرية خاصة وسياسية عامة. قسمت آزار الكتاب إلى أربعة أجزاء تغطي الأجزاء المفصلية من حياتها ومن حياة أمتها في القرن العشرين. قسمت الأجزاء إلى فصول بلغت في مجملها 31 فصلا، ذيلتهم لاحقا بأربعة ملاحق صغيرة. وضعت التنويه في النهاية بديلا عن البداية وهو نفس التقليد الذي فعلته في «أن تقرأ لوليتا في طهران». ثم أعدت ملحقا آخر يضمن مجموعة من الكتب الأدبية من شعر ورواية ارتبطت بذاكرتها وهي تكتب «أشياء صمتّ عنها» ، علاوة على ملحق يتضمّن سردا تاريخيا للمحطات الأساسية في التاريخ الإيراني الحديث وأخيرا صيغة جذابة لعرض التنويه وشكر من ساعدوا في إخراج هذه المذكرات إلى النور. (6) تعيد آزار في الجزء الأوّل بفصوله السبعة وصفحاته الستين، اكتشاف الأسرة والمحيطين، تبدأ هذا الجزء للغرابة بفصل عن زوج أمها الأول «صايفي»، تضمّن عددا من الصور الفوتوغرافية التي تجمع ما بين صايفي وأمها. في الفصل التالي اللقاء الذي يجمع ما بين الأب الحنون (أحمد نفيسي) والأم الغاضبة (نزهت). تشرح آزار إسهام والدها، لكن ليس السياسي، بل الثقافي. نشر أحمد نفيسي في أوائل التسعينيات ثلاثة كتب للأطفال ، منها «الشاهنامه». (ص 14). جنت آزار من «الشاهنامه»، كما تقول، مكسبا مزدوجا. فقد كان المصدر الذي استقت منه في البداية معني أن تكون «إيرانيا»، فضلا عن كون الكتاب مدخلا إلى عالم الأدب، أي العالم الذي لا يمكن أن تتلصص أو تتحكم فيه الأم المتسلّطة. في «الشاهنامه»، الدرس الأول في تعريف إيران، أخذ أبو القاسم الفردوسي (935–1020) على عاتقه مهمة التذكير بالأمجاد الإيرانية القديمة. ولاقت هذه المهمة صدى عند القوميين الإيرانيين في القرن العشرين الذين حاولوا توهّم تاريخ خطّيّ يجمع ما بين لحظات الصعود والتوسّع الفارسي ولحظات الانحسار والانهيار. ارتبط التاريخ الإيراني حسب نظرة أحمد نفيسي بسلسلة متوالية من غزوات العرب والمغول واليونان والرومان، لكنّ الثورة الإيرانية احتفظت بكونها أسوأ هذه الغزوات، ذلك لأنّ العدوّ الذي عامل الإيرانيين على أنهم مجرّد رعايا للقوات الغازية جاء من الداخل هذه المرة(ص 17). «علمنا أبي أن رافدا كبيرا من القومية الإيرانية تأسّس على مشاعر العداء للعرب»، هكذا تكتب آزار (ص 17). في الجزء الثاني من الكتاب ينفتح العام على الشخصي أكثر فأكثر، ندخل معترك السياسة الفعليّ. العائلة كانت حاضرة وفاعلة في صنع الحياة السياسية والفكرية لإيران قبل الثورة. تتحدث آزار عن الأب أحمد نفيسي الذي كان عمدة طهران وأمّها نزهت التي كانت من أوائل النساء ممن دخلن البرلمان الإيراني. تغفل ذكر مؤدب نفيسي الطبيب الخاص لرضا بهلوي، وابنه السياسي حبيب نفيسي. تكتب كثيرا عن عمّها سعيد نفيسي، الاسم الأبرز ثقافيا في هذه العائلة. ولسعيد نفيسي بعض الألفة في العالم العربي. فقد ترجمت بعض أعماله حول التصوّف الإيراني إلى اللغة العربية. وأخبرتني صديقة إيرانية أنّه سبق أن درس في جامعة القاهرة. يحوي هذا الجزء من المذكرات ستة فصول تبدأ من مغادرة آزار لطهران وسفرها لبريطانيا، وتنتهي بفصل عن بروفة للثورة. في هذا الجزء ترسم آزار بعض الصور القلمية لشخصيات أثّرت في محيطها الأسريّ الصغير مثلما أثّرت في محيط إيران الكبير. هناك أوّلا «د. باراساي» والإشارة هنا إلى الشخصية التاريخية الإيرانية فرخرو بارسا (1922-1980)، أوّل وزيرة في التاريخ الإيراني وواحدة من أوائل النساء من دخلن البرلمان. كانت فرخرو متحدثا قويا باسم حقوق وحريات النساء (على غرار أمّها التي كانت من أوائل من تحدّثوا عن حقوق النساء في تاريخ إيران). لاحقا وبعد محاكمة صورية أعدمت فرخرو على يد الثورة الإيرانية بتهمة الفساد في الأرض ونشر الدعارة! (ص 68) فرخرو، صديقة أسرة نفيسي، هي صاحبة الاقتراح بأنّ على أحمد نفيسي أن يرسل ابنته آزار لاستكمال دراستها في الخارج فذلك أصلح لها. وهناك صورة قلمية طويلة نسبيا لسعيد نفيسي (1896-1966) الذي سلفت الإشارة إليه. في أقلّ من أربع صفحات تقدم آزار صورة بانورامية عن الرجل الذي عاصر وهو طفل أجواء الثورة الدستورية في البلاد. أسس سعيد في أوائل عشرينات القرن الماضي مع مجموعة من زملائه من المثقفين والكتاب منتدى لنشر الدعوة إلى إيران ديمقراطية. نشر هؤلاء مجموعة من المطالب السياسية والثقافية والاجتماعية التي تترواح ما بين إلزامية التعليم، وإلغاء الامتيازات الأجنبية، الدفع في اتجاه تعزيز حقوق النساء، أي باختصار العمل على ما أسموه «تبني الجوانب التقدمية في الحضارة الغربية».(ص ص 72و73). لاحقا وبعد تثبيت الثورة الإيرانية أقدامها وتصعيد رجال الدين بوصفهم المتحكمين في الأمر، ستعود آزار إلى سعيد نفيسي كي تلتمس في كتاباته، بعد فوات الأوان، تحذيرا واضحا حول الدور الرجعيّ الذي يمكن لبعض رجال الدين أن يلعبوه. صورتا فرخرو وسعيد ليستا الوحيدتين في ذاكرة آزار. هناك أيضا نقل لحديث والدها الذي لم ينقطع عن صعود وهبوط الشخصية الإيرانية الأبرز ما قبل الثورة (إلى جانب الشاه) وهو رئيس الوزراء محمد مصدق الذي تولّى الوزارة عام 1951 قبل تنحيته بمؤامرة سيّئة السمعة من قبل بريطانياوالولاياتالمتحدة والشاه عام 1953. أقدم مصدق في خضم أزمة سياسية غير مسبوقة على تأميم شركة النقط الإيرانية، خطوة أفزعت القوى الغربية القلقة من تصاعد الخطاب المناوئ للغرب الذي يردّده القوميون الإيرانيون وكذلك حزب تودة (الشيوعي المدعوم من الإتحاد السوفيتي). واحد من الأسباب التي تسوقها آزار لفشل تجربة مصدق كانت في انتهازية بعض رجال الدين الإيرانيين. المثال الأبرز على هذا كان في الشخصية الدينية الأبرز في البلاد آنذاك أبو القاسم مصطفوي كاشاني(1882-1962) معلم آية الله الخميني. تمتع كاشاني بشعبية كبيرة وسط الإيرانيين لخطابه الذي يجمع ما بين الدين ومناهضة النفوذ الغربي. استغل رجوعه من المنفى بعد خلاف حادّ مع الشاه ليساند مصدّق قبل أن يضع نفسه في خدمة الشاه وينقلب على مصدق ذاته، وليعمل على تبرير الفترة العسيرة التي قضاها مصدق في السجن ثم الإقامة الجبرية. بعد ثلاثة عقود من الزمان تكرر صراع زعامة الخمسينات ما بين كاشاني ومصدق، لكن بين تلاميذهما هذه المرة. فحين أجبر الشاه على اختيار رئيس وزراء ليهدئ من الإضراب الذي بدأ يعم البلاد في عام 1978 لم يجد سوى أحد تلامذة مصدق، أي شاهبور بختيار ليكون رئيسا للوزارة. قرار رفضه الإيرانيون الذين فضّلوا تلميذ كاشاني، آيه الله الخميني، ليس كرئيس للوزراء لكن كحاكم أعلى لا يردّ له قرار. أبدى الخميني أولى ملكات الإدارة والقيادة في حركة الاحتجاج الواسعة عام 1963 (انتفاضة 15 خرداد) التي سحقها بلا رحمة أسد الله علام (تولى رئاسة الوزارة من 1962 حتى 1964). (7) على ذكر هذه الانتفاضة، تطرح آزار بعضا من ملاحظاتها الانطباعية حول قوة المؤسسة الدينية في إيران. فقبل الثورة الدستورية لم يقتصر دور رجال الدين على التحكّم في النظام القضائي، وإنما فرضوا على الناس كذلك الطريقة التي ينبغي بها النظر إلى العالم. (ص 116). لا تثير قوة المؤسسة الدينية ونفوذها انتباه آزار بقدر ما تثيره الطريقة التي تغلغلت بها الأفكار العلمانية في البلاد والتي كانت تهدّد قوّة ونفوذ هذه المؤسسة. وعلى هذا فمراحل تاريخ إيران في القرن العشرين يمكن في مثل هذا السرد أن تقرأه كمتتالية صراعية في القلب منها ليس السياسة فقط بل الإيديولوجية والثقافة. بدأت هذه المتتالية بالثورة الدستورية في العقد الأولي رغبة في تحديث البلاد، ثم فترة اضطراب سياسي في منتصف القرن بقيادة مصدق، قبل أن يتمحور الصراع حول سلطة رجال الدين وأدوارهم في عام 1963 حتى قيام الثورة الإيرانية في عام 1979. الثنائية الظالمة حسب آزار كانت في وضع الشاه في كفّة ورجال الدين في كفة أخرى. الشاه بوصفه ممثل التغريب ورجال الدين بوصفهم ممثلي الأصالة. ذلك لأنّ الثنائية الحقيقية كما تطرحها آزار هي الصراع ما بين أنصار التحديث وأعدائه. كان التحديث حقيقة في إيران قبل محمد شاه بهلوي وقبل أبيه أيضا رضا بهلوي. كان الصراع على حقوق النساء وحقوق الأقليات واضحا منذ نهاية القرن التاسع عشر. ما نجح فيه الخميني كان في الربط بين القمع السياسي والسيطرة الغربية. نبذ التغريب عنده كان صنوا لنبذ القمع السياسي. مأساة إيران، حسب الخميني، كانت في حياة التغريب التي يقودها الشاه. حاكم البلاد ينفر من الحجاب ويعشق حياة الليل ومولع بتربية الكلاب. هكذا جرى اختزال صورة التحديث عند الخميني وأنصاره. لم يقف محمد شاه بهلوي مكتوف الأيدي أمام تصوّرات الخميني. ردّ بسطحية مماثلة. صوّر نفسه رائدا التحديث ومدشّنا ما يسمّى ب»الثورة البيضاء» (ما يعرف في التاريخ الإيراني ب انقلاب سفيد). تضمنت هذه «الثورة» اسميا مجموعة من الإجراءات السياسية والاقتصادية والثقافية. منها توزيع الأراضي على الفلاحين (رغبة في الحصول على دعم قطاعات ريفية لتوازن حالة تذمر الطبقة الوسطي)، فضلا عن منح حقوق التصويت والترشيح للنساء، ووضع برنامج طموح للقضاء على الأمية، علاوة على منح العمال بعض الحقوق (درءا لأخطار من تبقّى من الشيوعيين الذين سحقهم مع مصدق). عارض الخميني هذه الثورة، ليس بسبب خواء مضمونها الاجتماعي كما حذرت بعض الأصوات القومية واليسارية، لكن بسبب تضمنها القيم التي اعتبرها الخميني في خطاباته المناوئة للشاه أعمالا شريرة تناقض مبادئ الإسلام على غرار منح النساء حقّ التصويت والترشيح للبرلمان أو منح بعض الحقوق للأقليات الدينية. وأيّ نظرة سريعة للغاية على أرشيف الصحف الأمريكية أو البريطانية التي غطت هذه الفترة سنجد حالة الإعجاب الشديد بالشاه. وفي الفيديوهات القصيرة التي صوّرتها بعض وسائل الإعلام الأجنبية استعراض عامّ لأشكال التأييد والحشود، فضلا عن لقطات تصوّر سجود بعض الفلاحين للشاه (بالمعنى الحرفيّ لكلمة سجود) لدى منحهم بعض عقود الأراضي الزراعية. بعد 16 عاما فقط من هذه الصور ستخرج الحشود مرة أخرى ولكن لتحرق صور الرجل الذي كانت تسجد له. (8) في صيف عام 1963 الدامي، قرّرت نزهت خوض انتخابات البرلمان مع خمس نساء أخريات. كما قرّر الوالدان إرسال ابنتهما آزار إلى جنيف. وفي الخامس من يونيو/حزيران في هذا العام بدأ المخبرون السرّيون يكتبون الصفحات الأولى في ملفّ أحمد نفيسي المشكوك في ولائه للشاه والذي يعتقد بوجود علاقات تربطه ببعض رجال المعارضة. بعد ستة أشهر من تاريخ كتابة أول ورقة في ملفّ الأب، بدأت اللحظة التي ستغيّر بموجبها مسار الأسرة كلها حيث جرى إلقاء القبض على أحمد نفيسي. خدم اعتقال نفيسي الأب جميع الأطراف ربما. فقد وفّر فرصة لآزار حتى تقبل الزواج وتهرب من بطش أمها. ووفر للأخيرة فرصة كي تتفرغ للانتخابات ودخول البرلمان. أما أحمد نفيسي ذاته، فقد ضمن له هذا الاعتقال أن يحتفظ بحياته بعد الثورة، وألا يكون من بين المئات الذين قتلوا بعد محاكمات سريعة وغامضة على غرار ما حدث لفرخرو بارسا. لم يدم زواج آزار طويلا. والأسباب تقليدية للغاية. رفضها لتوزيع الأدوار النمطية للرجل والمرأة. إذا توفّر لرجل الشرق الأوسط الذهاب إلى الغرب فإنه يرافق النساء. حقّ غير ممنوح للمرأة التي تأتي من نفس المنطقة. لكن في الزواج يختار هذا النوع من الرجال الارتباط بعذراء من بلاده. هذه هي خلاصة الاختلاف كما ترويها آزار. أما زوجها الثاني، بيجان نادري، فقد كان مختلفا. كان يعيش في الولاياتالمتحدة وهو يتنفس السياسة الإيرانية. كان منغمسا في السياسة كحال أسرتها في ظهران. كان قائدا طلابيا معارضا لنظام الشاه. بعد فترة خطوبة قصيرة جرت مراسم الزواج في الولاياتالمتحدة والذي حرصت الأم (نزهت) على أن يخرج إيراني الطابع. وبعد أسبوعين من الزواج ترك بيجان عروسه وطار إلى باريس للحديث مع قيادات طلابية هناك بخصوص الانفجار الذي يعمّ البلاد في ذلك العام (أي عام الثورة). تحكي آزار عن هذا العام. تسرد بعض التفاصيل عن مكتب حقوق الإنسان الذي أسسه جيمي كارتر وأثر ذلك على حركة المعارضة الإيرانية (ص 209). آزار لا تخفي هذا التأثير حين تعدّد مظاهر احتفاء قطاع من المثقّفين الإيرانيين بخطوة كارتر مثل تأسيس لجنة حقوق الإنسان في طهران ذاتها لتدعو إلى احترام القيم التي دعت إليها لجنة كارتر. كما تعدد بعد ذلك نموذج المطالبات العلمانية للشاه بتطبيق الدستور وتقييد النظام الملكي. «القوي العلمانية هي من بادرت بالاحتجاج» هكذا تكتب آزار في السطور التي تحمل نقدا للذات(ص 210). لكن أخطأت هذه القوى في عدم تقدير الخميني حقّ قدره. رأت قطاعات المثقفين في الخميني تهديدا للشاه لذلك لم يمانعوا من دعمه. رحّبوا ببلاغته الطنّانة عن الإمبريالية. صدّقوا أنّه بعد عودته إلى إيران سيعكتف للعلم والعبادة في قم ويترك شئون السياسة. كل هذه الأوهام كانت ضد الوقائع الفعلية. الرجل كان واضحا في دعوته لحكومة ثيوقراطية أي سلطة محكومة برجال الدين مثلما عبّر عنها في كتابه «ولاية الفقيه» الذي ظهر لأول مرة عام 1970. رفض الخميني في الثورة البيضاء منح النساء حقّ التصويت (شبّهه بأنّه شكل من أشكال الدعارة). سبق له أن نطق بآراء تحقّر من الأقليات خاصة البهائيين واليهود. عند هذه اللحظة في المذاكرات تعود آزار إلى «العم سعيد» أو سعيد نفيسي وجيله. كان هذا الجيل الرائد ثقافيا، كما تكتب نفيسي، واعيا للدور الرجعي لبعض رجال الدين. كثير منهم سخر من الممارسات السلبية لبعض رجال الدين، فكتبوا عن رجعيتهم وتخلفهم ونفاقهم. كانت كتابات هذا الجيل في يدي الثوار الشباب، لكن غشت أعينهم اللحظة التي وجدوا فيها عرش الشاه يتأرجح. تحكي آزار مقتطفات من هنا وهناك. حول الضغط الشعبي. إبان وجودها في الولاياتالمتحدة وفي الوقت الذي عمت فيه الاضطرابات مدن تبريز وقم عام 1978. في حفلة بنيويورك شارك فيها بول سويزي وهاري ماجدوف محررا المجلة اليسارية الأمريكية الشهيرة Monthly Review. اقترح سويزي أن يشرب الحاضرون في صحّة «أول ثورة عمالية حقيقية». قبلها نظم الطلاب الإيرانيون مظاهرة ضخمة مناوئة للشاه لدي زيارته للبيت الأبيض في 15 نوفمبر/تشرين الثاني 1977. بعد أقل من عام ونصف على هذه المظاهرة غادر الشاه إيران في 16 يناير/كانون الثاني 1979. وقبل مغادرته وبهدف تخفيف سخط المعارضة عيّن شاهبور بختيار-واحدا من تلامذة مصدق القدامى. أنتجت هذه الأحدث رؤى متصارعة حول مستقبل إيران. هنا يتداخل الخاص مع العام عند آزار. إيران تموج بتحولات ضخمة، يتفق الزوجان أزار وبيجان على طبيعة هذه التحولات. لكنهما يختلفان في رؤية المستقبل. تنقل لنا آزار مشهد المناقشة العاصفة التي دارت بينها وبين بيجان. لم تكن المناقشة عالية الصوت، لكنها كانت عبارة عن لحظة يبدو فيها طرفا أي علاقة وكأنهما على طرفي نقيض. جاء الحوار يعد فترة توتر. ألم تعترف هي ذات مرة بعد علاقتها الفاشلة من زواجها الأوّل «أنّ العلاقات (العاطفية) لا، وربما لا ينبغي لها أن، تدوم» (ص 201). رأي بيجان أن على القوي الديمقراطية أن تصطفّ حول بختيار فهو ديمقراطيّ حقيقيّ. رفضت آزار هذا المنطق فبختيار في نهاية المطاف رجل الحلول الوسطى وآخر ما تحتاجه إيران في ذلك الوقت هو الحلول الوسط. إيران حسب آزار كانت على أعتاب مرحلة يودّ الجميع أن تكون منبتّة الصلة بتراث الشاه. ساهمت هذه الخلافات في وجهات النظر في خلق مسافة كانت كفيلة لأن تدفع آزار إلى أن تطلب الطلاق (الذي لم يحدث). أثبتت الأيام لاحقا- كما تقول آزار- صحّة ووجاهة الرأي الذي تبنّاه بيجان. (9) في صيف عام 1979 عادت آزار وبيجان إلى طهران المشتعلة بالثورة. كانت هناك بعض الأخبار الجيدة نسبيا. فمحاكم الثورة لم تعدم أو تسجن أيّا من والديها بوصفهما من عناصر النظام القديم. فقط كان على أمّها أن تعيد ما تحصلت عليه من راتب إبان عضويتها في البرلمان. لم تكن بوصله الثورة في هذه اللحظة قد حدّدت وجهتها الأخيرة. الأب أحمد نفيسي كان يحدوه الأمل في أن ينجح مهدي بزركان زعيم حركة ليبرالية قديمة هي «حركة حرية إيران» وأول رئيس وزراء ما بعد الثورة في أن يتخلص من الطغاة علي الجانبين أي رجال الدين ورجال الشاه ويجمع حوله الأصوات المعتدلة. كانت الأم نزهت لا تزال أسيرة الإعجاب بالخميني وبالملايين التي خرجت لتحيّته حين وصل إلى طهران من منفاه الطويل. لكن بعد فترة ليست بالطويلة بات الخميني هو عدوّ نزهت والأسرة كلّها. فبعض أصدقاء الأسرة من صحفيين وأكاديميين وسياسيين راحوا ضحية أعمال القتل الانتقامي التي نفّذها رجال القائد الجديد. وسرت كالنار في الهشيم أنباء المجازر التي ارتكبها رجاله بحق المثليين جنسيا والعاهرات والبهائيين، والتي طالت حتى الناس العاديين ممّن انفلت لسانهم وانتقدوا الخميني(ص 225). تسرد آزار سلسلة بهذه الأحداث التي عايشتها. باتت إيران جمهورية إسلامية عقب استفتاء الأوّل من أبريل/نيسان عام 1979. وتحوّل الخميني إلى القائد الأعلى للبلاد في ديسمبر/كانون الأول من نفس العام، وما بين الحدثين جرى احتلال السفارة الأمريكية في طهران. العام اللاحق حمل نوعا جديدا من المواجهات. بدأت الحرب العراقيةالإيرانية التي وصفتها بأنها نزاع بين حكومتين تسعيان للقبض على مقاليد الحكم. كانت الحرب بالنسبة للخميني أفضل وسيلة للقفز على الانقسام الداخلي وسحق أيّ نوع من أنواع المعارضة (ص 228). تصل آزار هنا إلى النقطة التي بدأت فيها حياتها الجامعية. تروي أنها استهلت حياتها الأكاديمية في جامعة طهران وكلية للبنات كانت تسمي فرح بهلوي-زوجة الشاه- قبل أن تحوّلها الثورة الإيرانية إلى كلية متحدين (إشارة إلي محبوبة متحدين عضوة منظمة مجاهدي خلق التي قتلت بيد رجال الشاه). لكن بعد انقضاء شهر العسل ما بين مجاهدي خلق والخميني جرى تغيير اسم الكلية إلى الزهراء (نسبة إلى السيدة فاطمة بنت النبي). فترة التدريس القصيرة لدى آزار كانت تتسم بتحركات ما بين النشاط الطلابي الضخم الذي كان يعصف بطهران، ونشاط تدريسي عارم لأيقونات الأدب العالمي في رحلة قصيرة للبحث عن الحرية والديمقراطية في إيران. لكن هذا النشاط توقف كلية حين جاءت تعقيبات الخميني في مارس من عام 1980 بخصوص الجامعات. اتهم حاكم البلاد الجديد الجامعات بأنّها مكان تواجد عملاء الإمبريالية الغربية (ص 230). بعد نحو ثلاثة أسابيع على تعقيبات الخميني(18 أبريل 1980)، خصص على خامنئي (المرشد اللاحق) خطبة الجمعة للحديث عن الجامعات ووجه كلامه بالنقد والتحقير لأسلوب التدريس الحالي في هذه الجامعات. «إننا لا نخشى العقوبات الاقتصادية ولا التدخلات العسكرية»، هكذا تقتبس آزار من خطبة خامنئي الذي يتابع «ما نخشى منه هو الجامعات الغربية وأسلوب تدريس شبابنا الذي يخدم مصالح الغرب أو الشرق». عند هذه النقطة بدأت خطوات ما يسمي ب «الثورة الثقافية» الإيرانية. أغلقت الجامعات لمدة ثلاث سنوات بهدف طرد الأساتذة ممن يخالفون نهج الثورة وتنقية المناهج ثم حظر كتب بعينها. هذه هي المرحلة القاتمة التي حكت عنها آزار. أنهكت حالة العنف الدموي التي شنها نظام الملالي حركات المعارضة. واستغل النظام الحرب مع العراق لتصفية ما تبقي من جيوب الاحتجاج. هنا بالتحديد بدأت المرحلة الجديدة. المرحلة التي لم تغادرها إيران بعد. مرحلة مصادرة الماضي وإلغاء الذاكرة. (10) في العشرين من أبريل لعام 2005 ألقت آزار نفيسي محاضرتها عن «النساء والثقافة وحقوق الإنسان: حالة إيران»، في «الصندوق الوطني للديمقراطية». وبعد خمس سنوات وبالتحديد في يونيو/حزيران الماضي وقفت آزار مجددا لتلقي كلمة بمناسبة حصول الحركة الخضراء في إيران على جائزة المؤسسة لعام 2010. في هذه الكلمة الأخيرة تحدّثت آزار عن إيران المعاصرة. إيران التي خرجت إلى الشوارع لتحتج على تزوير الانتخابات. إيران التي دفعت العالم كي يسمعها وينظر إليها. إيران محاضرة نفيسي في 2010 مختلفة عن محاضرة 2005. قبل خمس سنوات كان تقاوم مصادرة الماضي، الآن أصبحت تقاوم مصادرة الماضي والحاضر.