هل يمكن لشتاء أن يرحل صيفا؟ لم يكن الراحل عبد الحميد بن داوود يدرك أنه حين كتب مُلَخٍّصا اضطرام الفصول واشتعال العشب والماء في روحه الشاعرة: «أنا كل هذا الشتاء» أنه سيحزم حقائب النفس الأمارة بالشعر وبحب الحكمة ويغادر في عز الصيف بأناقة الشعراء وهدوئهم وهم يستقبلون حياة ممتدة في صمت الأبدية. ظل الشاعر الحكيم عبد الحميد بن داوود، يعتصر ألمه الداخلي في أنفة النبلاء، محافظا للحياة على نسغها داخله، وللضحكة الملغزة التي تقطر دمعا، وإن تدثرت بلغة ساخرة، على سحرها الى أن رفرفت على روحه سكينة الموت التي استقبلها بحفاوته المعتادة. كان كريما مع الموت، سخيا وهو يمد اليد لمصافحته وكأني به ابتسم ابتسامته المعهودة بعد أن ترقرقت الخضرة في عينيه على فراق الأحبة والصحب. في هذا العدد الذي خصصناه لروحه، نبض بعض هؤلاء الأحبة والاصدقاء ممن قاسموه ضحك الحياة قبل أن تمسك بيده وتغلق بابها.
حسن بحراوي: كان قد ولد أواخر الخمسينات في أعالي هضاب تازة وبها ترعرع، وقاد وهو صبي تيوس القبيلة إلى الحقول واصطادَ العصافير قرب الغدير وطارد أسراب الفراشات وشوى الذرة عند حافة البئر..ثم نزل مع النازلين عند يفاعته إلى ظهر المهراز ليدرس الفلسفة حتى يبقى قريبا من موقد الفكر ويتمرّن على سرقة النار من محراب الآلهة..
عزيز أزغاي: أكاد أزعم أن ما كان يقوي من مناعة الرجل في تحمل كل أشكال الخذلان والخسارات التي راكمها، إن في مسيرته المهنية أو الشخصية، كونه اكتشف في عالم التصوير والألوان ومصاحبة المواد والخامات التشكيلية، متنفسا رحيما لإفراغ فائض الشحنات السلبية التي كانت تملأ قلبه ووجدانه. فأغلب قرائه لم يكونوا على علم بأن صاحب « كتاب التشظي « كان صاحب ثقافة بصرية معتبرة، إن في شرطها النظري أوفي جانبها التطبيقي.
إدريس علوش: حسم عبد الحميد بن داوود الكائن والمبدع والصحفي والكاتب والشاعر و الانسان والفيلسوف وصديقي إلى غير ذلك من صفات أنداده، مبكراً رزم أوراقه عن الوجود واقعا ومعرفة وتجربة وفكرا، نظف الطويلة جيدا وألقى بالزوائد في سلة المهملات. وخرج إلى الحياة إلى أن خرج منها إلى دار البقاء والاستكانة الأبدية كما يقال.
محمود عبد الغني: في سنة 1992 كتبت قصيدة نثر صغيرة ووضعتها في غلاف، ثم أرسلتها عبر البريد إلى الملحق الثقافي ل»جريدة الاتحاد الاشتراكي». كان يوم اثنين مشمس، وكنت أنا فتى مفعماً بالحماس والأمل. منذ ذلك اليوم الجميل وأنا انتظر نشر قصيدتي في الملحق الثقافي. لكن ذلك لم يحدث إلى أن أخبرني الفنان التشكيلي عبد الله بلعباس أنه قرأ لي قصيدة نثر جميلة في الصفحة الأخيرة، عدد يوم سبت كما أذكر. تلك هي القصيدة التي عرفتني ببنداوود