…هل يعيش العالم العربي الزمن الراكد؟ هل ستظل قضايانا هي نفسها لتعمّر طويلا ؟ هل سيظل حالنا على ما كان عليه إن لم يزدد سوءا ؟ هل سنظل نعوّض واقعنا بآخر لا نعيشه إلا على مستوى الوهم ؟ ففي الوقت الذي تعيش فيه الأمم الأزمنة المفتوحة على الأسئلة الجديدة والقضايا المستجدّة مواكبة للعصر، تظل أمتنا تتخبّط في نفس القضايا غير عابئة بتحولات الزمن. من هنا تأتي راهنية كتاب إبراهيم عبد العزيز « أوراق مجهولة للدكتور طه حسين « ، والتي جمعها وأعدّها عن «أحاديث رمضان» التي كان العميد قد نشرها متتابعة بجريدة «الجهاد» خلال شهر رمضان من سنة 1354ه، الموافق للتاسع والعشرين من نونبر 1935م . فمن أحاديث رمضان» إلى «أوراق مجهولة للدكتور طه حسين» انبسط الجدال والحجاج والسجال بين مؤيد ومعارض ، بين مدافع ومهاجم ، بين بارّ و عاق ، فأسالت الأحاديث ، كما الكتاب ، مدادا كثيرا ، وما كان لها أن تثير الزوابع لو لم تكن صادرة عن صاحب « على هامش السيرة « و» في الشعر الجاهلي « الذي ملأ الدنيا وشغل الناس ، ولو لم تكن قد وضعت الأصبع على الجرح حتى في الأمور التي نعتقد واهمين أنها أمور عابرة و تافهة ، فمن البسيط إلى المركب تنبسط محنة أمة … هي الجراح الغائرة التي خلّفت ندوبا، فجاءت هذه «الحواشي» بين الجراح والندوب تحتجّ على خيبات الزمن الراكد. «…كان لديّ انجذاب شديد لطه حسين. وأنا مدين لهذا الرجل في الإحاطة علما بأن أي شيء وكل موضوع قابل للمطارحة. لم يكن طه حسين يهادن أحدا. كانت الأساطير والأصنام قبله محتفظة بتماسكها وصلابتها. وكان يكشف تهافتها بمعنى من المعاني. لم يبق ثمة بعد طه حسين أي شيء قابل للإعجاب ولَم يعد ثمة وجود لأبطال. كان يساورني انطباع وأنا أقرأ طه حسين بأنني اكتسب ذكاء وألمعية»ع. كليطو … ماكان لهذه الحواشي وكل هذا التداعي الحرّ أن ينبعث نقدا لظواهر تفشّت في واقعنا، وعمّرت حتى ألفناها وألفتنا، وأصبحت جزءا من كياننا، ولبنة من بنية عقلنا العربي، لو لم يكن صاحب فتيلتها الأولى، وأساس انبثاقها، عميد مكفوف ملأ الدنيا وشغل الناس، بروحه النقدية، وبحسّه المفرط، وبقدرته الفائقة على التفكير العميق في مآل أمة راكمت بعده آلاف الخيبات، ولم تعمل على درئها، وهو الذي عمل على استشراف مستقبلها، وكأني به منذ مطلع القرن الماضي تنبأ بهزائمنا، بانكساراتنا، بخيباتنا، والتي نحن إلى الآن عليها سائرون …كما لم يكن ل»أحاديث رمضان» أن تثير كل تلك الأفعال وردودها، لو لم يكن صاحبها بسيطا في تناولها، يسيرا في قراءته لها، يخالف المعهود في مثل هذه الأحاديث الرمضانية والتي عادة ما ينهج فيها أصحابها منطق الوعظ والإرشاد من منابر عاجية لا تحس بما يعيشه فعلا الإنسان البسيط في حبّه للوطن حتى في غيّه، وما يكابده يوميا في صراعه من أجل لقمة عيش شريفة، وفي كدحه اليومي من مطلع الشمس إلى مغربها من أجل حفاة عراة، زغب الحواصل لا ماء ولا شجر . وكأني بهؤلاء الوعّاظ يريدون إطعام الجائع موائد من قيم يسمع بها ولا يعيشها، فكان أن تسرّب النفاق والرياء وكلّ أشكال الانفصام في تشكيل «الشخصية العربية». انطلق العميد، طه حسين، من الأشياء الملموسة الصغيرة العابرة في حياتنا، والتي لا نعير لها اهتماما، إما بسبب التعوّد، وإما بسبب اللامبالاة،لأنها ترسّخت في الأذهان، وأصبحت سلوكا يوميا مترسّبا في الوجدان، غير أنه كلّما أطلنا النظر فيها، وتأملناها، وقلبناها على وجوهها المتعددة، تبين لنا أنها تعكس ثقافة ما، وتصوّر بالملموس تربية ما، تعبّر في ما تعبّر عنه عن رؤية ما للذات، والعالم، والكون.ربّ قائل يقول ما كان لطه حسين، وهو عميد الأدب، أن يدخل سفاسف الأمور ويشغل باله وبال قرّائه بهذه التوافه من الأمور، بهذه القضايا العابرة الصغيرة، هو الذي دخل القضايا الكبرى فاتحا، وخلخل الثقافة العربية من جدورها، وشكّك في كل شيء في أفق إعادة النظر في المسلمات والبديهيات، وقد جرّت عليه الويلات حتى أوقفته متهما أمام وكيل النائب العام آنذاك محمد نور، وأدخلت قبل ذلك الطلبة مطالبين بهدر دمه داخل مكتبه بالجامعة، وأخرجته من الجامعة لرفضه سياسة وزارة صدقي باشا الذي أراد احتواءه، واستكتابه في جريدته الناطقة باسم» حزب الشعب»، وهو الذي أيضا رفض منح الدكتوراه الفخرية من كلية الآداب لبعض الذين لا علاقة لهم بالفكر والثقافة، وهو الذي أيضا فسخ عقد كتابه «مرآة الإسلام» والذي كان بطلب من أنور السادات، العضو البارز في مجلس قيادة الثورة، والذي كان يشغل أيضا منصب السكرتير العام للمؤتمر الإسلامي، وكان ذلك» انطلاقا من إيمانه أن الكاتب لا يستكتب بشروط ولا يقيد بموضوعات، ولا يلزم بمواعيد، اعتقادا منه ويقينا أن الكاتب حر يكتب ما يريد متى شاء وأينما شاء»، والحديث عن مواقف العميد المشرّفة حديث ذو شجون، وهو فيها لم يكن يبتغي غير تأسيس منهج جديد، فكرا وسلوكا، يتأسس عليه مستقبل الأمة. غير أن العميد، وهو يقف على هذه المظاهر الاجتماعية، إنما كان يرغب في الربط بين الأمور الصغرى والقضايا الكبرى مبينا أن الصغير من الأمور هو تجلّ لما هو أكبر منه، وأن الأزمة بنيوية أينما ولّيت وجهك تراها شاخصة .فمن اهتزاز صورتي المعلّم والفقيه داخل المجتمع، إلى انتهازية المثقف وتملّقه مرورا بالسلوكات المشينة، والتصرفات المقزّزة للإنسان البسيط في الشارع، والشطط في استعمال السلطة من لدن المسؤول، والفردانية المقيتة التي استشرت في الجسم الواحد الذي طالما ادّعى تداعي باقي أعضائه للعضو الساهر الشاكي بالحمى، إلى كل أشكال التقاعس، وألوان التخاذل بين قوم لا يحسنون غير الخطابة والفرار..كانت الأحاديث فرصة العميد لجعل شهر رمضان مناسبة لاستعادة الوعي، والتفكير مليا في إعادة التوازن بين الكلام والممارسة، بين الفصاحة والنهج العلمي الرصين، واستغلال صوم المسلم عن الشهوات لتذكيره بما ينبغي أن يكون عليه سلوكا في باقي أشهر السنة من الصوم على كل الممارسات الحاطّة من كرامة الإنسان وإنسانيته، ولعلّها كانت أيضا الحكمة الربّانية من إنزال شهر الغفران كلحظة لمراجعة الذات ونقدها وإنقاذها مما تعوّدت عليه من المألوف المتخلّف.وكفى العميد فخرا أنه من خلال « أحاديث رمضان» ساوى في الضرر بين البسيط العابر والمركّب المعقّد …