إن نشأة فن الملحون بالشكل الذي عرفناه، يزاوج بين الكلمة الشعرية والإنشاد والمصاحبة الإيقاعية والنغمية، اكتنفتها مجموعة من المظاهر وأسهمت فيها مجموعة من العوامل الإجتماعية والإقتصادية والثقافية عبر تاريخ المغرب. كان أهمها احتضان المغاربة لهذا الفن الذي وجد لنفسه موطنا في قلوبهم وفي حيثيات حياتهم اليومية، في جدهم وهزلهم وفرحهم و حزنهم، في أعمالهم وحرفهم وفي فترات ترويحهم عن النفس وفي لحظات التنفيس عن ما يختلج بدواخل أنفسهم. ولذلك نجد أن فن الملحون لامس كل التيمات الحياتية للمغربي وتطرق لكل انشغالاته، من توسل وتصوف وحب وحزن وخصام وتعلق و مديح و هجاء وتناظر وحكم و أمثال ووو. كان شعراء الملحون فئة قليلة داخل المجتمع؛ ممن تفتقت لديهم ملكة «القول» و«الكلام» و«السجية»، لكن «فن الملحون» كان يلتف حوله كل المغاربة، حيث أصبح جزءا لا يتجزأ من معيشهم وديدنهم. ولم يكن لفن الملحون فضاءات خاصة يبرز فيها الشعراء والمنشدون وجوقتهم، مواهبهم وبراعتهم ومتعهم، في غير المناسبات المختلفة من أعراس وولائم وحفلات. لكنها على كثرتها كانت غير صالحة لنقل هذا الفن وتداوله بين الشيوخ والمبتدئين، سواء في الحفظ والإنشاد والتوقيع والتنغيم، مع ما يتطلب ذلك من تقويم و تصحيح وشرح وتذليل لكل المصاعب التي تعترض كل الراغبين في شق مسار في هذا الفن. لذلك ظهرت مؤسسة «دارت» كحاجة ملحة لاحتضان هذا الفن والمحافظة على شعر الملحون نظما وإنشادا وتواتره حتى وصلنا كما نعرفه اليوم. وقد لعب الهواة والمولعون من الأعيان دورا كبيرا في وضع الركائز الأساسية لهذه المؤسسة، باحتضانهم « دارت » كموعد أسبوعي يضم الشعراء والمنشدين والعازفين والحفاظ و النقاد، وتحويلها لمدرسة يتخرج منها الشعراء والمنشدون والحفاظ. فكانوا يطعمون ويهادون وينفقون للحفاظ على هذا الصرح التراثي الأصيل عبر التاريخ. وقد أصبحت «دارت» مع مرور الزمن ومع كل يوم جمعة من الأسبوع، في كل مراكز الملحون مقصدا لكل مولع ومحب وطالب لهذ الفن أينما حل وارتحل، في تافيلالت ومكناس وفاس وسلا وآزمور وآسفي ومراكش وتارودانت، لا يحتاج إذنا أو ترخيصا أو دعوة. وقد لعبت مؤسسة «دارت» إلى حدود بدايات هذا القرن دورا رائدا ومهما في توارث طقوس فن الملحون وعاداته، معتعاقب الأجيال، وكانت الكنف الآمن الذي حافظ على القصائد والأوزان والإيقاعات والأنغام من الضياع و التلف والإندثار. لكن مع التحولات الاقتصادية والإجتماعية والثقافية للمجتمع المغربي بدأت مؤسسة «دارت» تفقد إشعاعها وبريقها، بل أصبحت تتساقط شيئا فشيئا في كل المراكز نتيجة لتلكم التحولات. فلا أعيان مولعون ولا هواة ملهوفون ولا فضاءات رحبة وواسعة ولا حرفيون متقنون بارعون بفضاءاتهم الجامعة، ولا ملاذ للمبتدئين الراغبين في النهل من معين الفطاحل من الشعراء والمنشدين. ولا بديل لكل ذلك يشفي الغليل. لقد كان من الضروري للحفاظ على هذا التراث وبريقه ووهجه أن نساير كل تلك التحولات وطرح بديل لها، لنعيد به إنتاج نفس التجربة مع ما يتطلب ذلك من تأهيل و تعديل. وتعتبر مؤسسة «دار الملحون» بديلا نموذجيا لمؤسسة «دارت» من حيث وظيفتها الأساسية المتعلقة بتعلم كل المهارات المتعلقة بفن الملحون بطرق علمية بيداغوجية وخلق فضاء أسبوعي للإنشاد والفرجة، فضاء مفتوح أمام كل الراغبين والمولعين والهواة دون قيد أو شرط. مؤسسة تزاوج بين التراث والحداثة هدفها الأساسي إعادة الارتباط بين فن الملحون وأفراد المجتمع، والحفاظ على موروثنا الثقافي الشعري والإنشادي وترسيخ ثوابت الهوية في نفوس المغاربة. «دار الملحون» مفهوم يرمي إلى جمع شتات «الملاحنية» و تجميع تلابيب فن الملحون المتناثرة في كل أرجاء المدينة، من مخطوطات وكتب وتسجيلات وصور وحكايات. «دار الملحون» متحف حي وناطق يروي حكايات تاريخ فن الملحون وأهله عبر ربوع المغرب، ويعيد إنتاج لحظاته بما تختزله من قيم و حكم و عبر. تقترح مدينة آزمور العريقة مؤسسة «دار الملحون» بمفاهيم و تصورات تنبعث من تاريخ تراث الملحون لتلامس الواقع بكل متغيراته وتحولاته بهدف خلق توازن يطرح بدائل قوية للحفاظ على تراثنا من الضياع عبر براعمنا التي تحقق سنويا التألق في سجلماسة التاريخية ومهرجانها العريق، ابتداء من سناء مراحاتي وجواد الشجعي إلى شيماء الرداف إلى الطفل نصر الدين بدري والطفل نزار رحيمي وصولا إلى الطفلتين سارة وهاجر الزهوري اللتين توجتا في دورة هذه السنة وغيرهم كثير، لكل هؤلاء الذين يحرجوننا بتألقهم ورسائلهم البريئة، لكل اللذين استنشقوا فن الملحون عبر شتات أسوار مدينة 0زمور العتيقة ودروبها، نقدم «دار الملحون» لتلم شتاتهم وتحتضن الآتي من أمثالهم. باحث في شعر الملحون