حاولت القاصة العمانية عزيزة الطائي في مجموعتها «ظلال العزلة « فك الحصار عن الذات عبر الكتابة، لإخراجها من عزلتها المضروبة عليها، عبر مجموعة من القيود التي يفرضها المجتمع، بعاداته وثقافاته ورؤاه التي تسعى إلى تسليع الإنسان ذكراً كان أم أنثى. تلك القيود التي تلتقطها الكاتبة من واقع ماثل للعيان، أو تقتنصها من رؤى ذهنية سائدة، تُعمق الهوة بين الانسان وأحلامه النبيلة تشتغل عليها الكاتبة، متتبعة طريق النحل، أي العمل الجاد الصامت، فتضرب بقطرات مائها تلك الصخرة القاسية، بتؤدة لا ضجر معها؛ فالهدف أسمى من أن يُستشعر معه الوهن والضعف.. إنه الإحساس الإيجابي بأن النفق غير مظلم بشكل كلّي؛ وأنّ في نهايته عالماً رحباً مشرقاً ممهوراً بتعب السنين. صورة الغلاف جاءت تحمل الفكرة التي كرستها الكاتبة في التقديم «ظلال تتوهج من تشظيات الذاكرة وشتاتها، كحكاية من غير بداية ولا نهاية»، وتبدو زوبعة من اللون البني هلامية الشكل، كما الصرخة التي ترجّع الصدى.. تهم بالفرار بعيدا، يحاصرها اللون الأبيض، رمز الكفن الذي يحاول إحاطة تلك الزوبعة باتساعه وإطلالته على مدى مفتوح. تُشهر المجموعة التعبير إذاً سلاح مقاومة ضدّ القبح والانهزامية والترسبات السيئة، منطلقة من العام إلى الخاص، عبر 174 قصة قصيرة جداً، يغلفها صوت الأنثى، وتؤثث زواياها موضوعات مختلفة عن الحب والرحيل والانتظار والأرق والخيبة، موضوعات تشي برؤية تجنح نحو التشاؤم، ويعزز ذلك الشعور الحضور الكثيف للأسماء في عناوين القصص؛ إذ يجد القارئ نفسه أمام 174 عنواناً اسمياً، يتألف من كلمة واحدة، (كبرياء، بقايا، عهد، فخ، رحيل، دمعة، انتظار، غياب، مأتم... ) وهنا نتساءل، هل الأمر مقصود وفيه استسلام لثبات الاسم؛ إذ الاسم يحيل في صناعة النحو؛ على الثبات، فيما يعني الفعل الحركة والقدرة على التغيير؟ المفارقة لم تكن القاصة عزيزة الطائي وهي تنسج قصصها مستسلمة تماماً لتلك التأويلات التي تتركها الفكرة الجاهزة في ذهن القارئ، بل حاولت أن تجعل القارئ منتجاً آخر للنص، يقف بنفسه على قراءات متعددة تخلقها المفارقة، لتشجع بذلك عدم الركون إلى ما يعشش في الذهن من آليات تفكير عقيم، يسهم في الجمود، من حيث لا يدري. تقول في قصة «فراق» ص 24 : «كانت مفاجأة الموت. لجسمها صوت يذكرني بالولادة. حين اكتملت أقواس قزح.. أسرعت خطاها إلى الوراء في ذاك الصفع النائي، وأصبحتُ الغريق الأكثر وحدة من قارب في محيط.. أدركت : أن النهايات أرحام خصبة» الفكرة ها هنا كما يلاحظ القارئ، أو كما يراد له أن يلاحظ، تقوم على التضاد، على صعيد المفردات، ما يسهم في المفارقة، ويحيل القارئ إلى رؤى جديدة حول مفهوم الموت والحياة، وقد أفادت القاصة من فكرة التضاد اللغوي نفسها في بناء مفارقة قصة أخرى عنوانها «تضاد» ص 41؛ وقد تفيد المفارقة أيضاً من الموقف الحكائي، فالموت في قصة «خيبة» ص 47، يقود إلى نقيضه، يقود إلى فرح حبيس في صدر الزوجة، في ظل زوج جعل حياتها سجناً كبيراً، وجاء ملك الموت ليعيد لها جزءاً من حريتها المسلوبة: « حملت ألم خيبتها مع زوج مشاكس. كانت تتمنى أن تنعتق من فيض الظلم الذي غلغل مسامات الوجود لزمن. لملمت جراحها التي لم تبح بها يوما من المضاجعة التي أثقت جسدها. أحدق فيها مضاءة بشموس ضارية حفرها الزمن، وهو سائر في ذمة الله.» وثمة اجتهادات أخرى لصناعة المفارقة، لا سبيل لحصرها هنا، غير أننا يمكن أن نشير إلى الاعتماد على تعارض المفاهيم على نحو ما نرى في قصة «دعوة» ص46، وقصة «كلمات» ص25 التي تقوم على تعارض مفهومي الذكورة والأنوثة في النظر للأشياء. الانتفاض على سلطة الذكورة الأنثى في مجتمعات القصة الطائية هي أنثى يراد لها الانغلاق على ذاتها، إذ ما تزال تحضر بوصفها عنصراً مكمّلا لا فاعلاً، وظيفته أن يملأ الخواء، وأن يقضي عمره على مرمى الانتظار. وفي الانتظار تحاصرها الهواجس والمخاوف ، وترمي بها آثار السنين إلى أحضان الخيبة، فأحيانا تضطر إلى التنكر للوجع بل التعايش معه، وقد تدفعها في أحيان أخرى لتُكسر قيد الوهم الذي يكبّل حركة الجسد والروح.. إنها الانثى الحائرة في انتظارٍ تائهٍ عند مفترق الطرق، تحلم بربيع يحمل معه رائحة الورد والفراشات الملونة التي تلون عتمة الانتظار، على نحو ما نقرأ في قصة «حيرة «ص 21: «بحثتْ عن جسده. أطلت من نافذة الزجاج الرابضة. تأملتْ البناء برائحة الذكرى. بقيتْ حتى المساء تعانق الزجاج. بدت مثل شمس حائرة بأصابع ولهى. أنصتت إلى نبضها المرتعش، وحلمت بطقس آخر يغزوه الربيع». وربما يكمن الخلاص ها هنا، والشفاء يعني التخلص من لعنة الماضي والانطلاق نحو الحاضر بعيداً عن ترقب لا يورث غير الوهن، وبرد ينخر المشاعر المتقدة، ليحولها إلى كرة من وجع، تتراقص خيوطها لتخنق الأنثى كلما حاولت التغلب عليها أو التفكير في حل جذري ينقذها من شرنقه همومها. تلك الهموم؛ تتقاسمها الأنثى مع الصغيرة القادمة إلى الدنيا جنيناً يذرف دمعة البداية؛ لتتوالى الخيبات، وتحصد الفاجعة انتظاراً لصولات لا تنتهي إلا بالانفجار على واقع ملتبس، يخفي الكثير ولا يصدح بالحق، بل يعيد حكاية القهر، جيلاً بعد جيل، على نحو ما نقرأ في قصة «صمت» ص 31. «نظرت في عين ابنتها. غرقت في سوادها. لم تستطع أن تقول: لا، أو ليس بعد.. سحبت سلسلة الذاكرة يوم كانت في عمرها.. غرست ثمرتها المحمومة، وداوتها بماء قلبها.» إن الكاتبة تُمعن في التأكيد على أن الظلم متوارث، وعلى أن الحقيقة تظل عائمة في ظل تعتيم على الأحلام منذ بدايات الطفولة، يرافق المرأة التي لا ذنب لها سوى انها أنثى، ويحاصر انطلاقتها الخلاقة نحو مجتمع يُبنى على التكامل، ونحو حياة زاهية لا تجهض الأحلام. وفي هذه المواجهة المفتوحة، تحاول الأنثى الساردة أن تحقق بعض الانتصارات الصغيرة، على نحو ما نلمس في قصة «كبرياء» ص10، حيث العنوان هنا نص مواز للقصة لأنه يختصر دلالاتها؛ إذ تشهر الأنثى في وجه العاشق الواثق سؤالا استنكارياً، في محاولة لصد النكران، وخلق مساحة لكبرياء مهدور على أعتاب الرجولة؛ لتقول من خلال النهاية «هل أعرفك؟» إنها تعرف ذلك الجباّر الشرس الذي يسعى إلى قهرها، وتعرف كذبه وبهتانه، وتحاول من خلال إنكاره أن تتخلص من ذكرى طازجة محمّلة بالوجع: «التقت عيناهما صدفة عند مرسى الحب. قال لها: أعذريني إن سببت لك جرحا في الماضي.. فالحاضر أصبح لي، عدت إليك بقلب آخر.. أحمل معي مستقبلا جميلا. استجمعت قواها،وقررت الحقاظ على بقايا كبريائها، وقالت: أعذرني سيدي، هل أعرفك؟.» إن هذا الصراع بين الثنائي الجنسي لا يقف عند حدود قصة أو اثنتين، بل يتكرّر على شكل مواجهات، وحوارات في كثير من القصص، حيث يطالع القارئ وجهتي النظر المختلفتين تجاه الرؤى الحياتية من خلال صيغتي (قال) و(قالت) اللتين تتكرران في قصص كثيرة، من مثل «جرح»ص 59، و»موقد» ص67، و»خواء» ص150، لتتحول إلى (كتب) و(كتبت) في قصة «نهاية» ص175، ويمكن في هذا المجال، أن نشير إلى شكل مشابه من النظام اللغوي المتقابل الذي توظفه الكاتبة ليقيم حوار الرؤى بين الذكورة والأنوثة، عبر قصة بعنوان «هدايا» ص 60: «عند رابية الزهور أسمعها قصيدة لن تطول. أهدته وردة للعطر. أهداها ساعة للمواعيد. تكررت اللقاءات. أهدته قلما للكتابة. أهداها حذاء جميلا. بالقلم كتب على الورد» وداعا». وبالحذاء والساعة جاءت لتودعه.» رؤى سياسية ناقدة لقد حاولت ظلال العزلة أن تفك الأسر الذي يحيط بالساردين، والمسرود عنهم، فيورثهم غربة؛ قسوة وبعداً، وبشكل خاص عن تلك الأنثى التي سكنت في ظلال تلك المجموعة، وعلى الرغم من همومها المتشعبة، فقد مدّت ريشتها نحو الآخر المجتمعي الذي يكمّل خيبتها، فرصدت أشكال الفساد العام، والسلبية، والقوانين الجائرة التي تغيّر نكهة الحياة، وتجعلها جحيماً. تقول الكاتبة في قصة «جحيم» ص 51: «كتب المعلم العنوان على لوحة باهتة « عام دراسي جديد». التفت. وجد كراسي وطاولات، سأل عن التلاميذ، قيل له: ذهبوا للجحيم.. فتحولت المدرسة إلى متحف للأثاث رائحته تنذر بالمأساة.» مصير عائم، يصر على اللبس، وتصر الحياة على الاستمرار برغم هناتها وبرغم الظلام السائد ، انه عالم الغاب وتأتي قصة»غابة « ص 56، لتصوّر تلك الغابة يقطنها عالم من الكائنات. تتراءى للظاهر أسرار الحياة وحكاياتها، فكأنما حضورها حضور للموت الماثل للعيان، وكأنما نهاياتها موشاة بظلال فساد تكررت إيقاعاته في قصة «قرار» ص 81، وقصة» ريال» ص 91، وغيرهما، ليصبح هذا الفساد أكثر إيلاماً حين يقترب من حدود السياسة، وحين تكون الضحية إنساناً ينتمي لعالم تحكمه ظلال الرجال، وزنازين الإخوة، على نحو ما نجد في قصة «مرابط « ص 144، حيث تبدو المفارقة أكثر وضوحاً، والمعالجة أكثر جرأة: «تحايلوا عليه.. انتزعوا عينيه.. بتروا لسانه.. شلوا يديه.. ومايزال يرابط عند عمود الكهرباء وصناديق الاقتراع. ذات صباح سمعوا ضجيجا.. وجدوا العمود مكهربا، والصناديق منهضرة.. وسيل من الصديد يسيل». ملامح فنية لقد تميزت مجموعة الطائي بكثير من سمات القص القصير جداً، وانتمت بجدارة إلى الفن الذي تنسب نفسها إليه، فعرفت التكثيف، والمفارقة، عمق في الدلالة، ووضوع الحكاية، وإن كانت الشعرية تتغلب في بعض القصص على الحكاية، فتوقع القارئ في غموض الرؤية على نحو ما نجد في قصة «ضياع» ص 26. وتميزت أغلب القصص بسرد صيغة الغائب، فغاب ضمير المتكلم تقريباً، إلا في قصص قليلة من مثل قصة « تسلل» ص 28، وكأن الكاتبة تريد ألا يقوم ذلك الالتباس الذي يحصل عادة بين المؤلف والسارد، وكأنها تريد أن تضع مسافة بين المؤلفة والبطلات اللاتي يدور حولهن السرد. وقد لجأت القاصة إلى خاصية المرآة في أكثر من قصة؛ حيث حملت قصة «مرآة « ص 9 عنوانا بالدلالة ذاتها التي يستخدمها كثير من القاصين، حيث تبدو ظلاً للذات أو ظلّاً للحقيقة، وقد جاء استخدامها لتلك المرآة لافتاً، فبرز في «ارتباك: ص36، و»رسم» ص 120، و»انتظار» ص 16، ليرمز في القصة الأخيرة للتخلص من ظل الرجل في أعماق النفس، وهذه ثيمة سنجد لها تكراراً في قصة أخرى بعنوان «شفاء» ص 27. ويستطيع القارئ أن يستنتج الخلفية الثقافية لدى القاصة؛ لأنها كانت تحضر بين حين وآخر، فمرة تستحضرها من خلال قصة الكرم العربي لدى الحطيئة، على نحو ما نجد في قصة «لوعة» ص 29، لتقول إن المرأة وابنها يعانيان لأنهما لا يعيشان زمن الحطيئة، ومرة تستحضرها من خلال ثقافة شرقية أو غربية لا تَخفى على القارئ، كما نرى في قصص أخرى من مثل «كائن» ص 50، و»غزل» ص 104، و»موسيقا»ص 155. ويشار أخيراً إلى أنّ القاصة استخدمت الرسائل في قصصها، كما في قصة «نهاية» ص32، لتؤكد لنا من طرف خفي أن هذه الوسيلة تعد بديلاً عن انعدام التواصل الطبيعي بين أطراف المجتمع (وبين الذكر والأنثى خصوصاً)، وعن ميل الكفة في اتجاه واحد، وعن غياب فكرة الانسجام في ظل التبعية المطلقة، وحسبها انها ألقت حجراً كبيراً في مياه المجتمع الراكدة، ونثرت ظلالاً وارفة للجمال والحرية. 1 عزيزة الطائي: ظلال العزلة (قصص قصيرة جداً)، دار فضاءات، عمّان، ط1، 2014