حقا .. مازال للكتابة الشعرية فرسانها، ومازال لفن القول رواده، ومازال للقصيدة عشاقها. فكلما انخرطنا في جوقة تأبين المتن الشعري، في مقابل الترحيب بانبعاث « ديوان العرب الجديد « المتمثل في الكتابات السردية النثرية، إلا وانبعثت العنقاء من رمادها، متمردة على واقع الحال ومعيدة للقصيدة الشعرية ألقها وهويتها وانزياحاتها الجمالية اللامتناهية. وعلى الرغم من كل ما يقال عن ضيق سوق تلقي القصيدة بمشهدنا الثقافي الراهن، وعن تزايد نسب العزوف عن تداول « النشر الشعري «، فإن الأمر ظل مكتنفا بالكثير من أشكال التجني ومن أحكام القيمة المرتبطة بتزايد حالات اليأس المزمن من مجالات تداول الكتاب وتسويقه. ولعل من العناصر الدالة بهذا الخصوص، تواتر صدور المجموعات الشعرية من هذه النقطة الجغرافية للبلاد أو تلك، وفي إطار هذه الرؤى الجمالية أو تلك، وارتباطا بالحاجات الروحية العميقة للذات في شغبها، وفي ولعها بعوالمها الحميمية، وفي حسرتها المرتبطة بانكساراتها، وفي احتفائها بمظاهر فرحها المخصوص في زمانه وفي وفي مكانه وفي محيطه. باختصار، يمكن القول - ومن زاوية البحث المهتم بتتبع عطاء تاريخ الذهنيات وإبدالات التاريخ الثقافي - أن الانفتاح على شتات الإصدارات الموزعة والأعمال المتواترة، يشكل حجر الزاوية في كل جهود كتابة التاريخ الثقافي لزماننا الراهن. هذا التاريخ الذي تنتجه نخب احترقت / وتحترق بلوعة الكتابة، راسمة معالم هوية ثقافية مشتركة، رغم تعدد مكوناتها وتشعب عناصرها واختلاف مؤثراتها وخصوبة مضامينها. وعلى أساس هذا التصور، فإن تقديمنا المقتضب لديوان « صدى النسيان « للشاعر خليل الوافي، والصادر سنة 2014، في ما مجموعه 98 من الصفحات ذات الحجم المتوسط، لا يستند إلى رؤى نقدية تفكيكية لتقييم عناصر « الصنعة « التي اعتمدها الشاعر في نحت معالم قصيدته، مما لا يدخل في مجال اهتمامنا، بقدر ما أنه « قراءة عاشقة « حسب تعبير المبدع محمد الكلاف في عمله النقدي الصادر سنة 2014، للاحتفاء بالإصدار أولا، وللتوثيق - ثانيا - لسياقات الصدور في إطار عطاء التاريخ الثقافي الوطني المعاصر، ثم لتوفير - ثالثا - أرضية لتشريح الدلالات الرمزية الفاعلة والمؤثرة في المخيال الفردي / الجماعي للشاعر المنتج لمعالم البهاء في مشهدنا الثقافي الوطني الراهن. وفي انتظار أن ينفتح النقاد المتخصصون على نصوص هذا الديوان بالقراءة وبالتحليل وبالاستثمار، أكتفي بالإشارة إلى أن العمل يوفر أرضية مناسبة لمقاربة التمثلات الجماعية التي تحملها نخب المرحلة تجاه قضايا مركزية في وجودنا وفي انكساراتنا وفي انتظاراتنا وفي أحلامنا المعطوبة. ولقد عكست نصوص الديوان الكثير من ارتدادات هذه الحالة النفسية المركبة التي أثمرت مواضيع وقضايا عالقة في ذاكرتنا الجماعية، مثل قضايا الهوية واضمحلال الحلم العربي والحنين إلى الأم ... وهي قضايا متداخلة استطاعت أن تفجر القصيدة باستعاراتها المسترسلة وبلغتها الانسيابية وبأوزانها المتناغمة وبتعابيرها الشفيفة، مما أثمر متنا شعريا عميقا، لا شك وأنه يستحق أكثر من قراءة وأكثر من عودة لتفكيك ذخائره الرمزية المركبة. وفي هذه النقطة بالذات، يبدو أن المجال سينفتح رحبا أمام مؤرخي الذهنيات لاختبار أدوات نبشهم قصد استخلاص ما يجب استخلاصه من قيم ومن رموز تشكل حصيلة تلاقح عطاء الواقع مع أشكال تفاعل ذات الشاعر مع إبدالات هذا الواقع ومع نظيمة التغير والثبات داخل بناه الثقافية والاجتماعية والسياسية المركبة. وبطبيعة الحال، فإن مثل هذه القراءات لا تستقيم أبعادها إلا بالتكامل مع القراءات النقدية المحتفية بصنعة الكتابة الشعرية وبأدواتها المخبرية في صقل الكلمات والتعابير و»الاستعارات التي نحيا بها «. ولإنهاء هذا التقديم المقتضب، نقترح الاستدلال بمقاطع شعرية من نصوص مختلفة احتواها ديوان « صدى النسيان «. ففيها اخنزال لأهم المعالم المميزة للغة الشاعرية للمبدع خليل الوافي. ففي نص « صدى النسيان «، يقول الشاعر : « ما زلت أرى ما أراه الآن، وأخجل مما تراه عيني. ماذا دهاك أيتها العير ؟ لم أجد أثري على الرمل حين وقفت على مضارب القبيلة أبحث عن قلادة أمي وأشيائها التافهة في ركن البيت، وسيف جدي ذاك الذي تزينه ألوان الصدأ، وخريطة وطن لا تحمل رائحة التراب .. لا تحمل سلالة دمي. ماذا دهاك أيتها العير ؟ « ( ص. 65 ). وفي نص « راحل يا أمي «، يقول الشاعر : « راحل يا أمي خارج الوطن .. أبحث عن وطن الروح في شجر يطل على عروبة قاحلة. راحل ... أسرق السمع من همس الحجر وفحيح الورق، لأصنع لك بيتا ولأبي راحلة ... « ( ص. 73 ) وفي نص « هذا .. أنا بالعربي «، يقول الشاعر : تحت الأنقاض ولدت لم أصرخ في وجه الحطام ابتسمت ... في غمرة الغبار تركت الجدار يتكيء على الجدار ... هكذا ولدت بأرض حبلى بالجثث. سلكت كهف الحجر، لم أجد لدمي لونا .. هذا .. أنا بالعربي، أبحث عن وجه يشبهني في ركام الهزائم الثقيلة على اللسان، نفضت عن جسدي انتمائه، رحت أتذوق رائحة الموت في كل مكان ... « ( ص. 91 ). هذا هو .. الشاعر خليل الوافي، وهذه لغته، وهذه عوالمه بآفاقها الشعرية المشرعة على رحابة فعل التأمل وملكة الإبداع ومهارة صقل فن القول الجميل.