ضمن سلسلة إبداع من منشورات وزارة الثقافة، صدر للشاعر المغربي محمد بلمو ديوان شعر بعنوان « رماد اليقين « في 76 صفحة من الحجم الكبير. في طبعته الأولى، من تصميم وطباعة مطبعة دار المناهل ,والغلاف من إبداع الفنان محمد المنصوري الإدريسي.. ويتشكل الديوان من عشر قصائد هي على التوالي: 1 غياب. 2 سيشمت الزرنيخ في الورد. 3 لو بمقدوري. 4 حلم. 5 هل أنا الريح أيها المداد. 6 لا موطن قلم لي. 7 ورشات مرتبكة ضد الموت. 8 تعريفات بدائية.9 هل يحدث أن 10 رماد اليقين. تتصدر الديوان مقدمة تحت عنوان « حين يضرب الحمام عن الهديل «بقلم الناقد الدكتور عبد الجليل بن محمد الأزدي.ومما جاء فيها قوله «... في ديوان محمد بلمو تتعاضد النصوص والشذرات أو النصوص التي تنحو منحى الكتابة الشذرية في سبيل إنتاج معاني ودلالات الكلية والكمال والعودة إلى الوحدة الشاملة والانسجام الكلي مع الطبيعة ضمن مستوى أول، ويستهدف التدلال ضمن مستوى ثان على رمزية الإبداع الكوني مع توكيد جذور الطبيعة الأبدية ومنابعها ورسم صورة الكلية وهي في حالة سيرورة وصيرورة دائمتين..»ص. 4. هكذا بين حقول المرارة وسيل الخسران، وبين انكسار الورد دون أن يركع، تنهمر قصائد الشاعر محمد بلمو مطرا مخضبا بالذكريات والآهات الجميلة، مدينا تفاهة الواقع المقيت وتهافته الذي اندلع كاللهيب في حقول البهاء... الذات الشاعرة في الديوان لم تتخذ موقفا محايدا مما يجري. فهي تشتهي الموت على شجر التوت، و الشهادة في ربيع الاستعارات ضد العجز المحيط بخطواتها. يقول الشاعر: لو بمقدوري / لما كتبت. / لو بمقدوري / لما آتيت.. ص.7 في الديوان نقرأ من قصيدة «حلم «: لن تذهب الشمس / إلى سريرها / ستترك وسادتها / لسحابة يتيمة،/ وحساءها / لقمر طرده رب العمل..ص.17 ولأن الشمس لن تذهب إلى سريرها هذا المساء «.. تتفجر ينابيع القصيد وتتعطل حواس الصمت في هذا الصخب الهائل.. وتشعل الاستعارات جحيمها على الذات الشاعرة النافرة، ترقب انكسارات قمر طرده رب العمل في زمن أجلف، فيتمرد الحبر، ويتهور، يستهويه الطيش كلما اختلى القمر بالألم والحزن في غرفة الانتظار. فيصرخ المداد ملء الغضب: أنا المداد / تتحرش بي العطالة / إذا لم أكتب / سأغضب..ص.22 وحين تراوده الشمس عن سمائها الحبلى بالأنين، تؤنب عناده المشتهى: لم المرارة وحدها تغريك / أيها المداد / بالمتاعب / تجر شفتي للعواصف / وتأبى على غزلي / ولعب طفلتي / وشموس شطحاتي..ص.23 لكن حديقة الوفاء تطفئ جمر جبل السهو زرهون، وتوقظ الحياة في جل القبور حين تحفظ في ذاكرتها جرس الأشجار زمن الطفولة البهي. وحين يصيبه التعب، يحمل العتاب إلى خيمة احتجاج ثم يصرخ:(...) الكتابة الشذرية أو تشظي الواقع ومفهمة الشعر في قصيدة « التعريفات البدائية « يعيد الشاعر صياغة العديد من المفاهيم في لحظات شعرية مكثفة وهي نصوص تختزل دلالات ومعاني مستخلصة من التجارب الحياتية المعيشة، لذلك تنبض بأسرارالحياة، وتكشف عن بعض خباياها و هشاشتها بعين شاعرة حينا وعين حكيمة أخرى. هكذا تناوش النصوص المختصرة والمختصرة لمجالات وتصورات سالبة وموجبة متنوعة اجتماعية وأخلاقية وسياسية وفنية وضمن تيمات متعددة تؤنسن الطبيعة ومفرداتها... هكذا تجيء النصوص الشذرية لتقول منطقها ومنطوقها ورؤيتها بصيغ اختزالية تترجم عنف المتخيل وصخب الواقع الهادر، الواقع بكل تجلياته النفسية والاجتماعية والسياسية في علاقاتها الخاصة مع الذات الشاعرة وهي تراكم تفاصيل وجودها لتحقق كينونتها وسط عالم أجلف لا يعترف بالنقاء والجمال، فيوسع المسافات بين الذات وما تحب ومن تحب.. وكلما اتسعت الفجوات، ضاقت العبارات. وتحققت شعرية « خير الكلام ما قل ودل «.. وهي كتابة تترجم تنوع هذه التصورات المفارقة للكتابة الشعرية الشذرية التي تتغيا شعرنة المفاهيم والقيم والأشياء والمصطلحات التالية: ( اليسار، الشعر، القطيعة،الحمام، السياسة،الظلم، اليأس، السعادة، المرأة، التاريخ، الرجل، التطبيع، القناع، الجلباب، الإنترنيت، الزهرة، الفوضى، النجوم، العدل، الأرض، الكتاب، اليسار الحزب الجريدة، الحلم، الجنس.) أكثر من أربعين مفهوما..ص. 50 / وهكذا تنأى لغة القصيد في ديوان « رماد اليقين « عن اللغة المباشرة والتقريرية والموضوعية حتى.. مفردات الرماد في الديوان 1 العنوان: رماد اليقين ص. 72 2 تقول لي: اكتب / وانثر جسدك رمادا / على الأغاني .. ص.20 3 أنت هذا الربيع الواقف / من رماد النسيان / دخان الوقت. ص. 48 4 الحزب / إمارة صغيرة / شديدة الشبه بالرماد. ص. 59 5 هل يحدث أن / تتقمص موقع خصم شره / خلف نافذة رمادية. ص. 68 6 أمتيقن / أن الذي يقرأ هذا الرماد / سيمضي إلى أول الحريق. ص. 74.. ( يجمع المفردتين: الرماد واليقين) إن هذه الأمثلة الدالة تتمحور حول ثلاثة مجالات هي: أ الثقافة.. ب السياسة.. ج الوجود.. أ يتجلى البعد الثقافي في ربط الكتابة بالجسد والأغنية والرماد .. وحين يربط القراءة بالرماد أيضا.. ب أما البعد السياسي فيتضح في وجه الشبه الذي يقيمه السياق. حيث الحزب إمارة شديدة الشبه بالرماد.. وحيث تقمص موقع الخصم خلف نافذة رمادية.. ج البعد الثالث المتمثل في البعد الوجودي ينكشف من خلال الرؤيا المعبرة عن موقف الذات من الزمن. وهم موقف يتعطل فيه الربيع الواقف من رماد النسيان. وحين يصير للوقت دخان. أو يرتبط الرماد بالاعتقاد يقينا أو ظنا. هكذا يتحول الرماد رمزا للرؤية الرمادية الحزينة المتسائلة والمسائلة للذات ومحيطها المتعدد، ساعية إلى تجاوز محنتها التي تفتح مضايق عديدة للكتابة والتحريض عليها ضمن نسق شعري تجريبي. حيث تتعدد بنيات القصائد الشعرية دون أن توسم بالتكرار أو الاجترار.. مفردات اليقين أو يقين حتى إشعار آخر يمكننا رصد مفردات اليقين من خلال القصيدة الأخيرة « رماد اليقين «. وهي القصيدة/ المبؤرة في الديوان، اختارها الشاعر محمد بلمو عنوانا للديوان. وهي عبارة جراحات عن تسعة معبرة عن: الفقر والجوع والإفلاس وجدوى الكتابة والحب والوطن في صور شعرية حافلة بالنزعة الشكية أو ملامح اللاأدرية. تقول القصيدة: 1 أمتيقن / أن النقر على هذا البياض الكهربائي / يطهو خبزا لجوعك؟ / و أن بردا قارسا لن يجرك عنوة / لتقبع في جرحك الجبلي؟. 2 متيقن / أن الشموس التي طلعت / ليست سرابا / و أنك ستؤدي فاتورة الكهرباء في موعدها؟. 3 متيقن / أنك لن تتسل بين دروب ضيقة / كي يجرك صديق إلى مقهى رديء / و أن الحذاء الذي اشتريت منذ قرون / لن يخذلك في بداية الشوك؟. 4 متيقن؟ / أمتيقن / أن الحروف لن تتهيب من حليب الرموز والقصيدة كتبت في مدينة زرهون في 14 يناير 2005 وتتشكل هذه القصيدة من تسعة مقاطع شعرية، وكل مقطع يشكل بنية مستقلة ومكتفية بذاتها. و الخطاب فيها موجه إلى الذات أولا. وبذلك تشكل المقاطع الشعرية مونولوجا أي حوارا داخليا.. أو يتوجه الخطاب إلى القارئ المفترض فتكون المقاطع مخاطبات شعرية.. فبنية هذه المخاطبات تبدأ بلازمة « أمتيقن؟ وهي في صيغة استفهامية.. فيها يخرج الاستفهام عن دلالته الحقيقية التي وضعت له لينزاح إلى دلالات مجازية مفارقة تستدعيها السياقات المحايثة التي تمليها الذات الشاعرة وتقترحها على القارئ في حيرة وشك وقلق وجودي يذهب بالدلالات إلى أبعد مدى ينأى عن اليقين والمطلق والتشميل..لدرجة يستحيل معها الجواب عن الأسئلة بالتصديق ( نعم أو لا )، رغم أن الأسئلة تتأسس على حرف الهمزة كأداة للتساؤل.. إن تنوع الأسئلة يعكس مأزق الوجود وعدم استكانة الذات الشعرية إلى الحياد.. هذه الذات التي اختارت البوح الداخلي لتعلن عن جراحات الهامش الجبلي والحاجة التي تعمي وألم الكتابة الحالم بربيع لا يجيء و كيد الإخوة وشعرة معاوية التي تربطها بالوجود ومراودة الأمل والمضي في بداية الطريق بحثا عن سؤال النجاة / المصير الذي لا يسير إلا ضدا على طبيعة الأشياء والأهواء والأحلام... و اللافت للانتباه هو هذا التنوع والتعدد في الموضوعات التي هي مثار المساءلة والاستفسار والمعاتبة والاحتجاج والملامة يعكس فوضى الحواس وفوضى الواقع السياسي والأشياء المتحولة التي تحيد عن مواقعها الاعتيادية والطبيعية.. ولكأن المنجز الشعري في الديوان هو صرخة أو دعوة إلى إعادة النظر في المشهد الإنساني عامة والمشهد الذاتي خاصة.. ضمن رؤيا غير متصالحة تدعو ضمنيا إلى التغيير أو إلى الإصلاح على الأقل،إذا ما استطاعت إليه سبيلا...