تنكتب الصداقة دوما انطلاقا من الغياب والنسيان والمحو. إن التاريخ الحميمي للصداقة، ولكل صداقة، يرتبط جذريا بالتاريخ السري للجرح/الجراح. لأنها من حيث هي إعلان تدشيني لعلاقة منذورة دوما للتماهي ومآلية غروبية، لتظل دوما في منطقة المابين، أي صداقة تنكتب في محوها وتمحو ما كتبته، صداقة الحيوات/الأجساد/الأفكار التي تصير أطيافا أي الصيرورة الطيفية من لحظتها التدشينية إلى انمحائها وغيابها. إنها فضيلة مدنية ترتبط بمجتمع الأفراد المتساوين داخل ديموقراطية تطال العدد الأكبر منهم، وبما أن الديموقراطية تظل دوما قيد الإتيان فإن الصداقة تنسكن حتما بالنسيان. تلك هي سياسة الصداقة التي لا يمكن باعتبارها سياسة المتساوين إلا أن تظل آتية باستمرار. لعل هذا ما ذهبت إليه صرخة أرسطو أو نداؤه الفاجع: (أيها الأصدقاء ! لم يعد هناك صديق). الصداقة من منظور هذا النداء الأرسطي منذورة للخراب والكارثة، ومن المتعذر وجودها، لأنها تظل في الوضع الاعتباري للإمكان. كانت الصداقة الأساس الذي نهضت عليها اللحظة الافتتاحية الإغريقية: صداقة الحكمة التي تجسدت في الفلسفة، ثم صداقة المحاورة الأفلاطونية كما جسدتها محاورة ليزيس Lysis، و(أخلاق نيقوماخوس) كتاب أرسطو، وخصوصا البروز المهيمن لتلك الشخصية المفاهيمية الأساس أي الفيلسوف كصديق للحكمة. نمت الصداقة الإغريقية وترعرعت في الجوار الباذخ للفلسفة والشعر والأساطير والملاحم. صارت صداقة مفكر فيها ارتقت من مستوى الأحاسيس والانهمامات إلى مستوى الأفكار والمباحث الفلسفية والإشكاليات. انعلنت الصداقة في سياسة المدينة، في الأغورا المدنية حيث يتعمق النقاش وتبادل الأفكار والآراء بين المواطنين المتساوين ضمن الديموقراطية الأثينية، تجسدت في العلاقات الاجتماعية، في جمالية الوجود في الإطيقا وأنماط سلوكها وقيمها الوجودية، وتجسدت في الفكر. وبالرغم من كل هذا فالنداء الأرسطي ينفي وجود الصديق. تنهض الصداقة إذن على الفقدان المسبق للصديق، أي للعامل الأساس في كل صداقة. إذ كيف يمكن لهذه الأخيرة التفكير في حقل ممكناتها والتحقق فيه بدون الذات التي تحدد هذا الحقل وتؤسسه. عاش التوحيدي الصداقة/الصداقات كتجربة غروبية فادحة ومسكونة بهشاتها، تجربة تركته على هامش هذه العلاقات العابرة يعاني البؤس والفقر والعزلة وقلة ذات اليد حتى كفر بالكتابة كلها وأحرق كتبه هو الذي كانت الكتابة بالنسبة له نمط وجود وشكلا أساسا من أشكال الحياة. لذا كان الوحيد في تاريخ الكتابة العربية الذي خص الصداقة والأصدقاء بكتاب عنوانه (في الصداقة والصديق)، ضم فيه عصارة تجربته وأخبار الكثير منها. عدا التوحيدي (انظر كتابنا (نسيج الصداقة) في منشورات اختلاف 19)، لا نجد عن الصداقة غير صفحات معدودات في (الأدب الصغير والأدب الكبير)، لابن المقفع وإحدى رسائل ابن حزم الأندلسي ثم أبيات شعرية متناثرة هنا وهناك. يقول المتنبي في هذا السياق [ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى/عدوا له ما من صداقته به]. إنه الحضور الذي ظل صامتا في النداء الأرسطي، حضور العداوة بجوار الصداقة. إنهما وجهان لعملة واحدة. كل صداقة تنسكن بآخرها/نقيضها الذي لا تكون بدونه، والذي تضطلع به، تتفاوض معه بشكل ودي. الصداقة منذورة إلى أن تتحول إلى عداوة، كما الأعداء قد يتحولون إلى أصدقاء، كما عبر عن ذلك مؤخرا شمعون بيريز بصدد العلاقة الممكنة لإسرائيل مع إيران، لأن السياسة لا يكون فيها أعداء ولا أصدقاء خالصون ونهائيون. عالم السياسة الألماني كارل شميت يرى في كتابه [مفهوم السياسي] بأن السياسة لا يمكن أن توجد وتمارس بشكل واضح إلا إذا تمكننا من التمييز بين العدو والصديق، وأن العداوة معيار إجرائي مميز ومفسر للسياسة تماما كما الصداقة. يعتبر المتنبي الاضطلاع بصداقة عدو شرطا قسريا يسم الحياة بالبؤس، ورغم ذلك فإن الأمر لا مناص منه. هذه الصداقة القاسية تجعل خط القسمة والتمييز بين العدو والصديق غامضا وملتبسا، خصوصا وأن الصداقة تظل معرضة باستمرار للجحود والانقلاب إلى الضد. يبدو كما لو أن العدو مع ذلك يظل عنصرا أو عاملا طارئا يجتاح القارة الأصلية المؤسسة لتلك المنطقة الواهبة والباذخة، القارة المسماة صداقة. ذاك ربما ما يذهب إليه المتنبي حين يقول: (ما من صداقته بد). الأمر شبيه بمآلية حتمية، تماما مثل تلك التي نعثر عليها في التراجيديا الإغريقية. ليس غريبا على شاعر خبر عميقا انقلاب الصداقات إلى عداوات في بلاط سيف الدولة ووسط حاشيته الملئى بمتنافسين شرسين وطامحين، وفي بلاط كافور الإخشيدي بمصر أن يعبر عن ذلك هو الذي انتهى تائها أعزلا في صحراء العراق حيث قتل. لا يقول المتنبي (ومن نكد الدنيا على الإنسان) بل (على الحر)، معنى ذلك هو أن الصداقة تقترن بالحرية، وأن هذه العداوة التي يضطر الحر إلى الاضطلاع بها تقترن بنوع من العبودية المختارة (مؤقتا ربما) ولأسباب خاصة، كما حين تضطر دولة إلى توقيع معاهدة صداقة مع دولة أخرى عدو لها، لأسباب قاهرة يفسرها منطق الدولة. يحدث أحيانا أن تتبادل نفس الدول والشعوب الضربات والهبات في آن، العداوات والصداقات. عاش المتنبي كالبهلوان السائر فوق حبل مشدود وسط الهواء، عاش متأرجحا بين الصداقات التي رامت التحقق مدحا في ثنايا سيادته الشعرية الباذخة، والعداوات التي انتهكت وجوده وحولته إلى جحيم والصداقة القاسية لعدو ليست ترفا شعريا ولكنها الداء والدواء، السم والترياق. تلك صيدلية المتنبي أو الفارماكون الخاص به. لقد ذهب وليم بليك الشاعر الإنجليزي بعيدا في ذلك حين قال: (كن عدوي حباّ في الصداقة). يبدو الاستدعاء الشعري للعداوة شبيها نوعا مّا بأمر قاعدي كنطي، وإذا كان المتنبي يختبر هذا المزيج الملتبس والمدمر بين العداوة والصداقة، يختبره في وجوده وشعره وجسده باعتباره نوعا من الوعي/الشقي أو مصدرا للمحنة والعذاب (ومن نكد الدنيا)، فإن وليم بليك من جهته ينادي على العدو من أجل التحقق الفعلي في علاقة ما حتى تتحقق الرغبة في الصداقة. العداوة من وجهة نظر بليك، شرط شارط للصداقة، بل إنها الماهية الذي بدونها لا يستقيم شكل هده الأخيرة. لعل هذه أقصى درجات الأريحية والعطاء والانفتاح على الآخر والاضطلاع بمسؤوليته ورؤية ملامح وجهه بوضوح. من أجل الاضطلاع بالصداقة الممكنة يهب الشاعر نفسه بكل مودة العداوة الممكنة أيضا. كلاهما، أي الصداقة والعداوة، مجرد ممكن. لذا يلزم القبول والاعتراف بإمكانية تداخلهما وتمازجهما حتى ولو بدا الأمر غريبا، لكن الأغرب هو أن الوقائع والأحداث وحقائق التاريخ والثقافة، تؤكد كلها هدا المزيج الملتبس لأن الفروق بينهما تتلاشى وتغيب ما داما متعلقان معا بالحيز الإنساني، حيز المدركات الحسية والأفكار والانهمامات. كل الفرق الواضح بين الشاعرين المتنبي ووليم بليك بصدد العلاقة بين الصداقة والعداوة، تؤسسه المسافة بين (ومن نكد الدنيا) و (حبا في). الأول عاش العلاقة كجحيم وأكده قوله التأكيدي الذي لا يحتمل، بالنظر إلى الكوارث التي عاشها المتنبي نفسه، الكذب، خصوصا بالنسبة لشاعر بارانوي وعصابي سعى إلى السلطة قدر سعيه إلى الشعر، واحترق في الجوار الرهيب للحاكمين، دون أن ينال حظه أو يحقق رغبته. يلزم القول بأن (الحر) في بيت المتنبي كما في (لسان العرب) هو النقيض للعبد وهو ما يعني أن الوضعية التي يتحدث عنها الشاعر هي العبودية بالذات. لا يبتكر الشاعر العدو لأن هذا الأخير كامن بالقوة في جوانية الصديق، تماما كما يكمن النضج في كينونة الفاكهة مع انبثاقها على أغصان الشجرة، حسب الاستعارة الفلسفية الهيذغرية في (الوجود والزمن) والتي ترى الموت «النضج» كامنا في قلب الوجود ولا يأتيه من الخارج. نصل إلى الصرخة النيتشية القوية سنوات قبل نهاية القرن التاسع عشر والتي قال فيها نيتشه: [يقول الحكيم المحتضر: أيها الأصدقاء لم يعد هناك صديق، أما الفيلسوف الحي فيقول: أيها الأعداء ! لم يعد هناك عدو.]. قال ذلك سنوات قبل الإيغال عميقا في ليل الصمت والعزلة والجنون، وأن يعلن القرن التالي (العشرون) ميلاده بحرب طاحنة (الحرب العالمية الأولى 1914-1918) التي انزرعت عبرها العداوة القصوى في الخنادق المترعة بالوحل والقتلى. بدت الصرخة حينها ذات طابع نبوئي مسكونة بحدس الكارثة، لأن القرن العشرون كان بالفعل من بدايته إلى نهايته، قرن بحث عن العدو، ابتكار له انطلاقا من تصنيفات وإيديولوجيات عنصرية تحتاج من مرجعيات متنوعة: دينية، عرقية، ثقافية...إلخ. رامت اللحظة الافتتاحية الإغريقية عبر أرسطو النداء على الأصدقاء للقول بالغياب المطلق للصديق، بالرغم من أن اللحظة التاريخية، الحضارية والثقافية، احتفت بالصداقة في أبهى صورها، لكن اللحظة الغروبية التي أرخها نيتشه، تؤشر لغياب العدو كأنها تحدس ذلك التناسل الرهيب والمقبل للعداوات في قرن شهد انبجاس أشكال متعددة من الحروب والعنف، وتشير في الوقت نفسه لفكر سياسي ناهض على إعادة الاعتبار لإشكالية العداوة والعدو عند مفكر الرايخ الثالث كارل شميت. هل نبحث في الصديق عن العدو والممكن، وفي العدو الشرس عن صديق محتمل؟ الصداقة صيرورة منذورة للخراب ولإرث الرماد وتاريخ الأطياف، تماما كما العداوة، ومن هنا بالذات يتأتى تداخلهما والتباسهما. لننتبه إلا أن قول نيتشه هو صرخة (فيلسوف حي)، أي أن البحث عن العدو مهمة لا تضطلع بها سوى فلسفة الحياة، تلك التي يبدعها من يتفلسف بضربات المطرقة.