1 ) تقنيات سردية متعددة : لا أُخفي أمرا حين أقول إنني متوجس بالفطرة ، من كل عمل إبداعي جديد حين أهُم بقراءته والاطلاع على فحواه. حيث أخشى أن أُصْدَمَ بمضامينَ فارغةٍ أو أَصطدم بجبل من اللامعنى ( مع التأكيد أن « الفراغ « قوة عند بعض المبدعين !! ) إلا أن حدثا غريبا – بشكل ما – حصل معي وقد انطلقت في قراءة رواية « ساعة الصفر « لعبد المجيد سباطة (1). العمل ضخم من حيث الكمُّ المَعْلومِيُّ الذي يرصد ويحكي، وقيمته لا تقف عند حدود استعراضه له، وإنما في التقنيات السردية التي وظفها الكاتب لأجل ذلك. ثم إن الحقبة الزمنية التي تغطي فضاءات الرواية تزيد عن نصف قرن ( من بداية ستينيات القرن الفائت إلى حدود سنة 2016 ) كلها مليئة بالأحداث المتسارعة و المتداخلة: مارسيليا، وهران، الرباط، قرية عين اللوح بجبال الأطلس المغربية، بويا عمر، تيندوف بمعسكرات الرابوني، بيروت … إلى غيرها من الأماكن الأخرى. وتبقى المحطة الأليمة في النص كله، سراييفو و موستار بالبوسنة، كبؤرة للْحَكِيِّ حيث تمت أبشع عمليات التقتيل والإرهاب البشرية حتى لا نقول « الإنسانية « بعد الحرب الكونية الثانية. يقول الراوي: « اقتنعت هنا بأن وحشية الإنسان قاعدة وإنسانيته استثناء ! « (2) وسيضطر التعدد الزمكانيُّ في النص و ارتباطُه بالأحداث الكاتبَ عبد المجيد سباطة إلى تنويع طرقه السردية، ما بين الحكي المباشر والحوار والقص والفلاش باك والتضمين واعتماد الحواشي أو الشروح الإضافية والقصاصة الإخبارية، ما يجعل من العمل « رواية ذات جيوب « (3) ، حيث الانتقال من قصة لأخرى مع تشابك الوقائع وارتباطها دون الإخلال بالنسق السردي العام. ومن شأن اطلاعنا على العناصر السردية الموالية أن يوضح مدى صعوبة التوفيق بين كل ذلك. لنتابع بؤر الحكي في النص : * العودة الاضطرارية للمعمرين الفرنسيين إلى بلدهم الأصلي (فرنسا) هاربين من شدة المقاومة الجزائرية واحتدادها بداية ستينيات القرن العشرين ( وهران و الجزائر العاصمة باتجاه مارسيليا ) * اختطاف طفل رضيع – مغربي- ثم تشريد عائلته كرد فعل انتقامي ، وذلك من قرية عين اللوح مع العمل على ترحيله إلى فرنسا لتنشئته في بيئة وحضن جديدين خلال ستينيات القرن العشرين. * مذابح الصرب العرقية ضد « البوشناق « المسلمين ( البوسنة ) وضد الكروات في البلقان بأوربا بداية تسعينات القرن العشرين. * الحروب والمناوشات العسكرية في الصحراء المغربية أواسط ثمانينيات القرن العشرين، مع ما راكم ذلك من تبعات : اختفاءات للجنود، اعتقالاتهم ومعاناتهم اللاإنسانية بمعتقلات وسجون بوليزاريو « معقل الرابوني نموذجا «. * قرية « لوتا « بالبوسنة حيث العثور على مقابر جماعية وحيث بداية القص عبر مذكرات الراوي المكتوبة باللغة العربية ( سنة 2016 ) * بيروت 2016 حيث فكرة نشر المذكرات والاتفاق مع دار للنشر والتوزيع . * الرباط ( دجنبر 1991 ) حيث حكاية حب لم تكتمل بفعل عناصر مستجدة ذات علاقة بأحداث معتقل الرابوني. أقول: بافتراض هذه العناصر الحكائية وغيرها المتشعبة، ستتأكد مدى صعوبة التجميع وخلق اللحمة بينها. إلا أن الكاتب ببراعة واحترافية كبيرتين أبان عن كعب عال في الحبك والصياغة، وتوفق في هذه المقدرة عبر سرد تناوبي بين شتى القصص في النص، جعل منه ساردا متنوعا بين الْمُهَيْمِنِ ، الضابط لكل تفاصيل العمل ( ساردٌ برؤيةٍ من الخلف) وبين سارد ذي رؤية متلازمة حين يقوم بمصاحبة شخوصه في أحداثهم و أفكارهم ( ساردٌ برؤية مصاحبة ). 2) التفاصيل والجزئياتُ مقوماتٌ لِلْحَكِيِّ: كان عبد المجيد سباطة مطالبا – والحالة هاته – بإنجاز تفصيلات دقيقة لمجمل الوقائع الدرامية التي دارت حولها الأحداث، خصوصا ما له صلة بحروب « البلقان « وفي عروسها بشكل أخص ( البوسنة ) وبالضبط سراييفو العاصمة ( قدس أوربا ). فحين نطالع الرواية ، يتضح أن الكاتب أَلَمَّ بكل جوانب تلك اللحظة العسيرة وربما لم يترك حدثا ولو صغُر حجمه إلا وضمنه ( موستار و سيريبرينيتسا نموذجا ). يقول الكاتب : « أقسى ما في الحرب أن يتحول ضحاياها إلى مجرد أرقام باردة لا روح فيها.» (4). إذ نجدنا أمام اشتغال قوي على جغرافيا المنطقة وعلى التداعيات العرقية وعلى روحانيات الفكر الديني المسيحي بشتى تفرعاته حتى الأَقَلِّيِّ منه، ثم على التاريخ ( القديم والمعاصر ) الذي يلقي بظلاله على الفضاء. ولم يَفُتِ الكاتبَ أن يُذَيل ذلك بالهوامش التوضيحية الشارحة والتي تُفَصِّلُ بدقة المعلوماتِ و الأحداثَ الميدانية ( هناك اعتمادٌ على «اليوتوب» مثلا كمنصة وثَّقَتْ بالصوت والصورة لأحداثٍ وفظائعَ مرتبطةٍ بالسرد، حيث الإشارة إلى حالات عديدة مثل تدمير جسر موستار التاريخي. ) 3) نِقاط مضيئة في الرواية وأخرى للتداول : لا يمكن أن نقرأ النص دون التوقف عند بعض المقاطع الباذخة، حيث تشدُّنا حوارات فلسفية عميقة مرتبطة بوضعيات الشخوص وعلائقهم الإنسانية (5)؛ كما أن الوقوف على إشكالية حوار الأديان ( الإسلام و المسيحية ) وتفاعلها الميداني ، سواء في منطقة «البلقان» أو في بلدان فرنساوالجزائر والمغرب (إيجابا أو سلبا تبعا للمواقف الدرامية )كان موفقا بشكل جليٍّ، فنجد تضمين عدد من الحوارات واللحظات القصصية بكمٍّ كبير من الاستشهادات، كالسور و الآيات القرآنية وأيضا بما ورد في الأناجيل والأسفار على اختلاف رُواتها وكُتابها( 6). غير أن نقاط الضوء المشار إليها ، لا تُغنينا عن وضع الإصبع على غيرها ، والتي أعتبرها شخصيا غير موفقة أو أنها لم تصل إلى ذروة العمل في تكامله، ومن ذلك، أخص الآتي : * شخصية الفقيه عبد السلام إمام المسجد بقرية عين اللوح، إذْ أن الكاتب جعله يتحدث لغةً وفكرا وعلما و أدبا غاية في الدقة والحصافة والبيان و الرقي (7). الأمر الذي أراه غير منطقي بالنظر إلى الوضع الاعتباري للشخصية ( ما فاهَ به الفقيه يتطلب درجات أكاديمية عليا إلى جانب التكوينين الفقهي والعلمي !! ) لكن عبد المجيد سباطة أصرَّ على أن تُقْدِمَ هذه الشخصية على أدوار و أفعال سردَها على أساس أنها سهلة و سلِسةٌ (8)؛ لكنها عميقة في بُعدها الإنساني ، وهذا ربما ما هَوَّنَ مِن الوقع على المتلقي. كما أن الكاتب وظَّفَ ما اصطلح عليه العرب قديما ب « حُسن التخلص « ، حين اعتمد حُلولا « قَدَرِيَّةً « مختلفة ، جعلها أداة للحسم في تفاعل أدوار بعض الشخصيات ، مثل « الراهب فرانسوا «(9) . * ثم أنْ يكون الراوي قادرا على لعب دور البطل الملْحميِّ – الأسطوري في مواقفَ كثيرةٍ ، والتي قد يستحيل أن يتوفَّق في جميعها !! أذكر : أثناء حفر نفق سراييفو وما تبعه من أحداث تاريخية و تدخلات الراوي فيها، أو المُخاطرة الجمة التي كابدها وهو يقوم بإنقاذ الصغيرة و التنقل رفقتها في منطقة هو غريب عنها ( على الأقل جغرافيا ! ) بشكل كلِّيٍّ ، أو مغامرته بحياته لإنقاذ الشابة التي حاولت الانتحار عبر غَوْصِه بمياه أبي رقراق في الرباط، أو تدخلاته الطبية الناجحة منها و الفاشلة رغم أننا تتماشى و قَسَمَ أبقراط، إلا أنها تبدو « عجيبةً « شيئا ما !! 4) العِبرة بالخواتيم : إلا أن كل ما سبق ، لم يُفسدِ النسق السردي الذي اخْتطَّهُ الكاتب لروايته، والذي يعبر عن رؤية قوية و تمكُّنٍ بَيِّنٍ من هندسته و من مِعماره المخدوم بدقة وتخطيط سليمين. فديباجة العمل الروائي المقتبسة عن العظيم عبد الرحمان منيف ( من يقرأ الماضي بطريقة خاطئة سوف يرى الحاضر والمستقبل بطريقة خاطئة أيضا ) تجد صداها في عديد صفحات النص (10) ، ثم إن العنوان « ساعة الصفر « ذو صلة وطيدة بمجموعة من الأحداث المرتبطة ببعضها. فرغم كون هذه اللحظة قد انطلقت زمنيا في دجنبر بالرباط سنة 1991 ، حين توقفت عقارب ساعة الراوي بفعل غوصه في مياه أبي رقراق لإنقاذ إنسانَةٍ مقبلةٍ على النهاية/الانتحار (=الصفر) ، فإنها ارتبطت بولادة أخرى ، هي الحب، والذي ستستمر ظلاله حتى إلى البوسنة، المنطقة التي تعيش ساعةَ الصفر في مشوارها التاريخي، وكذا حتى في سجن « الرابوني « حيث سيجد الطيار المغربي (السلامي) المعتقل لدى بوليزاريو بالصحراء المغربية، الساعة الصفر التي سيتمكن خلالها من الهروب من جحيمه. ( لِنلاحظ هنا أن اللحظة /الصفر باتت تمثل الانعتاق، يعني الوجه الإيجابي !! ) الرواية بالنهاية تجسيدٌ حي لمرحلتَيْ : التيه و الخلاص بالنسبة لكل الشخصيات. فإنْ كان « قَدَرُ الغريب أن يرحلَ « (11) حسب الراوي ، فإنه « مُخطئ منْ يعتقد أنَّ الرائعِين يلتقون في البدايات « (12) . نحن إذاً أمام دعوةٍ صريحةٍ منَ الكاتب لنا جميعا، إلى البحث عن دواخلنا، عن ذواتنا، عن « أَنَانا « = الْأنا، لأنه و دائما حسب عبد المجيد سباطة : « ما أهْلَكَ الإنسانَ إلا فراغُ روحِهِ.»(13) الإحالات 1\ رواية: ساعة الصفر، لعبد المجيد سباطة، الطبعة الثانية عن المركز الثقافي العربي، 2018. 2\ الصفحة رقم 400 من الرواية. 3\ رواية ذات جيوب، تم استعمال هذه الصيغة خلال أواسط القرن 18 ، في المجال المسرحي.Roman à tiroirs 4\ الصفحة رقم 64 من الرواية. 5\ انظر الصفحة رقم 359 وما بعدها. 6\ تشتمل الرواية على نماذج كثيرة عبر صفحاتها ، تبين من جهتنا عمق اشتغال الكاتب على المادة، حيث البحثُ والتنقيبُ المُضْنيان خصوصا ما له علاقة بالأناجيل و تواريخها و مضامينها. كما أن ثمة تفصيلات و حواشٍ توضيحية وتفسيرية. 7\ انظر الصفحة 288 وما بعدها . 8\ انظر الصفحة 276 وما بعدها. 9\ الحديث هنا عن طريقة مقتل الراهب فرانسوا بالجزائر. انظر الصفحة 371. 10\ مثلا، نجد بالصفحة رقم 104؛ مقولة للكاتب : « كم هو مؤلم أن نستعين بجراح الماضي الكئيب على مواجهة قساوة الحاضر الرتيب .» 11\ انظر الصفحة 424 من الرواية. 12\ انظر الصفحة 349 من الرواية. 13\ انظر الصفحة 385 من الرواية.