غياب الجسد وحضور الفكر أعدم الإعدام، أمات الموت، ألغى الغياب، أعلن الميلاد، وأبدع الوجود،قهر الظلم وأنار الطريق، حي في التاريخ بل التاريخ حي به ، فهو التاريخ والحياة والوجود…ولد ليحيا المغرب ويوجد الوطن ، ولد سنة 1934 ببركنت عين بني مطهر ناحية وجدة …هذه الولادة وحدها رفعت عن وجدة التهميش والنسيان، وجعلتها تدخل العظمة من باب أنها ولدت عمر…فطوبى لوجدة، وطوبى للمرأة التي حملت عمر وأرضعت عمر، والمجد لكل امرأة أنجبت ولدا فأسمته عمر…رمز الحرية والتحرر، رمز النضال والكفاح، رمز الحق والعدالة، رمز الصدق والقناعة….دمه سقى المغرب، تدفق في الدارالبيضاء وساح في كل المدن والقرى المغربية، فكره يسري في كل مناضل شريف وفي الكون كله، أخلاقه نموذج يحتذى به ومثال ينشد. حاضر بقوة في كل زمان ومكان، في القلوب والعقول، في الفكر والوجدان ، في الرأي والممارسة، في الأفراد والجماعات، يسكن في كل مغربي، ويزعج كل خائن، يتحرك في كل مناضل، يطمئن كل شريف، ويرعب كل ظالم، يعد كل ديمقراطي ويوعد كل إرهابي….ارتبط بمدرسة للديمقراطيين في التكوين والجدية والالتزام والنزاهة ، في المواقف والتضحيات، في الإصرار والتحدي، في التربية والتوجيه، في الاجتهاد والإبداع….عبر انطولوجيا عن كينونة الإنسان المغربي المضطهد، أجاب عن الأسئلة المحيرة للقوى الحية الديمقراطية، علمنا كيف نرفض المألوف ونحطم المعتاد، كيف نكسر الأغلال ونثور على الأوهام، رسم لنا طريق التحرر والحرية ، علمنا قراءة الماضي وفهم الحاضر واستشراف المستقبل، علمنا السمو والشموخ، وحارب فينا الاستسلام وطأطأة الرأس ، حررنا من الخوف والجبن. إرادة وتحدي إن موقع عمر في عقل ووجدان الشعب المغربي ، موقع متميز ، حب وتقدير للرجل، احترام وإجلال ، اعتزاز وافتخار….رجل عظيم ، مناضل كبير…..إنه مناضل ، الاختيار الصعب ، اختيار النضال المؤسس على الإيمان بالمشروع الاشتراكي الديمقراطي، والمؤسس على الالتزام الذي يقتضي التضحيات الجسام التي قد تصل إلى تقديم الوجود/الفرد فداء للوجود/ الوطن. لقد صنع عمر مساه السياسي اعتقال، اختطافا بسجن….اعتقل يوم 16 يوليوز 1963 وحكم عليه بالإعدام يوم 14 مارس 1964، ثم أطلق سراحه يوم 14 أبريل 1965، ثم اعتقل يوم 16 مارس 1966 وبقي في السجن مدة عام ونصف، و أفرج عنه يوم 21 سبتمبر 1967 . توصل بطرد ملغوم يوم 13 يناير 1973 جاءته قنبلة متسترة تسابق الزمن لتقنبله على فراشه، فسبقها بيده، فخجلت وضاقت وجمدت واستحيت فلم تقدر على الانفجار، بعد أن انفجر عليها غضب عمر، وألقتها يده بعنف على الأرض وهو يقول: اخسئي أيتهاالحقيرة، حقيرة وأنت وحقير من أرسلك، واعتقل يوم 9 مارس 1973 ليطلق سراحه في 26 غشت 1974. تعرض لجريمة اغتيال بشعة في 18 ديسمبر 1975 حيث سقط شهيدا. مسار مكتوب بالألم ولكنه موشوم بالعزيمة القوية، والإرادة الأسطورية، موشوم بالصمود والصلابة ،ذلك ما تشهد به تواريخ اعتقال عمر، وأرقام زنزاناته وعدد وقفاته في الأقفاص وراء الشبابيك، خصوصا إذا وضعت إزاء عدد السنين التي تكون عمره الراشد، ولو أن عمر رشد قبل سن الرشد بل إنه الرشد الذي أرشد المغرب ورسم له الاختيار التاريخي. برباطة الجأش، وقوة الإرادة والإصرارعلى التحدي قاوم جدران السجن، وغالب القضبان والحديد، وانتصر على التعذيب والموت…واجه زوار الليل وجفاء الحراس والجدران البليدة لسجون مغربنا الناهض ….أبهر الجلادين بصموده وقدرته على احتقار التعذيب الهمجي والإرهاب الوحشي …لبس كل البذلات الزرقاء، حمل كل الأرقام الباردة….صراخ الأبواب، قرقعات المفاتيح ،ضجيج الأقدام، استنطاقات بوليسية مؤلمة، جوع وعطش، سب وشتم….كل هذا لم ينل من صموده شيئا…قوي لا ينكسر. إن مسار عمر هو مسار المحن والألم في لحظات رهيبة من تاريخ البلاد… هو مرجعية حية للمناضلين من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان، من أجل الحرية وكرامة الإنسان. المناضل الإنسان كان عمر بن جلون يتصف بكل خصال المناضل الملتزم، المناهض للقمع والاستغلال، وبكل خصال القائد السياسي التواق إلى الديمقراطية والحرية، التواق إلى المستقبل والإصلاح، بخصال نظرية وسلوكية كاليقظة العالية والاحتراز، والتقدم بخطوات محسوبة دون تسرع ودون مراوحة، وتجنب السقوط في الاستفزاز ورد الفعل، والانسياق وراء العواطف والأهواء مهما كانت نبيلة، وتحرر الفكر من عقاله وتخلصه من عاداته، وتأهب دائم لخوض غمار تحليل أصيل ومبدع لالتباسات الواقع، واقتراح حلول ومخارج مطابقة، وامتلاك الوعي التاريخي الذي ينظر إلى المدى البعيد والنظرة الشاملة التي تتجنب التجزيء…بخصال إنسانية ، بسيط ومتواضع، كريم وصادق ، مخلص ووفي ، وفي للتاريخ، للجماهير، للشعب ، للوطن، للأصدقاء…أمين وصريح، نزيه فكريا وأخلاقيا، رحيم وعطوف على المستضعفين…الإبن العظيم للشعب المغربي، ابن الطبقة العاملة – ابن عامل متقاعد في المكتب الوطني للكهرباء – ارتبط عضويا ومصيريا بالطبقة العاملة بالولادة والنضال، منذ كان طفلا، وظل حريصا على هذا الارتباط ينميه ويعمقه طيلة حياته النضالية. عصامي وشجاع،يعطي ويتواصل، طاقة جبارة على التعبئة والنضال في مختلف الواجهات الفكرية والحزبية والنقابية والإعلامية. عقلاني فكرا وسلوكا، تنظيرا وممارسة، العقل معيار الحقيقة ،العقل منهج لمحاربة التضليل والتضبيع …يمقت الانفعالات والتفكير بالعاطفة والانسياق وراء الشعارات والوقوع سجين الحماس المرضي، يرفض ممارسة النضال السياسي في شكل البلاغات والتجمعات الإخبارية والاكتفاء بالشعارات الدعائية على المستوى الجماهيري، يحتقر ثوار الصالونات، يكره الثرثرة والخطب الرنانة التي تدغدغ العواطف وتسيطر على المشاعر، يعلم أن تأثيرها مؤقت…وهذا ما جعله يفضل الاشتغال تنظيميا…يتحرك كثيرا…يتواصل مع المناضلين…يصنع التاريخ ايمانا منه بأن التاريخ يصنع ، ولا ينتظر المنتظرين والمتفرجين ، فإما أن ننخرط فيه ، وندقق كيفية وطريقة الانخراط وإلا أصبحنا متجاوزين سلبيين وعدميين. أسس المنهجية العلمية كما اعتمدها عمر كان يناضل من أجل تحرير الإنسان من جميع أنواع الاستغلال والاستيلاب، تحريره من الحرية الوهمية، من الجبرية المطلقة، من الحتمية العمياء، من الكسل والاتكالية، من الجمود والدوغماتية، من الجهل والظلام، كان يناضل من أجل تنوير العقول، عقول المغاربة، وتحريرها من جميع الأوهام والأصنام ،من الخرافات والمغالطات…كان يناضل من أجل إنسانية الإنسان، إنسان حر ومختار،فاعل وواع، إنسان يصنع التاريخ ويساهم في البناء…من أجل هذا وأكثر من هذا اعتمد عمر بن جلون المنهجية العلمية في الدراسة و التحليل والعمل والسلوك، اعتمد المنهجية العلمية قناعة واقتناعا بأنها وحدها القادرة على النفاذ إلى أعماق المجتمع البالغ التعقيد والدائب التغيير.ومن أسس المنهجية العلمية التي اعتمدها عمر لمقاربة الواقع المغربي: التحليل التاريخي والجدلي الذي يدرس المجتمع في تاريخه، يدرسه كواقع متغير ومتحرك ، يكشف عن تناقضاته الاجتماعية وصراعاته الطبقية ويبرز القوى الفاعلة فيه، اعتماد التحليل الملموس للواقع الملموس ورفض التحليل المجرد، التزام الدقة المنهجية والصرامة المنطقية والبرهنة العقلانية ورفض الأحكام المسبقة والقوالب الجاهزة والمعتقدات المسلم بها ، معانقة الوضوح والشفافية ومحاربة اللبس والغموض والالتواء، محاربة الخلط والتضليل. اعتماد الاجتهاد والابداع، إعمال العقل وتشغيل الفكر ورفض الاتباعية الجامدة والمحاكاة العمياء ، رفض النماذج المسبقة وتقليد التجارب التي لا صلة لها بظروفنا وواقعنا. ضرورة نظرة واضحة شاملة كمنطلق وإطار لجميع مخططاتنا الاستراتيجية وتصرفاتنا التكتيكية ورفض كل نظرة تجزيئية. عدم ادعاء امتلاك الحقيقة، الحقيقة نطلبها ولا نستطيع الإمساك بها كل ما أعرف هو أنني لا أعرف سيئا لا جنسية ولا قومية لقواعد العلم وضوابط أحكامه، فالحق لا وطن له….من هنا ضرورة الانفتاح على الفكر الإنساني والتعامل معه نقديا. قراءة الماضي قراءة مستقبلية، عدم القطع معه وعدم تمجيده وتقديسه. الاشتراكية منهجية لتحليل المجتمع وتناقضاته وتغييراته لا فلفسة ومحاولة لتفسير الكون، منهجية للتحليل والنضال لا عقيدة . الاعتراف بالأخطاء باعتراف أن الخطأ ليس شرا والحقيقة هي خطأ تم تصحيحه، الإيمان بدور الإنسان في تغيير المجتمع وبناء المستقبل، إرادة الإنسان هي المحركة للتاريخ.