جمعية بسطات تحتفل بالسنة الأمازيغية    الحرائق المستعرة تتسع بلوس أنجلوس.. ساحة حرب كاسحة وخسائر فادحة    المدرب المؤقت للرجاء ينتقد التحكيم    أولمبيك آسفي يعمق جراح الشباب    إلغاء تجمع "منتخب 2000 فما فوق"    توقيف تاجر مخدرات في سيدي إفني    "كوست ويف" يتجاوز البلوكاج بالجديدة... توفير ضمانات يحرر صافرتيْ إنذار    توقيف مروجين للكوكايين بالناظور    الخنوس أحد صناع الفوز العريض لليستر سيتي أمام كوينز بارك رينجرز    اختتام أشغال قمة التنمية الزراعة الإفريقية على خلفية التزام بزيادة إنتاج الصناعة الغذائية    دراسة تسلط الضوء على تحذير بشأن ارتفاع حرارة محيطات العالم    حصيلة ثلاث سنوات غنية من تجربة مسرح رياض السلطان بطنجة    حرائق لوس أنجلوس تخلف 11 قتيلا والنيران تأتي على أزيد من 14 ألف هكتار    كمبالا: البواري يؤكد التزام المغرب بتطوير فلاحة قادرة على الصمود    أخطاء كنجهلوها.. أهم النصائح لتحقيق رؤية سليمة أثناء القيادة (فيديو)    "قيادات تجمعية" تثمّن الجهود الحكومية وورش إصلاح مدونة الأسرة المغربية    مسؤول أمني: مدرسة تكوين حراس الأمن بمراكش تروم الارتقاء بمنظومة التكوين الشرطي ودعم لامركزية مراكز التدريب    طقس الاحد.. امطار ضعيفة بالواجهة المتوسطية والشمال الغربي    اليمن بمن حضر فذاك الوطن    عرض مسرحية "أبريذ غار أُوجنا" بالناظور احتفالا بالسنة الأمازيغية    بفضل الرؤية المتبصرة لجلالة الملك، مسار الانتقال الطاقي يسير قدما مدعوما بإصلاحات استراتيجية ومنظومة مبتكرة (مركز تفكير فرنسي)    الصمت يرافق ذكرى أول وفاة بسبب "كوفيد" في الصين    مؤسسة وسيط المملكة: تحسين العلاقة بين الإدارات ومغاربة العالم    إيقاعات الأطلس تحتفي برأس السنة الأمازيغية في مسرح محمد الخامس    المغرب بين المكاسب الدبلوماسية ودعاية الكراهية الجزائرية    جدل دعم الأرامل .. أخنوش يهاجم بن كيران    آيك أثينا ينهي مشواره مع أمرابط    زياش يمنح موافقة أولية للانتقال إلى الفتح السعودي    الملك محمد السادس يهنئ سلطان عمان بمناسبة ذكرى توليه مقاليد الحكم    حادثة سير مميتة بطنجة: وفاة لاعب وداد طنجة محمد البقالي في يوم يسبق عيد ميلاده ال16    اعتداء عنيف على الفنان الشهير عبد المنعم عمايري في دمشق    نفسانية التواكل    ذكرى 11 يناير تذكر بصمود المغاربة    مطالب متجدّدة لأمازيغ المغرب وأماني وانتظارات تنتظر مع حلول "إض يناير" 2975    الصناعة التقليدية تعرف تطورا إيجابيا بتحقيق نسبة نمو 3% خلال سنة 2024    ارتفاع درجة الحرارة العالمية.. الأمم المتحدة تدعو إلى التحرك لتجنب أسوأ الكوارث المناخية    الصين تعرب عن رغبتها في نهج سياسة الانفتاح تجاه المملكة المتحدة    الشرطة المغربية تتدخل ضد أم عنفت طفلها بعد تبليغ من مدرسته    مكناس.. الاحتفال بالسنة الأمازيغية الجديدة على نغمات فني أحواش وأحيدوس    واشنطن "تتساهل" مع مليون مهاجر    إسرائيل تواصل التوغل في سوريا    بعثة نهضة بركان تصل إلى أنغولا استعداداً لمواجهة لواندا سول    طنجة... الإعلان عن الفائزين بجائزة بيت الصحافة وتكريم إعلاميين ومثقفين رواد (فيديو)    بطولة ألمانيا.. بايرن ميونيخ يستعيد خدمات نوير    وفاة وفقدان 56 مهاجرا سريا ابحرو من سواحل الريف خلال 2024    إنفوجرافيك l يتيح الدخول إلى 73 وجهة دون تأشيرة.. تصنيف جواز السفر المغربي خلال 2025    الصين: تنظيم منتدى "بواو" الآسيوي ما بين 25 و 28 مارس المقبل    رواية "بلد الآخرين" لليلى سليماني.. الهوية تتشابك مع السلطة الاستعمارية    مراكش تُسجل رقماً قياسياً تاريخياً في عدد السياح خلال 2024    بورصة الدار البيضاء تنهي تداولاتها على وقع الأخضر    أغلبهم من طنجة.. إصابة 47 نزيلة ونزيلا بداء الحصبة "بوحمرون" بسجون المملكة    بوحمرون: 16 إصابة في سجن طنجة 2 وتدابير وقائية لاحتواء الوضع    ملفات ساخنة لعام 2025    ارتفاع مقلق في حالات الإصابة بمرض الحصبة… طبيبة عامة توضح ل"رسالة 24″    أخذنا على حين ′′غزة′′!    الجمعية النسائية تنتقد كيفية تقديم اقتراحات المشروع الإصلاحي لمدونة الأسرة    فتح فترة التسجيل الإلكتروني لموسم الحج 1447 ه    وزارة الأوقاف تعلن موعد فتح تسجيل الحجاج لموسم حج 1447ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المعجم التراثي في ديوان «قلق البارادايم» للشاعر مصطفى غلمان

تتمثل أصالة المبدع في ارتباطه بتراثه، وبمنابع ثقافته وتمسكه بأصوله، ومن هذا الارتباط والتمسك تنبع شاعريته وتتكون شخصيته. والتراث لا يمكن اعتباره شهادة على ما تمَّ تحقيقه في الماضي، بل على ما سيحققه في الحاضر والمستقبل. فالشاعر المعاصر بتعامله مع تراثه بوصفه مصدرا للتدليل على الحاضر يولد لديه إيمانا بِكَوْنِ هذا الماضي والحاضر لهما الخصائص نفسها، وبأن الكائن البشري قد يعيش المشاكل والتناقضات نفسها عبر الأزمنة. وهذا ما يجعلنا نستوعب بأن التراث هو تاريخ الأمم السياسي والاجتماعي والاقتصادي والقانوني، إذ يعكس إنجازاتها في كل المجالات العلمية والأدبية التي يُفصح عنها الإنسان بأساليب تعبيرية مختلفة ومتباينة، تكشف عن خبراته ونشاطاته وما يرتبط بحالاته النفسية والعاطفية ومواقعه الاجتماعية ومواقفه السياسية.
عرف الشاعر العربي على مدى الأزمان موروثه واستفاد منه تضمينا واستلهاما وتشبيها، فضلا عن الموروث الإنساني، لكن الموروث بالنسبة للشاعر العربي المعاصر وموقفه منه يكاد يتسم بالتميز بسبب تطور الوعي لديه على مستوى الموقف ومدى فهمه للثقافة وهذا ما حدا بالشاعرالمعاصرإلى توليد علاقة مثاقفة واعية بالتراث والعمل على تفعيله”باعتباره معطى حضاريا وشكلا فنيا في بناء العملية الشعرية”. وكما تأثر العديد من الشعراء العرب المعاصرين بالتراث أمثال “السياب والبياتي وأدونيس” نجد الشاعر “مصطفى غلمان”قد شرب منه حتى الثمالة، وهذا ما نلاحظه في ديوان “قلق البارادايم”الذي تعكس معظم قصائده المعجم التراثي الذي تختلف مصادره وتتنوع بين الموروث المستلهم من الدين الإسلامي والشعر العربي والتاريخ وعلم النفس والفلسفة، ونحن في هذه الدراسة سنحاول الكشف عن بعض من هذا المعجم التراثي الغني في الثقافة الإنسانية، ومدى استفادة الشاعر وتأثره به.
1.المعجم الديني الإسلامي
لاشك أن للبيئة الإسلامية الأصيلة التي نشأ الشاعر وترعرع فيها وكذا الثقافة الدينية التي تلقاها في محيطه الأسري والمدرسي أثرها الفاعل والمؤثر في تشكيل شخصيته الشعرية التي طبعت إنتاجه الأدبي، لذلك كان التراث الإنساني عامة والعربي الأصيل خاصة بمصادره المعروفة من قرآن كريم وأدب عربي بمفهومه الواسع، وكل ما يمت بصلة إلى الحضارة العربية الإسلامية زادا له في إنتاجاته وإبداعاته الشعرية.
إن المصدر الأول للمعجم التراثي في شعر “مصطفى غلمان”هو القرآن الكريم، باعتباره كتابا مقدسا أُنْزِلَ على رسول الأمة، ودستورا سَنَّ الشرائع والأحكام لتنظيم المجتمع الإسلامي في كل المجالات، واعتماده من لدن الشاعر ساهم في تنظيم علاقته بذاته وبالآخر وبالمجتمع وبخالقه. فهيمنة المعجم الديني في قصائد الديوان تعكس مداومة منتج الخطاب الشعري على قراءته له وحفظه لبعض مُتونه، وهذا يتمثل بشكل واضح وجلي في قصائده يقول الشاعر:
حيث تزفر أغنيات الحياة
ملأى القطوف الدانيات..
قال تعالى:﴿فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٍ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَ أَسْلَفْتُمْ فِي الاَيَامِ الْخَالِيَةِ﴾.
يقول الشاعر:
أرديت كل كمين في غاربة مثخنة..
من سجيل بأس
هرم الرأس واشتعل شيبا..
قال تعالى:﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّاْسُ شَيْبا﴾.
يقول الشاعر:
فلم تأتمر بالهواء ولا نامت
حتى انقضى النهار واشتعل الليل حردا
أزفت في لمة الصمت
وناحت…
قال تعالى:﴿وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ﴾
وقال تعالى:﴿هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذرِ الأُولَى أَزِفَتِ الآزِفَةُ﴾
يقول الشاعر:
ولا تُدم أسري حريقا
قد فرى بالبين غصبا..
قال تعالى:﴿وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَّلِكٌ ياخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً﴾
يقول الشاعر:
فلتشهدوا..
وطاويط السحت يستدرجون الرعاع
لياكلوا من ثمار الشجرة المحرمة…
اقبلوا إذن..
أن نداري العورة بمن راوغت المعصوم..
وسرعان ما اكتتبوا..
فحشروا فنادوا في تخاريفهم..
قال تعالى:﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِي لَهُمَا َمَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدين وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِين فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرقِ الْجَنَّةِ﴾.
وقال تعالى: ﴿فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى فَكَذَّبَ وَعَصَى، ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى فَحَشَرَ فَنَادَى﴾
يقول الشاعر:
أكره السفر العذوب وبذار الصمت الحؤول
كلما مسني الضر
قال تعالى: ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ اَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾.
إن لجوء الشاعر “مصطفى غلمان” إلى المعجم الديني الإسلامي في نسج أبياته منحه حرية في الاختيار والحركة، مما حدا به إلى تجاوز الرتابة في الوزن والقافية، ومنحه أيضا قدرة على خلق الصور والرموز، والتغلغل في ضروب الصراع الذي تعرفه الحياة والحضارة الإنسانية الحديثة. والشاعر في توظيفه الصور والرموز يتجاوز المستوى الشعري للرمز، ذلك أن التقيُّد بالرمز اللغوي يحُدُّ من الإيحاء الذي يتوخاه المنتج للنص ويقتُلُه، ومن ثمة فالشاعر لا ينقطع عن الدلالة المعجمية؛ لأنها تبقى المرشد الذي يستعين بها للوصول إلى المدلول الجديد. وعليه فإن المعجم الديني الإسلامي المعتمد من لدن المبدع لا ينفصل عن التجربة الشعرية، بل هو مرتبط بها ارتباطا وثيقا لما لها من علاقة تداخل وامتزاج.
إن اعتماد الشاعر المعجم الديني الإسلامي “تقتضيه رؤيته المعاصرة التي تستلهم الماضي ليكتسب دلاليا أبعادا إيحائية، تُعبِّرُ عن الحاضر”، فاستعمال المعجم الديني يعني إعادة استخدام الماضي من خلال صوره التي التصقت بذاكرته ليخدم رؤيته للعالم وللوجود، وهذا يبرز أن تجربة الشاعر التي تغترف من هذه الينابيع الدائمة التدفق والجريان، تزداد نضجا وتكتسب أصالة بنوع من التماهي مع الموروث الديني وتجديده في نفوس الأجيال بتعابير جديدة، الأمر الذي يخرج بمنتج الخطاب من إطاره الضيق حبيس التجربة الشخصية إلى تجربة أكثر عمقا، لذلك سعى الشاعر ومن خلال استحضار هذا المعجم تقديم وظيفة إشعاعية في خطابه الشعري، فمن خلال “قراءتنا له نستدعي من ذاكرتنا ما يقترب من ظلالٍ وإنجازات ودلالات، وقد يتجاوز الأمر إلى مستوى استحضار مرحلة تاريخية كاملة مقترنة به”
عكست النماذج المدرجة سلفا اعتماد الشاعر النص القرآني باعتباره مصدرا رئيسا، يستلهم منه معجمه الذي وظفه بأشكال مختلفة وطرق متنوعة، فتارة يستعيره على مستوى اللفظ الواحد وأخرى يصوغه في شكل عبارة، مما يجعل الكتاب الحكيم منبعا سخيا لمنتج الخطاب الشعري؛ لأنه يمثل الجانب الروحي المتأصل في كيانه، وهذا يُبَيِّنُ تأثره بالقرآن الكريم بشكل كبيروإيمانه به، معجب بألفاظه ومعانيه وأسلوبه وجرسه، ويتجلى ذلك في توظيفه للآيات القرآنية وتراكيبه اللغوية، مما يعكس اقتناعه بما يُحدِثه الكتاب المقدس من تأثير في القارئ وما يتركه في نفسيته من انطباع، لهذا عمد إلى استعماله ليبلّغ تجربته ومعاناته، ويُبدِع في لغته الشعرية المنبثقة من شخصيته، وما تشبع به من ثقافة إسلامية، مما جعل أفكاره المستلهمة من العقيدة الإسلامية تتعالق في فضاء قصائده الشعرية بنوع من التداخل الفني، تعكس موقفه تجاه الكون، ليشكل صورة تكشف عن تجاربه ومعاناته الخاصة في الحياة، في نسق فريد، يتبناه النص بفضاءاته الشاسعة.
1.المعجم الشعري
يعتمد الشاعر “مصطفى غلمان”في بعض الحالات مثله مثل أي شاعر آخر على خطاب أو خطابات أخرى، لبيان غرضه الشعري حيث يُضَمِّنُ قصائده بيتا أو أبياتا شعرية بدقة ووعي بارزين، مما يُبين التفاعل والتلاحم بين خطابه والخطاب الغائب، وهو في هذا الشأن يجعل المعجم الأدبي التراثي طبيعي، يقبل الانصهار في شعره دون أي مقاومة، يمنحه قيما جوهرية جديدة، تمثل إضاءة لمرجعية تاريخية تظهر في شكل فني، مما يجعل الحدث التاريخي أو الرمز له حيويته داخل النص، وقد عرج الشاعر إلى المعجم التراثي الشعري القديم والحديث منتقيا ما يسعفه من أبيات وعبارات، تمنح قصائده أبعادا نفسية واجتماعية وجمالية بارزة وملحوظة، مع بعض التحوير والتغيير، وهو ما نلاحظه في هذه النماذج يقول الشاعر:
أيا معذبي أطلق سراح غضابي
ولا تدم أسري حريقا.
ومعجمه مستوحى من قصيدة “الأطلال” ل”إبراهيم ناجي” الذي قال:
أعطيني حريتي أطلق يدي
إنني أعطيت ما استبقيت شيّ
آه من قيدك أدمى معصمي
لم أبقيه وما أبقى عليّ؟
ويقول الشاعر:
انتهى نمق التبانة
عاد نيرون إلى صومعته..
ولا نيرون يحرق المدينة
ومعجم قصيدة “غوائل إنسانية” يتقاطع مع قصيدة “نيرون” ل”خليل مطران” الذي قال:
ذلك الشعب الذي آتاه نصرا
هو بالسُّبَّة من نيرون أحرى
أيّ شيء كان نيرون الذي
عبدوه كان فظ الطبع غرّا
منحوه من قُوَاهُم ما به
صار طاغوتا عليهم أو أضرّا
ف”خليل مطران”استهوته شخصية “نيرون”الشريرة واتخذه رمزا للتعبير عما يفعله المستعمر بالشعوب العربية، والشاعر “غلمان”اعتمد الشخصية نفسها لرسم صورة الطاغية وأساليب القهر الممارسة على الشعوب العربية، والشاعران يُعبٍّران عن موقفهما الثابت ضد الطغيان وضد الطغاة. فالقصيدتان تعكسان روح الثورة والتمرد والنقمة على الطغاة، وحب الحرية لكن برؤى مختلفة وزوايا نظر متباينة.
تبرز قصائد ديوان “قلق البارادايم”التي تتقاطع مع قصائد أخرى أن الشاعر “غلمان” “صاحب نظرة ومنهج في تذوق الشعر وفهمه، فهو يحمل تراثه الشعري في باطنه، الذي ينطلق منه فيكون فهمه وتقديره لدور الشعر”، انطلاقا من اختياره للنماذج الصالحة للتفاعل، ليؤسس رؤيا ورؤية، “ومن هذه الرؤية الجديدة يُبدع شعره الجديد. فالابتداع تواصل مع التراث وانقطاع عنه معا، ارتباط به وثورة على الفاسد منه، حتى لا يكون نسخة عنه وتقليدا له، ولا يُعدُّ هدْما للقديم بقدر ما هو إعادة قراءة لهذا القديم وصياغته في قالب جديد في ضوء التجربة الحديثة”.
1.المعجم التاريخي
2.يرتبط المعجم التاريخي ببعض الشخصيات التي ورد اسمها في قصائد الديوان بحسب الأحداث والوقائع التاريخية، ومن هذه الشخصيات شخصية الخليفة الثالث “عثمان بن عفان” التي من خلالها نستحضر حادثة الغدر التي تعرض لها في عقر داره من لدن عشيرته. ترتب على إثرها اضطرابات أدت إلى انفراط عقد السلطة وبداية الصراع حول الخلافة، نتج عنه انقسام في صفوف المسلمين الذين صاروا طوائف تتناحر فيما بينها، ليتطور المشكل من بُعده الديني العقدي إلى بُعده السياسي. وهو الأمر نفسه التي تعيشه المجتمعات العربية الإسلامية في وقتنا الراهن، وقد عبر الشاعر عن هذا الوضع المزري الذي آلت إليه أحوال هذه الأمة يقول:
مذ تشرذمت قبائلنا
وقميص عثمان هدور إلى اختطاف ماء الخلافة..
عدنا كالداهمات خلف العروش والأوصاب وقروح الأبدان..
قطعنا دابر الحمد
على مقاصل الحصار..
أضحى ضعفنا فخرا وجسارة..
إن الشاعر “مصطفى غلمان”في استعماله للمعجم التاريخي الذي يمثل رمزا له دلالته الإيحائية، يُعبِّرُ عن معاناة خاصة، تبرز من خلال تتويج فضاء القصيدة بنسق رمزي يتسم بالتفرد، يتواصل مع الماضي تواصلا آنيا في تلازم معنوي يقوم على استمرار في التجارب الإنسانية العامة، مما يجعل صلته بالتراث في بعده الأدبي تظل قائمة، وتوظيفه للمعجم التاريخي نابع من براعة خاصة ترتبط بموهبته الفريدة في نسج الشعر، واستعماله له مرتبط دلاليا مع عمق تجربته ومعاناته الشعورية والشعرية، مما يمنحه إمكانية استحضار الرمز بفنية وتقنية عاليتين، ليدعم دلالة النص العامة، باعتباره نصا له أبعاد تتسم بالتكامل في تعاقب زمني مؤسس على الديمومة واستمرارية التجارب للكائن البشري. وقد كان للأنبياء أيضا حضور له فاعلتيه يمثل صلة خاصة بين العالم الروحي والعالم الحسي. ومن بين أسماء الأنبياء التي وظفها الشاعر نجد”آدم، يوسف، النبي…”، يقول الشاعر:
لا تكنسوا غُبار الأرض..
فقط، اندسوا في ثلمة الخسارة،
كي تعوضوا تفاحة آدم وتعاقبوا إبليس،
لأنه أغوى كبرياءنا في أغماض المحرم..
سأل أبيقور آدم وهو مستلق على ظهره:
ما عزلة النفس وانفرادها؟
ما كنا ندري أن الصواع سرق في غفلة من خنوع بليد
قال النبي:
لا تأكلوا أبناءكم على وجهها..
تمثل هذه الأسماء رمزا يكشف عنه الخطاب، لينقل موقفا ورؤية تتضمن في طياتها إبداعا فنيا، يشكل بؤرة تكشف عن مناطق عميقة في النفس والتجربة، تسعى إلى التغيير بإحداث ثورة ضد النكوص والعقم، وتحديا لكل ما يستدعيه واقع الحياة من جمود وركود وألم وضعف، أملا في إثراء الحياة بالخير والخصب.
إن الهاجس الذي يتحرك به الشاعر”مصطفى غلمان”داخل خطابه الشعري هو الثورة والتمرد على الظلم والطغيان والجبروت في وجه الواقع المقيت، فاستخدامه لهذه الرموز يشكل إشارة واعية يربط بها الواقع مع الآخر في تجانس وانسجام فني وبناء درامي عالٍ، يتسم بقيمة شعرية متميزة.
عمل الشاعر على إنعاش بعض الرموز التاريخية في قصائده، وتوظيفه للمعجم التراثي التاريخي يعني إعادة استخدام الماضي من خلال خلفيته المعرفية المكتنزة برصيد وافر، واستحضاره -“آدم وعثمان ويوسف المتضمن في لفظ الصواع ونيرون”- الرمز، يُسْقِطُ عليه حالته النفسية ويتستر داخل التجربة الماضية، يُقَلِّبُها وينهل من معينها، ليصور لوحة تعكس رؤيته المعاصرة وتجربته الحاضرة، مما يبين أن نفسه تحمل السخط والرفض لهذا الواقع المأزوم والمحموم، الذي اختلطت فيه الأدوار واضطربت الموازين، فولَّد له هذا الأمر قلقا.
إن توظيف المعجم التراثي في ديوان “قلقالبارادايم”يسعى من خلاله الشاعر التعبير عن بُعْدٍ من أبعاد تجربته وعن رؤياه، إذ يُعدُّ الينبوع الدائم التفجر بالقيم، والأرض الصلبة التي يبني عليها حاضره الشعري الجديد، والدرع الواقي الذي يحتمي به، فيوفّر له الأمان والسكينة.
نخلص إلى أن المعجم الديني الإسلامي شكل مصدرا مهما لثقافة الشاعر، نظرا لأهميته وغناه، للبحث عن الحقيقة، ولم يمثل المعجم الديني للشاعر مجرد “مجموعة من المواعظ والإرشادات والحكم بقدر ما ينطوي على أشياء أشمل من ذلك وأوسع، يكون التعبير الجميل عن حقائق الوجود من زاوية الثقافة الدينية”، كما شكلت الشخصيات التاريخية الأصوات التي عبّر بوساطتها عن أفراحه وقلقه، مستشرفا النصر والتغني بالحرية، متخذا من هذه الشخصيات قناعا يبث من خلالها خواطره وأفكاره، كما تمكن من المزج بين ما هو موضوعي وما هو ذاتي، ولجوء الشاعر إلى هذه الشخصيات يسعى بوساطتها التعبير عما تعيشه المجتمعات العربية من ظروف سياسية واجتماعية خانقة، موظفا معجمه بحنكة وذكاء، للكشف عن مظاهر الفساد في هذا المجتمع، مصوِّرا ما يجول بدواخله وما يختلج في صدره من آلام وهموم وقلق، حيث اختار من ذلك ما يوافق ويتوافق مع تجربته، ليمنحها نوعا من الأصالة والعموم من خلال ربطها بالوجود والتجربة الإنسانية في شموليتها، ومُعَبِّرا بصيغ تحمل دلالات جديدة، لتكتسي حياة جديدة. ومن ثمة فقد شكل المعجم التراثي سواء منه الديني أو التاريخي أو الشعري مصدرا سخيا وإلهاما استمد منه نماذج وموضوعات وصورا أدبية، نظرا لما يكتنزه من قيم إنسانية عبّر بوساطتها عن جوانب مهمة من تجاربه الخاصة، فقد نجح في توظيفها وأنتجت لغة شعرية متميزة، ويكمن هذا التميز في الصدق الذي يتمتع به الشاعر، صدقه مع ذاته ومع الآخر. كما استطاع أن يربط بين الماضي والحاضر، فأنتج شعرا يتسم بالغنى على مستوى المعجم التراثي، مقدما رؤيته بأسلوب قوامه التلميح والترميز، الأمر الذي جعل من خطابه الشعري مَتْنا مفتوحا على مختلف القراءات وفسح المجال لتأويلات متعددة من خلال الإيغال والاستنباط والاكتشاف.
لائحة المصادر والمراجع
القرآن الكريم برواية ورش عن نافع.
إبراهيم ناجي، الديوان، دار العودة، بيروت، 1980.
خليل مطران، الديوان، مطبعة دار الهلال، القاهرة، مصر، 1949.
سامح الرواشدة، إشكالية التلقي والتأويل “دراسات”، منشورات أمانة عمان الكبرى، الطبعة الأولى، 2001.
صلاح عبد الصبور، الأعمال الكاملة، أقول لكم عن الشعر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1992.
عباس إحسان، اتجاهات الشعر العربي المعاصر، طبعة دار الشروق، عمان، الأردن، 1978.
علي جعفر العلاق، في حداثة النص الشعري، دراسة نقدية، طبعة دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1990.
فاتح علاف، مفهوم الشعر عند الشعراء الرواد، اتحاد كتاب العرب، دمشق، سوريا، 2005.
كاملي بلحاج، أثر التراث الشعبي في تشكيل القصيدة العربية المعاصرة، قراءة في المكونات والأصول، اتحاد كتاب العرب، دمشق، سوريا، 2004.
كمال زكي أحمد، دراسات في النقد الأدبي، دار الأندلس، بيروت، الطبعة الثانية، 1980.
مصطفى غلمان، ديوان قلق البارادايم، منشورات اتحاد كتاب المغرب، فرع مراكش – 6- المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش، الطبعة الأولى، 2015.
المجلات
بوعيشةبوعمارة، الشاعر العربي المعاصر ومثاقفة التراث، كلية الآداب واللغات، جامعة محمد حيضر، بسكرة، العدد8، 2011.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.