في ظل تزايد وتيرة النداءات المطالبة بإصلاح المنظومة التعليمية ببلادنا ، فإننا نرى أن الإصلاح لا يكون بتكوين اللجان واختيار عينات من المؤسسات ، ودبلجة مقترحات وتوصيات ، وندفع بالعجلة إلى التحرك من جديد دون دراسات ميدانية وواقعية للأفق المغربي. فنحن نريد كل شيء، وبالمقابل نفقد كل شيء: نريد إصلاح المناهج ولكن بتغيير الطبعات والأشخاص والنصوص فقط . نريد تغيير الإيقاع الزمني ولكن بتضخيم الساعات وتراكم الحصص. نريد تغيير نمط المراقبة و التقويم ولكن بولوج المعلومات والكل يفتقد إلى الخبرة. ودوما نتساءل : ما أصاب المدرسة العمومية ؟ ولكن هل تملك السلطات الوصية على القطاعات الجرأة على البوح بمكامن الخلل ؟ وهل تستطيع السلطات الكشف عن أسباب تدمير المدرسة العمومية بخلفيات ومرجعيات :« ونحن ننادي من أجل الإصلاح الترقيعي فقط » . فيكفي أن نمر بمؤسسة ما تعليمية أو صحية ونرى البؤس على جدران البناية . من بعيد تتراءى معالم الحزن تبدو على مرفق عمومي : جنبات كلها حفر ورمال ، وكلمات نابية وصور وشعارات كلها توحي بالاستهتار والسخرية. فكلنا مسؤولون ، وكلنا مقصرون ، وكلنا نتباكى ، ولا نجد المتنفس إلا في إلصاق التهم إلى بعضنا البعض . وتبقى المشاكل معلقة إلى إشعار آخر ... فالأسرة المغربية أصبحت مفككة : الأهم لكل واحد توفير لقمة خبز . وتوخي الحذر من المشغل خوفا من الطرد والانغماس في العطالة أو في البحث عن شغل آخر. الكل وجد الحل في المدرسة الخصوصية : ادفع مالا وهناك من سيتكفل بالتدريس والنجاح . وينشأ الطفل بعيدا عن الحنان الأبوي والعيش في كنف خادمة أو مربية . وهنا يكون التحصيل غير متكامل حيث تفقد أسس التربية على القيم والمواطنة لاعتماد مناهج غربية ولغة استعمارية. وتبقى الطبقة الشعبية تصارع الزمان من أجل تلبية حاجيات أطفالها . وتلجأ إلى المدرسة العمومية، وهنا تبدو الفوارق الاجتماعية حيث يوجد خليط من الأبناء: أبناء موظفين ومستخدمين، ووافدين من قرى أو ضواحي قريبة. ولكل فئة تقاليد ومفاهيم ، ويتجلى ذلك الفرق في المستوى لكل طفل : أسرة مهتمة، وتبقى متعاونة، وأسرة غائبة. ويبقى التباين في التحصيل، ويبقى الاحتكاك اليومي يسيطر على كل طفل، وكل واحد ينقل أفكاره إلى الآخر وتنصهر كل تلك المعطيات لتولد في الأخير نمط معينا يتجلى في عدم الاهتمام بالدراسة ، وإلصاق التهم بالمدرسة. والمدرسة المغربية المتسمة بالبنايات الإسمنتية والانغلاق على محيطها جعل منها تلك المقصلة التي تزج بها رؤوس نساء ورجال التعليم ونحن كمربين و كمدرسين لا نضع على أنفسنا إكليل القداسة . فالكمال لله وحده ، ونحن ضيعنا فرص الاستفادة وتلذذنا قيما يفرض علينا من مناهج ومقررات ومذكرات، وأحببنا الكسل بدل الجد، واعتمدنا على المراجع وحدها كسبيل للتعليم، وافتقدنا إلى روح المبادرة، والكل هاجسه إنهاء المقرر، وتنظيم الفروض المحروسة، والنيل من كل طفل خالف أفكارنا. والكل هاجسه إنهاء المقرر، وتنظيم الفروض المحروسة، والنيل من كل طفل خالف أفكارنا أو ما أردنا نحن تكريسه من عبودية الخضوع للأكبر. فلا ميثاق شرف يجمع بيننا وبين الأطفال. كلنا لا نبالي إلا بأيام العطل والتخلص من ساعات العمل. وابتعدنا عن المبادئ وبدأ التناحر بيننا/ الكل ينغمس في جبته الحزبية الضيقة، أو النقابية النفعية. وكلنا ..تخندق في آفة الترقية: الدرجات والسلالم والرتب فأصبحت لغتنا متفرقة رغم أننا نتكلم كلنا لغة التربية والتعليم، ولكن انتشرت ظاهرة التسول عفوا الساعات الإضافية أو الإجبارية أو التقوية والدعم وكلها مصطلحات نخرت الجسم التعليمي ببلدنا. وهذه هي الحقيقة المرة التي لا نتقبلها. أما ذلك الدور الذي كان يقوم به المدير فلقد أصبح جزءا من الماضي الدفين وتركزهم الإدارة على إنجاز الوثائق والإحصاءات وكتابة التقارير المناسباتية بل هناك من حول المدرسة إلى ضيعة لا يعرف منها سوى الاسم دون إغفال المحسوبية والمحاباة وخلق المشاكل السطحية والتي تستمد قوتها من سياسة فرق تسد. وأصبحنا نرى الطوائف في كل مؤسسة . وانتهى ذلك الزمان الجميل لما كان يسمى بالمفتش الذي كان يؤطر ويبادر ويكون، ويقدم الجديد. أما اليوم فنحن أمام موجة همها الوصول إلى أعلى الرتب ، والتهافت على البرامج والانتماء إلى كل الجمعيات وإلى كل اللجان وإلى كل القرارات. وابتعد المفهوم التأطيري ليشمل زيارة ونقطة وكفى المؤمنين القتال. والأغرب من هذا، إذ عرجنا على المؤسسة داخليا فلقد حولها الحراس إلى دكاكين حيث يتم الاستيلاء على الحجرات الفارغة وتحويلها إلى خزان للمتلاشيات وكذلك بالنسبة إلى الأقبية التحتية. بل هناك من حول مساحات من المدرسة إلى أماكن محروسة للكلاب والدجاج. فلا تستغرب إذا كنت تدرس وأنت تسمع نباح كلب من هنا وصياح ديك من هناك. فالفضاء تحول إلى أسلاك لنشر الغسيل، ووضع الإطارات المطاطية، والبراميل البلاستيكية، وتغييب الرونق الجمالي وتحويل الفضاء إلى مستوطنة محرمة على الأطفال دون ذكر الاستغلال الغير ممنهج للكهرباء والماء بدون حسيب ولا رقيب. ولنصل في الأخير إلى الوزارة الوصية ومشتقاتها : فالوزارة همها بداية ونهاية الموسم الدراسي، أن تمر السنة بدون مشاكل. إن لم تخلق هي المشاكل بنفسها كما حدث مع الوزير السابق حيث تبين له أن الهدر المدرسي لا يوجد إلا في الإيقاع الزمني ونزل بمذكرته المشؤومة والتي أثقلت كاهل الطفل الذي حن إليه قلب الوزير، ولم يحن إلى بطنه الجائع من 8 إلى 12 دون تناول وجبة الفطور. وبالتالي ننادي بجودة التعليم. وحتى تتساوى المدرسة العمومية مع المدرسة الخصوصية فكان الكرم منح يوم السبت عطلة كتمديد مع يوم الأحد وهنا حل المشكل والجميع تعادل. وتبقى الأكاديمية عبارة عن بناية بعيدة عن دورها الأكاديمي فبدل الاهتمام بالمجال التربوي التعليمي نجدها قد انغمست في الصفقات وتحولت إلى مؤسسة مالية تراقب التجهيزات والبنايات والامتحانات. والنيابة وتعدد أقسامها أصبحت واحة للتلذذ بالتفرغ من المهام الموكولة إلى ذلك الإنسان الذي كون بمركز التكوين إلى شبح باسم تغيير الإطار أو موظف بالوكالة الشرعية وكل من تهاون أو ارتكب خطأ نكافئه بكرسي في قسم ما بالنيابة . بعد هذه المحطات المتنوعة نصل إلى مكامن الداء المستشري في مدرستنا: تعدد الوحدات وعدم التخصص وثقل الغلاف الزمني عوامل تؤثر على الجودة بالإضافة إلى الاكتظاظ الذي لا يطاق فنحن نرى أي برنامج حواري تلفزي مغربي كيف يتم ، ضجيج ومقاطعات وإقصاء وهرج. فما بالك ب 40 تلميذا أو أكثر . والكل يرغب في الاستيعاب. وحصة تقدم في 30 دقيقة أو 45 دقيقة. دراسة ، تقديم ، استنتاج ، تمارين ،،تصحيح. وهنا نحتاج إلى ضابط للوقت لكي نسارع الزمان. وبجولة متأنية لمدرسة ابتدائية نكتشف جميعا الغياب التام للمرافق العلمية وكأن التجارب تتم بالصور والشفوي . وهنا تكمن الطامة الكبرى : متعلم يتعلم النشاط العلمي دون مختبر خاص بالعلوم ونطالب الكل بالتوجه إلى الشعب العلمية . فإلى متى سنستمر هكذا : هدر في المال ، وهدر في الموارد البشرية ، وهدر في كل الطاقات. فلا يمكن للتعليم أن يستيقظ من سباته وهو مبنج أصلا . فالتخدير يجعل الجميع يشعر بالاسترخاء وأحيانا الغيبوبة التي تنسي كل شيء . فهل حان الموعد للتشخيص بدون مخدر؟ بطبيعة الحال : لا ، لأن الصحوة ستؤدي إلى كشف المستور. فكفى من التضليل : التعليم لم يعد حقلا للتجارب الفاشلة، فلقد جربنا كل البيداغوجيات ولم ننجح، وجربنا الأهداف والكفايات والإدماج ولم نحصل إلا على أموال أهدرت، وجاء هذا وذهب هذا ، وحل بينهما « كزافي « وهنا لاحت +الوضعية المسالة+ لنبحث عن المهمة والمستندات وتبقى المشكلة. فاليوم نحن في حاجة إلى أساتذة علم الاجتماع لتشريح الوضعية . فالجيل الجديد يحتاج إلى مؤطرين ومربين من نفس الجيل، لتكون نفس اللغة، ويتقاسمون نفس الأسلوب. فمدارسنا شاخت ، ومازال الكثير متمسك بالروح التقليدية ويحن إلى الماضي الدفين، ونرى الجميع يبكي على الماضي وكأنه هو بوصلة الإنقاذ. وما يجعل التعليم في بوتقة التخلف هو التخندق جميعا حول الآخر ونسيان الذات. فلنتقبل جميعا النقد، وإن كان قاسيا فعلى المسؤولين تقبل الواقع وعدم الغضب على من يعري الواقع التعليمي بالبلد ووصفه بالمشوش أو التمساح أو الشبح. وعلى كل من تقلد المهمة التربوية التعليمية أن ينزع عن نفسه القداسة والعلم والمعرفة وأن يتقبل رأى الآخرين ، وعلى كل من يرتدي +جبة+النقابي أن يتجرد من التعاطف مع الضحية سواء كان مذنبا أم مظلوما فلا بد من وجود الهفوات. ومنها نستمد القوة لكسب الجرأة على قول الحقيقة وتغليب المصلحة العامة على الذات الموصوفة بالنرجسية والأنانية. فعلى الدولة أن تتحمل مسؤوليتها في تنفيذ برنامجها بدون محاباة هذا أو ذاك. فآفة الانتقالات المتسمة بالمحسوبية ، وآفة الترقية التي قسمت المؤسسة إلى خليط من السلالم ، والهواتف التي تعطل كل عمل جاد جعلت التعليم عبارة عن ساحة ملأى بالألغام والتي تتطاير شظاياها لتجعل كل مؤسسة بؤرة للمشاكل السطحية وبدل الإنكباب على الدراسات التربوية وخلق جو أخوي يسوده الانسجام نرى ذلك الصراع الخفي بين المربي والمدير والمفتش والنائب وكل الأطياف التي تؤنث المشهد التعليمي ببلادنا. لنجلس جميعا بدون ألقاب ولا رتب ولا مناصب ونحمل جميعا الهوية المغربية ونضع على صدورنا « كلنا مغاربة » لنحطم الانتماءات الحزبية والنقابية والقبلية. فالفضاء المدرسي أصبح مسرحا لكل أنواع الفنون الإقصائية والتعصب للفكر الأحادي ويظهر ذلك جليا في المؤسسة والنيابة والأكاديمية حيث تجد لوحات تشكيلية لكل أنواع السبورات النقابية رغم أن المطالب موحدة وهذا يبين لنا بالملموس أن مبدأ التفرقة مقصود لإلهاء الجميع عن تقديم الخدمة التربوية المنشودة لأبناء المغرب، وتشجيع الخواص للاستثمار في جيوب المالية المغربية. أملنا اليوم ، ونحن على أهبة مغادرة هذا الميدان بإذن لله نريد أن نرى إصلاحا حقيقيا يعيد البسمة للجميع، ونراهن على مبدأ الانفتاح على كل مكونات التقدم، وفتح قلوبنا لكل أبناء المدرسة المغربية العمومية . وأن لا نتنكر لجذورنا وتربيتنا، وأن نتذكر جميعا أن الانتماء للوطن يتجسد في الإخلاص وفضح المزورين والمفسدين والكذابين حقا، لا في إلصاق التهم المجانية لهذا أو ذاك ولا إصلاح للتعليم بدون كرامة لرجال التعليم.