من ليل المجهول، ليل صحرائه الوجودية التي لا يحُدُّها تُخمٌ ، جاءنا درويش ب»غموضه العذب». العذوبة فيه تأتي من استئناف الحفر خلف طبقة الملح السميكة في الوجود الإنساني، ليتفجر ذلك النبع الصافي. معاول درويش اللغوية لم تيأس يوما، لذلك كانت تستأنف الحفر بعد استراحة قصيرة، فوق ما ينبت من أعشاب تحت الأقدام. ومن هذا الاستئناف تشرق شمس متجددة من بين طيات الكلمات، تذيب الملح وتسعف الكائن بمساحة أرض واعدة . هدهد اللغة عند درويش يسعفنا برؤياه، فيَكْتنِه ما يترقرق بأعماق هذه الأرض من ماء. غموض درويش العذب هو ابن هذه الأعماق، التي تعلم منها آدمُ الشعرِ الجديد أسماء الحياة وما يتفتح في قلبها من سر كبير. الغموض يصون هذا السر، لكن العذوبة تفشيه في الحدود التي تجعل منه مادة للغناء الأورفيّ المستحيل. أورفيوس ينهض بيننا نايا منطلقا في وجه وحوش الوجود الكاسرة. أورفيوس يفتح ممرات في العالم السفلي متمسكا بوعد الحب قبل وعد الآلهة. وفي خلاص رؤيته كانت مأساة وجوده الغنائية، التي جعل منها درويش طريقه إلى الشعر ومقامه بين أنبياء الرؤية الأورفية. الحب شحذ معاول درويش. جعل لغته الشعرية كالعنقاء تولد من رمادها المتناثر في الطريق. طيور الله وطيور الأسطورة ترفرف بجناح واحد، في هذا الشعر، الذي يتحرك ظله على الأرض، فيما هو يخترق أمداء الليل والنهار. اختراقٌ يحلق بالآلام ليبني مسكن الشعر في الشعاب البعيدة. شعاب لها في لغة الإشراق ما يجعل الأرض والسماء وما بينهما، تجدد مفهوم المسافة والإقامة والجهة، فيما تتجدد ذات الكتابة نفسها. إنه النأي المجازي الذي يجعل القريب موغلا في البعيد، كما يجعل النهار ليلا آخر في تقويم المسافة الشعرية. وإذ يندلع الحب بهذا المكان الشعري، فإنه يخضع لإرادته الشعرية، بذات القدر الذي ينصت لإرادة الإيروس المجددة للنسل. ومع ذلك ف»الأمل توأم اليأس» في ما يرتجله الشعر في هذه التجربة ، والغناء مخترَق بوسوسة الموت. هذه الوسوسة ذات ترجيعات كثيرة في أعمال درويش الأخيرة، لكنها لم تصبح وسواسا مُوقِفا لتدفق نبع الحياة. لقد ظل أورفيوس يغني حتى وهو يهبط العالم السفلي. ولم يمنع أرغن الآلهة نايه من الصدح بذلك النشيد الشجي المنبعث من قلب الأهوال. استبق درويش دائما موته. ضاحَكَه من بعيد، قبل أن يعدو وراءه بنعال من ريح. وقبل أن تخترق مشارط الجراحة شرايين الشاعر المتعبة، مشت استعاراته في وادي الموت.كان الموت يخفق بقلب الأم الأولى وهي ترى إلى الغراب يواري جثة الأخ القتيل. كان ممددا فوق سرير أنكيدو، الذي أطلت دودة من أنفه مسببة الهول لقلب جلجامش القوي. كان الموت، رغم ندبته القاسية، محاربا قديما وزائرا مألوفا للاستعارات المُغْنِية للحياة اللاهية في المدن والبراري. درويش، المنذور للبقاء ، عكف منذ البداية على صنع نايه الخاص ليحول وجع الناس إلى مراثٍ صغيرة، تتجاوز الموت بقوة ما في الغناء المالح نفسِه من حياة. الغناء ديونيزوسيٌّ دائما، بهذا القدر أو ذاك ، ولو كان صاعدا من الماء الأجاج. كل مواجهة للموت هي إذن التفاتة أورفية نحو مكان الحب صونا للوعد الإنساني الذي لا يبرح التخوم. بهذه التخوم غنى درويش سطورا من ملحمة حياة، لها كل توهج الأسطورة وهالة الشعر الباحث عن «غد صالح للإقامة». لقد عثر درويش على نايه في كل شيء. في الغيمة، في الزهرة، في المقعد، في قهوة الأم، في مشمش الحبيبة، في نخلة الله، في تفاح الفردوس، في فوضى القيامة، في رمل الطريق، في دماء الشقائق، في قمر القرى، في تلَفُّتِ النرجس، في بطن الحوت، في حقائب السفر، في رماد الخيمة، في ظل السَّمَنْدَل، في عشب الصخرة، في وحدة الحصان، في بئر يوسف، في مطر المروج، في رصيف الخريف، في الخزف المكسور، في ندبة عوليس، في موجة النوارس، في أندلس الأعماق، في التّينَة المهمَلة، في نار الصباح، في حليب البلاد، في ليل امرئ القيس، في ضجة الصَّدَف بالبحار البعيدة. في النافل والنادر والمهمل والراسخ والراشح وما لا يقع في الحسبان. في ما لا نايَ له كان يعثر الشاعر على كلماته ليصنع ذلك الإيقاع الدرويشي المدهشَ المُصَعَّد بالحب والشغف والألم والحنين. لحظة أخرى كان يستشرفها الكلام الدرويشي فيما هو يصعد لاقتلاع ريشته من «طائر الفينيق». لحظة أصبح فيها طائر الفينيق هو ديوان الشاعر الكبير بالذات، ونحن نصعد لا لنقتلع ريشة من جناحه المفْرود، بل لنبتهج بمتعة التحليق معه. كنت أعدت فتح كتاب درويش «ورد أقل» لأسد بعض الثقوب، فإذا بالورد الكثير يتناثر من شرفة درويش على ليلي. هذا الليل أقمتُه على الاستعارات الشعرية، التي تقف بينها عبارات درويش متضوعة بشذاها الماورائي الخاص. سابقا كنت تلقيت ورد درويش، في هذا الكتاب، صوتا أكثر منه كتابةً. نفَسا أكثر منه رقشا. وها أنا الآن، وحدي، في الذكرى العاشرة لرحيل الشاعر، أعيد تلقي هِباته قارئا مستمتعا بالعزلة الكريمة، التي يتيحها التحليق مع طائر الفينيق شخصيا، في الآوفاق الواسعة لقصيدته الإنسانية المتجددة. * مقتطف من كلمة منصر بالعدد الجديد (32) من مجلة «البيت» التي تحتفي بالراحل محمود درويش