الموتُ الشاعر الفلسطيني، في وقت ما تزال فيه إسرائيل تُفرغ جحيمَها وحقدَها النَّاري على شعبه الأعزل. غَيَّبَهُ الموت، لكن روحَه الشعرية ما تزال تُحَوِّم فوق المكان الفلسطيني، محتضنة أجنة الحياة في أرحامها، ملتقطة النبض الغامض الذي لا تقوى على هزمه أية آلة عسكرية. طُبعتِ السنةُ المُنصرمة بِتَغييبِ الموت للشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش، بعد منازلات طويلة هزمَ فيها الموتُ أخيرا قلبَ الشاعر المريض، ولكنها هزيمةُ مَن قاتل بشرف مِن أجل تحويل الحياة إلى استعارات وجودية، تستبطنُ ما في الانسان مِن هشاشة وما يلهج به من أغنيات عميقة تُسعفه على الحياة ما استطاع إليها سبيلا. لقد كان الشاعر يقاوم على أكثر من واجهة، وهو بعد أن تغنى طويلا بحرية شعبه، وحقه في الحياة، انتهى إلى معادلة شعرية تستشف العمق الجمالي والرمزي، في غنائية ملحمية، ترصد الخطوة الدامية للانسان على أرض الأنبياء، مستدعيا بذلك الحب وتفاصيل المكان والأسطورة والقصة الدينية وأمشاج من السيرة الشخصية، لبناء أسطورة الإنسان الفلسطيني وحلمه المضمخ بعبق المكان ومكائد التاريخ، وذلك قبل أن يلتفت لمحاورة الموت، في استعارات حارة، بدا فيها الشاعرُ تارة منازلا لوحش ضاري، لا يظهر منه إلا أثر مخالبه على الضحية، وأخرى متحدثا إلى قناص يلتمس منه أن يكون شريفا، وأن لا يرمي بسهامه غزالا ما يزال منحنيا على النبع. وهذه المحطات الثلاث، جعلت مفهوم المقاومة يتسع عند محمود درويش، ليتخذ أبعادا وجودية إنسانية عميقة، لا تتنازل قيد أنملة عن الشرط الشعري الجمالي. غيَّب َالموتُ الشاعر الفلسطيني، في وقت ما تزال فيه إسرائيل تُفرغ جحيمَها وحقدَها النَّاري على شعبه الأعزل. غَيَّبَهُ الموت، لكن روحَه الشعرية ما تزال تُحَوِّم فوق المكان الفلسطيني، محتضنة أجنة الحياة في أرحامها، ملتقطة النبض الغامض الذي لا تقوى على هزمه أية آلة عسكرية أو نفسية. لقد أحاط محمود درويش، وغيره من شعراء الأرض المحتلة، فلسطين بعلامات الروح التي لا تُقهر، وذلك من خلال عشرات القصائد والكتابات والتأملات، التي تقوم مقام أشجار تَحمي المكان الفلسطيني مِن أي انجراف للرمزية المشدودة إلى أرض الأنبياء. وسيرة محمود درويش التي تفرَّقتْ دماؤها الشعرية، على نحو لا يخلو من جمالية الإيحاء والغموض، في مجمل أعماله الشعرية، وخاصة منها دواوين ما بعد «ورد أقل»، أفرد لها الشاعر كتابا عميقا، عنونه ب «في حضرة الغياب»(رياض الريس/2006)، خصصه لاستحضار نتف دالة من حياته الشخصية، في علاقتها بمأساة فلسطين، وذلك بعد نجاته الثانية من الموت، الذي كان يترصده على إثر عملية القلب التي أجراها. وقد أراد الشاعر لهذه السيرة، أن تُكتب بدماء استعارة ترفع السرد إلى مقام الكلام الشعري الملتهب، الذي يطوع الذكريات والتفاصيل والنتف المتعلقة بالإنسان والأمكنة بمجازات اللغة، التي لا يملك الشاعر إلا ناصيتها، بعد أن يرقد الغبار ويتوقف الركض، ويخف الهلع، ويتصرم الزمان، ويتحول إلى ذكريات هاربة مستعصية، تختلط فيها حقيقة الماضي مع حقيقة التخييل الشعري. يتتبع محمود درويش، في هذا الكتاب، ما تناثر من عناصر سيرة الحياة، بدءا بالولادة والصبى واللجوء والنضج والاعتقال والمنفى والعودة لزيارة الأهل والقبور، ثم الاستقرار، وعبر كل ذلك يستحضر أسرار مراودة الحروف، قراءة وكتابة، حتى يتسع له ما ضاق من أفُق أمام الإنسان، الذي يختبر صراخ ما بعد الولادة، ليتهيأ له العيش فوق أرض الأجداد، تحت مطاردة الرصاص الإسرائيلي الأعمى. سيرة يستحضرها درويش انتصارا على الموت، عبر حياة رمزية وَعَدَتهُ بها القصيدة، التي راودها طويلا، متحديا، في سبيلها، كل تجارب الهلاك المُحدقة: «ولتأذنْ لي بأن ألُمّكَ، واسمَكَ، كما يلُمُّ السابلةُ ما نسيَ قاطفو الزيتون من حبَّات خبَّأها الحصى. ولنذهبنَّ معا أنا وأنت في مسارين: أنتَ إلى حياة ثانية، وعدتكَ بها اللغة، في قارئ قد ينجو من سقوط نيزك على الأرض. وأنا، إلى موعد أرجأتُه أكثرَ من مرة، مع موت وعدتُه بكأس نبيذ أحمرَ في إحدى القصائد»(ص9/10). هكذا، سيستقر السرد على لملمة خيوط القصيدة والموت، في تجربة واحدة هي تجربة حياة، مستعصية، شديدة التمنع والانفلات. والشاعر معني، في هذه الحالة، بجمع ما تناثر من عناصرها، مثلما يفعل مُحصلُ الزيتون، عندما يبحث بين الحصى على ما تناثر مِن حَبَّات. لقد وعى محمود درويش منذ البداية بأن هبة الحياة غالية، وترويض العيش، على مشارف الهلاك، هي التجربة التي ينبغي توطين القلب عليها:» لم يُصدِّق أحد من الجالسين في ظل شجرة التوت أنك ستحيا، من فرط ما شَرَقتَ بحليبِ أمِّكَ واختنقت. نحيلا كنتَ كخاطرة عابرة. نحيلا كنبتة شعير خالية من الحَبِّ كنتَ. لكن لشهر آذار، القادر على سفك دم المكان شقائقَ نعمان، مهارةَ الإنقاذ من موت مبكر لا تنساه إلا لتتذكر أن الحياة لم تأت إليكَ على طبق من ذهب أو فضة، هاشة باشة، بل جاءتكَ على استحياء كجارية مدفوعة الأجر، صعبة وعذبة، وشديدة الممانعة. لكن التدريب الطويل على الألفة هو ما يجعل الحياة ممكنة» (ص17). ويذكر الشاعر علاقته الأولى بالدم، عندما استغفل أهله المنشغلين بجني التبغ، فضغط بالسكينة على ركبته حتى فاجأه السائل الأحمر. حادثة علمته أن «الندبة ذاكرة لا تكف عن العمل»، بحيث كلما نظر إليها تذكر رائحة التبغ وعباءة الجد، كما جعلته يشيح بوجهه عن رقصة الديك الأخيرة، وعن الخروف، كما تجنبَ مشاركة أترابه لعبة تعذيب العصافير، التي بدأتْ تأتيه في الحلم. ويذكر الشاعر أنه حاول، في صباه المبكر، أكثر من مرة، تقليد الفراشات والطيور، حتى أنه امتطى، مرة، في غفلة من أهله، ظهر الحصان الذي ركض به كالريح، فلم يستيقظ من «لذة الطيران في المجهول» إلا على سقطة، لم يعلم بها الأهل إلا بواسطة «الحصان العائد بلا فارسه الصغير»، حينها ضمدوا جُرحَ حاجبِه الأيمن وعاقبوه. ومِن فرط ما تسبب فيه الصبي من أذى لنفسه أن لقبه أهله بالشقي، فوجد في طائر الدوري نسبا:»سمَّوكَ الشقي، وأنتَ أطلقتَ على طائر الدوري لقب الشقي. هو شبيهك في التوتر، ونقيضك في الحذر. لكنك أحببتَ مراوغته العالية في مراوغة الصياد، فلا عش له إلا في الحيلة»(ص22). ويعود الشاعر بذاكرته إلى لحظة التعلم واكتشاف سحر الأبجدية، حيث «يولد العالم تدريجيا من كلمات» و»تصير المدرسة ملعبا للخيال». ثم يذكر ما أعقب ذلك من افتتان بالشعر، كان دليله الأول إليه سحر الإيقاع، المحبوك ، ضمن متخيل حكائي يجمع بين الفروسية والشعر والحب. متخيلٌ كان يَجِدُ في ديوان الجد، الذي يسهر الأصدقاء على فتنته، ما يغذيه ولعَهُ ب «عالم سحري التكوين»لا يشبه شيئا مما حوله. يَسْتحضِر الشاعر أيضا خوفَ الطفل، المطلوب منه أن يصحبَ أهله في رحلة نحو المجهول، استيقظ فيها من منامه مذعورا:»أخرجْ معنا إلى هذا الليل الخالي من الرحمة...وتعلَّق بثوب أمك...الدليل الوحيد على أن الأرض تركض حافية القدمين، ولا تبك كأخيك الصغير، المولود منذ أيام، لئلا يرشد البكاء الجنودَ إلى جهتنا المرمية في الهواء كما اتفق»(ص34). وفي سياق ذلك، يستحضر الشاعر، كيف بدأت تتسلل إلى مسامعه ووعيه، الكلمات الكبيرة، المتعلقة بالهوية، ووضعية اللاجئ، وكيف ضُفِر كل ذلك بأحلام الطيران، المثقلة بمعانيها الرمزية:»يدنو طائر منكَ، طائر بحري، سحري يهبط برفق إليك، وبرفق يطوي عليك جناحيه ويَلُمُّك كأنكَ واحد من فراخ سلالته، ويقلع على ارتفاع منخفض، فلا تدري إن كنتَ أنتَ الطائر أم صفة من صفاته. تُحلقان على طول الساحل المتعرج المتدرج بين الأزرق والأخضر. وبلا ألم تهبطان على باحة البيت الواقف كالأم على التلة»(ص39/40). حلم يلتبس بأثقال اليقظة، التي جعلت الشاعر، يجرب، وهو صبي، آلام النفي وسوء التغذية، وسوء الحاضر، المرتبط بالاحتلال: «بساعة نعس واحدة دخل التاريخ كلص جسور من باب، وخرج الحاضر من شباك. وبمذبحة أو اثنتين، انتقل اسم البلاد، بلادنا إلى اسم آخر»(ص47).