اختتم ليلة الثلاثاء الماضي بالقاهرة، عند قدم أبي الهول والأهرامات، مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، في دورته 36، التي أجمع كل من حضر أيامه أنها دورة ناجحة بكل المقاييس. اعتبارا للتحديات التي واجهت المهرجان خلال السنوات الأربع الأخيرة، وأيضا بسبب التأخر في الإستعداد اللوجيستي له، الذي لم ينطلق عمليا سوى في شهر غشت الماضي، وهي فترة زمنية ضيقة جدا للإعداد لمهرجان دولي مماثل. يضاف إلى ذلك، أن القاهرة لم تمتلك بعد شجاعة القرار الإداري التدبيري، لجعله مؤسسة مستقلة قائمة، بمقر دائم، يسمح باشتغال متواصل على مدار السنة، حتى والمهرجان هو صورة لمصر الدولة والبلد والناس. من هنا، يكتسب نجاحه معنى مضاعفا، شبيها من ينتصر على ذاته للتفوق. وحين أصر رئيس المهرجان الناقد السينمائي سمير فريد، على التأكيد لحظة الاختتام، أن عدو مصر هو الإرهاب والبيروقراطية الإدارية، فهو مدرك لما يعنيه، من موقع معاناته القاسية مع أطراف عدة من مؤسسات بلده لإنجاح مهرجان دولي للسينما، في عاصمة السينما بالعالمين العربي والإسلامي وفي إفريقيا. وإذا كان وزير الثقافة المصري، الناقد الأدبي المعروف جابر عصفور، قد كان ذكيا من الناحية السياسية في كلمته الاختتامية للدورة 36 من المهرجان، حين أكد على أن على أجيال مصر أن تستحق الانتماء لجيل الأجداد الذين بنوا الأهرامات وأبو الهول وقلعة صلاح الدين الأيوبي وقاهرة المعز الفاطمية. وأيضا على سعادته بفوز فيلم إيراني بالجائزة الكبرى للمهرجان (الهرم الذهبي)، رغم الخلاف السياسي الكبير بين مصر وإيران، مما يترجم انتصارا لرسالة الفن كرافعة للدفاع عن الحريات ومناهضة الاستبداد. إذا كان جابر عصفور قد توفق في كلمته تلك، فإن باقي تفاصيل حفل الاختتام، قد كانت بها بياضات لا ترقى أبدا لقيمة المنجز المتحقق فعليا خلال أيام المهرجان. ولعل ما رفع من قيمة هذه الدورة، النتائج المعلنة للجوائز، التي انتصرت فيها مصر لأول مرة فعليا لمقاييس فنية محضة في منح الجوائز، عكس ما كان يسجل من ردود منتقدة في دورات سابقة، حيث تكون أغلب الجوائز مجاملة. وهذا يعود في مكان ما إلى أمرين: أولها احترافية وصرامة رئيس المهرجان سمير فريد، الذي رفض أبدا التدخل في عمل لجان التحكيم، من موقعه كرجل يجر وراءه إرثا معرفيا سينمائيا أكاديميا رفيعا ورجل مبدأ. وثانيها قيمة الأسماء المشاركة في لجان التحكيم، التي لها رأسمال لا يرقى إليه الشك من المصداقية الفنية والنزاهة الأدبية والفكرية. هكذا، فقد افتتح حفل الاختتام، بعرض راقص لفرقة بالي القاهرة، من إخراج وليد عوني، يحمل عنوان "عصفور النار" لسترافينسكي، قبل أن يشرع في الإعلان عن جوائز الدروة 36 للمهرجان، التي حاز فيها الفيلم المغربي "الصوت الخفي" للمخرج المغربي كمال كمال على جائزة سعد الدين وهبة ضمن جوائز فقرة آفاق السينما العربية، التي ترأست لجنة تحكيمها الفنانة المصرية ليلى علوي. ولقد تسلمت الجائزة الفنانة المغربية آمال عيوش، إحدى بطلات ذلك الشريط السينمائي المغربي المتألق. فيما عادت جائزة صلاح أبوسيف للفيلم اللبناني "حكايات شهرزاد" للمخرجة زينة دكاش، ومنح الفيلم الأردني الجميل "ذيب" شهادة تقدير بعد نقاش طويل بين أعضاء اللجنة امتد لساعتين حول هذا الفيلم وشهادة التقدير، قبل أن تحسم ليلى علوي النقاش بضرورة منحه تلك الشهادة لأنه غير مستساغ أن لا يخرج بأي جائزة. ومن هنا يفهم معنى طلبها في حفل الاختتام بضرورة توسيع جوائز هذه الجائزة الخاصة فالفيلم العربي مستقبلا. جوائز لجنة التحكيم الدولية، التي كان ينتظرها الكل، وترأستها الفنانة يسرا، مع عضوية أسماء دولية وازنة من حجم المخرج الإثيوبي هايلي غريما صاحب رائعة "تيزا" الذي يعتبر من أجمل الأفلام الإفريقية خلال الخمسين سنة الماضية، وكذا الناقد اللبناني إبراهيم العريس. جوائز هذه اللجنة إذن، كانت منصفة في عمومها، حيث منحت الجائزة الكبرى (الهرم الذهبي) للفيلم الإيراني "ميلبورن" للمخرج نيما جاويدي، الذي يؤكد مرة أخرى ريادة السينما الإيرانية آسيويا وإفريقيا. فيما منحت جوائز الهرم الفضي لأحسن إسهام فني التي حازها مدير التصوير المصري زكي عارف عن فيلم "باب الوداع"، وأحسن ممثلة للفرنسية إديل هنيل عن دورها في فيلم "الحب من أول صراع"، وأحسن ممثل للمصري خالد أبو النجا عن دوره في الفيلم الفلسطيني "عيون الحرامية"، وأحسن سيناريو للفيلم البرازيلي "الصبي والعالم" (وهو فيلم رسوم متحركة)، والإخراج للفيلم اليوناني "إلى الأبد" لمارغريت مانتا. نجحت الدورة 36 إذن من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، تنظيما ونوعية مشاركة، وقيمة أفلام مختارة وندوات وحجم إصدارات غير مسبوقة. ولعل أكبر عناوين نجاحه، ذلك الحضور الغفير والغفير جدا للجمهور المصري بقاعات العرض السبعة بدار الأوبرا، والذي بلغ 21 ألف متفرج خلال سبعة أيام، وأن مداخيل مبيعات الكتب المعروضة الخاصة فقط بالسينما والنقد السينمائي وتاريخ السينما، تجاوزت 100 ألف جنيه مصري.