خط السكة الحديدية الذي ينظر إليه البعض بعين عادية ويمر من فوقه وبمحاذاته بشكل طبيعي يوميا، هو نفسه الذي يرهب البعض الآخر الذين يطلون عليه بكثير من التردد من فوق وعبر سياج حديدي وهم يعبرون قنطرة ترتعد فرائصهم متى خطوا خطواتهم داخلها، خاصة الأطفال الصغار، الذين كان ولايزال يعتقد الكثير منهم أنه يمكن أن تتداعى في أية لحظة، غير قادرين على استيعاب طبيعة البنيان الذي تقوم عليه، كما هو الشأن بالنسبة للقنطرة التي تربط حي الداخلة بحي البلدية على مستوى عمالة مقاطعات الفداء مرس السلطان بالدارالبيضاء. رهبة ليست مقتصرة على الأطفال فقط، وإنما تشمل كذلك الكبار، ليس بسبب إمكانية تهاوي هذه القناطر وإنما بسبب سقوط ضحايا بين الفينة والأخرى، وبفعل الجثث التي يتم انتشالها من وسط قضبان السكة الحديدية ، خاصة على محور لاجيروند بوشنتوف، إذ أضحت هذه المسافة السككية ومنذ فترة ليست بالهينة، عنوانا على الموت، انتحارا أو قتلا، وعلى كل الممارسات الشائنة والفظيعة التي هي ليست بخافية على أحد، وتفاصيلها ليست بالمجهولة أو السرية، بل هي علنية ويعلمها الجميع، مواطنون ومسؤولون على حد سواء، بل إن القائمين على تدبير إدارة السكك الحديدية سبق وأن لفتوا انتباه المسؤولين المحليين بدرب السلطان إلى تواجد مجموعة من المشردين الذين يتخذون من جنبات خط السكة مستقرا لهم في هذه المنطقة، مما يخلق عدة مشاكل لكونهم يتسببون في تعثر حركية القطارات. سكة الموت آخر الحوادث التي شهدها هذا المقطع السككي بدرب السلطان، هو حادث انتشال جثة مشردة تنحدر من منطقة سيدي عثمان مولاي رشيد، من محطة «رحبة الزرع» التي تم إغلاقها في وقت سابق، والتي تتواجد على مستوى شارع محمد السادس بمحاذاة من القصر الملكي بالأحباس. جثة تم اكتشافها صباح الخميس فاتح نونبر 2018، حوالي الساعة السابعة والنصف بالنقطة الكيلومترية 1.275، حيث هرعت المصالح المختصة من وقاية مدينة وأمن وسلطات محلية لإخراجها، وتبيّن أن الأمر يتعلق بفتاة في العشرينات من عمرها، من مواليد سنة 1994، كانت تحمل آثار إصابات، والتي جرى نقلها صوب مستودع الأموات من أجل إخضاعها لتشريح طبي وإعداد تقرير مفصل حول أسباب الوفاة، إذ في الوقت الذي رجّحت عدد من المصادر فرضية أن تكون الضحية قد «ذبحت» من طرف زميل لها يعيش هو الآخر وضعية التشرد بهذه المنطقة، فإن مصادر الجريدة أكدت أن الضحية صدمها قطار أثناء عبوره هذه المنطقة التي تحتضن عددا كبيرا من المشردين الذين يتخذونها مأوى لهم، لتبقى كل الروايات هي مجرد فرضيات واحتمالات في انتظار نتائج الخبرة الطبية التي ستسلط الضوء على تفاصيل الواقعة إلى جانب الأبحاث والتحريات التي تباشرها المصالح الأمنية المختصة. مقبرة «حديدية» حادث الخميس، سبقه حادث آخر مطلع أكتوبر المنصرم، وهذه المرة على مستوى بني مكيلد وتقاطع شارع لامرتين، غير بعيد عن محطة بوشنتوف، حيث تم العثور على جثة عنصر في القوات المساعدة، برتبة مساعد من الطبقة الرابعة، هو من مواليد سنة 1979 بورزازات، الذي كانت تحمل عددا من الإصابات، وتم العثور في حوزته وهو ميت على بطاقته الوطنية والمهنية وهاتف نقال إلى جانب مبلغ مالي. حادث هو الآخر استنفر المصالح الأمنية وتعددت بشأنه الراويات بين فرضية الانتحار، التي وإن ترددت على نطاق واسع فقد كانت مستبعدة، في الوقت الذي تم ترجيح فرضية القتل والتي رسّختها عدد من الشهادات في انتظار الكشف الفعلي والنهائي عن طبيعة هذا الحادث الذي رفع منسوب القتامة المرتبطة بهذه المنطقة، التي تختزن وراء أسوارها الكثير من الفظاعات، علما بأن محيط محطة بوشنتوف للقطار وقبالة مدخلها الرئيسي تقع كثير من الأحداث التي تطرح أكثر من علامة استفهام ! جثث بدم التشرد تناسل الحوادث واكتشاف جثث قتلى بين الفينة والأخرى ما بين لاجيروند وبوشنتوف، هي وقائع تتبعها الرأي العام الوطني بكثير من الأسف والأسى، وليس فقط ساكنة درب السلطان، التي بدأت تنظر لهذه الرقعة السككية على أنها مقبرة «حديدية» في كل مرة ترمي بجثة شخص، ذكرا أو أنثى، مشرّدا أو ضحية جريمة، شابا أو مسنّا، كما هو الحال بالنسبة لحادثة وقعت خلال شهر غشت، حين تم العثور على جثة شاب مشوّهة، على مستوى بني مكيلد وتقاطع لامرتين دائما، هذه النقطة المعروفة ب «الدروج الحمرين»، حيث رجّحت شهادات آنذاك أن يكون الأمر يتعلّق بمشرد كان يعيش على خط السكة ، وتم فتح تحقيق في الموضوع من أجل تحديد ملابسات الحادث والكشف عن تفاصيله. ضحايا «السكّة الحديدية» ليسوا مقتصرين على سنة 2018 أو الأشهر الأخيرة منها، إذ أن عدد الجثث التي استخرجتها المصالح المختصة من المحور السككي المتحدث عنه، هو كثير وتم ذلك على امتداد مدد زمنية مختلفة، ويمكن العودة إلى سنة 2012 أي قبل 6 سنوات من اليوم، للتأكد من حقيقة هذه الصورة القاتمة ، ففي شهر دجنبر تم العثور على جثة مشرّد مسنّ بخط السكة بجنبات محطة القطار بوشنتوف، حيث أوضحت المعاينة التي تمت بمكان الحادث، كيف كان الراحل يعيش حياة قاسية تركت بصماتها راسخة على وجهه ويديه. وقبل ذلك وخلال شهر يونيو من نفس السنة، لقي شاب مصرعه فوق قضبان «خط السكة « بعد أن صدمه قطار على بعد أمتار من نفس محطة القطار ببوشنتوف، وتضاربت الروايات آنذاك حول ما إذا كان المعني بالأمر قد انتحر أو كان يحاول اجتياز «الخط الحديدي « من اجل اختصار المسافة للانتقال من لامرتين إلى بوشنتوف عبر ممر تم إحداثه من خلال اختراق سور بالمنطقة، في الوقت الذي تم تداول فرضيات أخرى، أنيط بالتحريات الأمنية وبمضمون تقرير الخبرة الطبية الكشف عن ملابساتها. اغتصاب وامتهان خط السكة الرابط بين لاجيروند وبوشنتوف لا يشهد على حوادث ترتّب عنها موت مادي فحسب، بالنظر إلى أن موتا معنويا يقع كل يوم وليلة هناك، وفي كل لحظة، نتيجة لجملة من الممارسات الشائنة التي يوقعها البعض على البعض الآخر، كجرائم الاغتصاب التي تمارس على شابات، أطفال وغيرهم، من طرف مشرّدين آخرين فرضوا «قانونهم» ومارسوا ، ولايزالون، أبشع استغلال على هذه الفئة من المقهورين، الذين يضطرون، لسبب أو آخر، للمبيت بين أحراش السكة الحديدية. جرائم ترتكب وأخرى يسعى البعض لاقترافها، قد تكتمل وقد تتم فرملتها، تتعدد صورها الشائنة التي هي ليست بخفيّة على احد، خاصة السكان المجاورين لخط السكة مابين شارع لاجيروند ومحج محمد السادس، إذ تصدم تلك الصور أنظار المطلين من شرفاتهم الذين باتوا يجدون حرجا في فتح نوافذهم، ويتذكر سكان المنطقة تفاصيل محاولة اعتداء جنسي على فتاة تبلغ من العمر 28 سنة، في فبراير من السنة الجارية 2018، ويتعلّق الأمر بمشرّدة تأوي بهذا الفضاء العاري، وذلك من طرف مشردين اثنين، يتراوح عمرهما بين 18 و 26 سنة، وفقا لشهادات شهود، هما بدورهما يتخذان من هذا الفضاء ملاذا لهما، يبيتان فيه إلى جانب مشرّدين آخرين، عدد كبير منهم أطفال وقاصرون ممن لامأوى لهم.اعتداء لم تكتمل فصوله بفعل تدخل مواطنين بعدما تناهت إليهم أصوات الاستنجاد من طرف المتضررة، والذين ربطوا الاتصال بالمصالح الأمنية التي حلّت عناصرها بالمكان وعملت على إيقاف المعتديين، في حين تم نقل المعنية بالأمر، التي تبيّن أنها تتوفر على عنوان تابع للنفوذ الترابي لعمالة مقاطعات الدارالبيضاء آنفا، على متن سيارة الوقاية المدنية صوب مستعجلات مستشفى بوافي. مشرّدون في كل مكان ليس من السهل التعاطي مع قضية المشردين الذين يتخذون من «خط السكة « بيتا لهم بدون سقف، إذ أن تمشيطها بشكل يومي من قبل المصالح الأمنية هو أمر متعذر وتتداخل فيه مجموعة من العوامل، جغرافيا، اجتماعيا وغيرهما، ويبقى تدخلها مقتصرا على تتبع الحوادث التي تقع هناك، إن كانت تتعلق بانتحار، أو اصطدام بقطار أو قتل، والكشف عن ملابساتها ومحاولة الوصول إلى الفاعلين في حالة جرائم القتل، الأمر الذي يتطلب برنامجا متكاملا تتضافر فيه جهود كل المعنيين والمتدخلين، من سلطات وأمن ومسؤولي المكتب الوطني للسكك الحديدية، بمعيّة القطاعات الوزارية المعنية وجمعيات المجتمع المدني، لكن بالمقابل يطرح سؤال عريض عن دور وحدات المساعدة الاجتماعية المغيّب، والتي تعهد إليها مهمة جمع المشردين تحت إشراف السلطة المحلية، خاصة خلال أجواء الطقس البارد والماطر، ونقلهم إلى مؤسسات خيرية من أجل حمايتهم والحفاظ على أرواحهم؟ المشردون بعمالة مقاطعات الفداء مرس السلطان أعدادهم تتزايد ، وحضورهم لا يقتصر على خط السكة الحديدية، فمنهم من يتواجد بالمحطة الطرقية لاولاد زيان، ومنهم من يتواجد على مستوى ساحة السراغنة، والقريعة، والفضاءات المجاورة لسوق العيون، وبحي عمر بن الخطاب، وعلى مستوى زنقة المدرسة الصناعية بلاجيروند حيث يتواجد مرآب تابع لشركة النظافة، وغيرها من المواقع الكثيرة. أشخاص عرضة للموت في كل وقت وحين، من لم يمت بسكين أو دُهس تحت قطار قتله البرد، مما يتطلب حملة فعلية لإنقاذ هذه الفئة ومنحها الرعاية الصحية والاجتماعية، التي تستحقها، خاصة وأن الوسائل اللوجستيكية والبشرية هي متوفرة ولا تنتظر إلا من يسخّرها لهذا الفعل الإنساني النبيل.