بدأت السينما المصرية تستعيد بعضا من بريقها إنتاجيا، من خلال تصوير معدل 37 فيلما في السنة، وهو رقم لا يرقى أبدا إلى ما كان ينتج بها خلال العقود الماضية. ولعل الإشكال الأكبر، الذي وقفنا عليه هنا، كامن في سيادة منطق السوق على هذا الإنتاج السينمائي، الذي يجعل شركتي إنتاج وتوزيع، تستحوذ على كل السوق المصرية، وتتحكم في دورة السينما هنا، بالشكل الذي يجعلها واهبة الحياة أو موزعة الموت بها. بل إن الكثير من المخرجين والممثلين يدخلون إلى قارة النسيان والإقصاء، كلما دخلوا في مواجهة مع هاتين الشركتين الضخمتين (واحدة منها للفنانة المصرية المخضرمة إسعاد يونس). مع تسجيل معطى مثير هنا، بالقاهرة، أن الحكومة، كما لو أنها قد استقالت من الجانب الثقافي الفني وتركته لمنطق السوق، مما يجعل النتيجة الحتمية، تكون على حساب الجودة، فنيا وتدبيريا. علما أن السوق السينمائية المصرية سوق هائلة ضخمة، بدليل عدد قاعات السينما ببلاد النيل، التي تشتغل على مدار اليوم والشهر والسنة، وأيضا حجم المتابعة الجماهيرية التي هي بكل المقاييس قياسية ومبهرة (مثلا، بخصوص الأفلام المعروضة بدار الأوبرا ضمن فعاليات الدورة 36 من مهرجان القاهرة السينمائي، فإنه يتم بيع معدل 1200 تذكرة دخول يوميا، بثمن عال نسبيا تبعا للقدرة الشرائية للمواطن المصري، يصل إلى 40 جنيها). وحرب السينما هذه، المشتعلة أوارها هنا، تعتمد تقنيات غاية في الدقة على مستوى الماركوتينغ، حيث أن تشجيع فيلم ما أو قتله جماهيريا، حسب الرضى أو النفور من منتجه ومخرجه، يتم من خلال نوع القاعات التي يعرض فيها. فإذا كان مشمولا برضى حيثان الإنتاج، فإنه يعرض في قاعات كبرى تتجاوز 500 مقعد، أما إذا كان مغضوبا عليه فإنه يعرض في قاعات لا تتجاوز 70 مقعدا، وبذلك لا يحقق المغضوب عليه أبدا إيرادات المرضي عليه. عموما، هذا إنما يقدم الدليل على أن السينما رهان تنموي، تربوي وسياسي مركزي في مصر. وأن تنظيم هذه الدورىة الجديدة من مهرجان القاهرة السينمائي (بكل النقد المسلط عليه من مجموعات متعددة في مصر لحسابات مصرية خاصة)، هو انتصار لهذا الرهان من أجل استعادة القاهرة لموقعها المؤثر قيميا وثقافيا بالمشرق العربي. ويشكل حضور عدد وازن من الأسماء العالمية والعربية هذه الدورة، بعض الجواب على تجاوب العالم مع ذلك، بالمعنى الذي يفيد أنه حضور تضامني مع ما تمثله مصر من مرجع فني ثقافي وإبداعي. أي مع ذلك الرأسمال الحاسم، الذي ظلت مصر تتكأ عليه لترسيخ قوتها إقليميا بالمنطقة. ورغم كل ما تروج له بعض القنوات الإعلامية، من مخاطر أمنية محدقة بمصر، وهو أمر مبالغ فيه كثيرا فعليا، لأن الحياة عادية تماما هنا، والمواطن المصري منخرط في صيرورة التحول ببلاده من أجل ضمان أمنها واستقرارها، وموقفه حاسم شعبيا من تجربة الإخوان ومن التطرف.. رغم، كل ذلك، فقد حضر المئات من الفنانين ورؤساء شركات الإنتاج والممثلين من مختلف مناطق العالم إلى المهرجان. ومن أكثر الأخبار تداولا هنا، بغير قليل من السخرية والتفكه المصري الشعبي، رفض مجموعة من الممثلين والمنتجين اليابانيين الحضور بسبب أن شركات التأمين على حياتهم، قد رفضت الترخيص لهم بذلك. ورغم تدخل الخارجية المصرية لتعويض ذلك التأمين مهما كلف الأمر، فإن أولئك الفنانين اليابانيين قد اعتذروا عن الحضور، فكانوا جديا هم الخاسرين، لأن صيرورة التواصل الفني متحققة هنا بحضورهم أو بدونه. على مستوى ما تعرضه الشاشات الثلاث الكبرى بمجمع دار الأوبرا، فإن الجمهور الغفير الذي يحضر يوميا لمشاهدة الأفلام، قد سجل أمرين دالين: أولهما، كثافة الحضور والاحتضان الجماهيري الذي يخصص لأي فيلم مصري، مهما كان ضعيفا أو عاديا (حتى لا أقول غير مقنع سينمائيا)، وهذا معطى دال على أن المصريين محتضنون لإبداعهم، حامون له، مدعمون له عاليا. ثانيهما، أن الثقافة السينمائية لهذا الجمهور هي ثقافة استهلاكية فرجوية احتفالية. وأنه على خصومة واضحة مع ثقافة الصورة التي هي عصب السينما كإبداع. حيث الأساسي عندهم هو موضوعة القصة ومستوى الحوار، وليس لغة الصورة والضوء والموسيقى. بمعنى أن هذه الثقافة السينمائية الفرجوية، هي امتداد للتربية الفرجوية العمومية للمواطن المصري في حياته اليومية، حيث كل السلوك العمومي للفرد المصري احتفالي، استعراضي، من شكل التحية إلى طريقة تقديم أي خدمة من الخدمات، إلى شكل الردود على أي حدث عارض في الحياة. فكل شئ هنا، فيه حركية سينما في مكان ما (ليس بالمعنى القدحي، بل بالمعنى الإبداعي). بالتالي، فإن تفاعل الجمهور المصري مثلا، مع السينما المغربية أو المغاربية أو مع السينما الروسية أو اليابانية أو الإسكندنافية، هو تفاعل فيه مسافة من عدم التواصل السلس. لأن التقليد الفرجوي الذي ربيت عليه الذائقة المصرية، هو تقليد استهلاكي اعتاد أن يقدم له كل شيء جاهزا، ولا صبر له على بدل مجهود للتواصل فكريا مع المنتوج الإبداعي السينمائي بشروط الصنعة السينمائية المتأسسة على ثقافة الصورة. وهنا، في ما أتصور، تكمن ما يمكن وصفه ب "الجريمة التربوية" التي ارتكبها منطق السوق سينمائيا هنا بمصر من خلال تحكم شركات الإنتاج والتزويع الخاصة، بمنطق تجاري محض، لا يستجيب لغير منطق الإثارة. وبين العقل والرؤية النقدية والإثارة قارات من أسباب الوعي والفهم والإبداعية. جائزة أسبوع النقاد الدولية أعلنت ليلة الأحد، لجنة تحكيم الدورة الأولى لأسبوع النقاد الملتئمة ضمن فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي الدولي (ترأسها الناقد التونسي خميس خياطي)، عن نتائجها النهائية، التي كانت كالآتي: - جائزة شادي عبد السلام لفيلم هو بمثابة أمثولة شديدة الجاذبية عن تدمير الحضارة وفقدان كرامة الإنسان كما جسدهما فيلم: "طفل لا أحد" من إخراج فوك رشوموفيتش (صربيا) - جائزة فتحي فرج لأفضل إسهام فني حصل عليها فيلم يعرض برؤية ثاقبة وحرفية عالية للعيش في ظروف قاسية، وهو فيلم: "عرائس" من إخراج تيناتين كاجريشفيلي (جيورجيا).