لماذا ينقبض صدر الأصوليين عندنا وهم في موقع المشاركة الحكومية كلما واجهتهم الساحة الاجتماعية وأطرافها النقابية المنظمة بتحركات مطلبية عارمة او بإعلان إضراب عام أو حتى قطاعي؟ لماذا تكررت ردة الفعل هاته -انقباض الصدر وضيقه -أكثر من مرة خلال الثلاث سنوات الأخيرة من عمر حكومة السيد عبد الإله بنكيران حتى صارت لازمة سلوكية لدى رموز حزب العدالة والتنمية كلما قفزت المسألة الاجتماعية إلى مصاف الاهتمام الجماهيري الأول؟ لماذا يتقلص القاموس السياسي الأصولي وتتبعثر مفرداته، فتدخل توصيفات الاصوليين لما يجري على الساحة الاجتماعية في حالة من التيه، المصحوبة بتعبيرات تلتقي في الترميز الى درجة عالية من النرفزة وفقدان التوازن ،كما ظهر مثلا على لسان الوزير المتحدث باسم الحكومة سواءعقب اتخاذ قرار الإضراب او مساء يوم تنفيذه ونجاحه؟ لماذا يحدث هذا كلما عرفت الساحة الاجتماعية دينامية مطلبية او بوادر غليان يدفع إليهما نفاد صبر الطبقة العاملة وصغار الموظفين وعموم الأجراء من سياسات وتدابير اكثر ما صار يميزها اليوم هو المسايرة العمياء لقوانين السوق العشوائية ، تأتي على الأخضر واليابس ،و توسع الهوة بين طبقات الأمة وشرائحها الاجتماعية ؟ ان الجواب عن هذه الاسئلة ، او محاولة تلمس عناصر الاجابة الاولية عنها على الاقل ، لا يمكن ان ينفصل عن تسجيل حقيقة لا مراء فيها اليوم، تهم طبيعة الهوية الاجتماعية لحزب العدالة والتنمية، حقيقة أخفتهاعن عدد كبير من الناس لفترة - غير طويلة لحسن الحظ - شعارات عامة فضفاضة ، حقيقة كون هذا التنظيم السياسي يمارس في الميدان اختيارات نيوليبرالية متطرفة ، تجعله أبعد ما يكون عن الايمان حقا بأن المسلمين في هذا البلد يجب ان يكونوا سواسية كأسنان المشط. لكن مهلا بعض الشيء ، فقد نعطي للأوصاف أكثر مما تحتمل دون شعور او قصد ، لو نحن اكتفينا بمنطوقاتها الظاهرية دون الوقوف على ما يقف وراء الكلمات من معان ودلالات. .لقد تحدثنا عن اختيارات نيوليبرالية، والحال ان الامر هو اقل بكثير من مفهوم الاختيارات حينما يتعلق الامر بالحزب الذي يقود الحكومة عندنا ، لان القول بالاختيارات يعني الاستناد الى مرجعية ، وهي هنا المرجعية النيوليبرالية، تلك التي حملها وروج لها دعاتها ومنظروها ممن ينعتون ب new cons في اللغة الصحفية العالمية ، وهذه المرجعية تتأسس على فلسفة سياسية معينة كانت السيدة مارغريت تاتشر(maggie كما كانوا يسمونها) قد أرست منطلقاتها المذهبية في نهاية السبعينيات من القرن الماضي ، فلسفة كانت قد أعادت النظر في دور الدولة ومفهوم المسؤولية الفردية وطبيعة العلاقات التعاقدية بين الدولة والمجتمع ، كما أعادت التأكيد على أخلاقيات الاعتماد على الذات في مقابل أخلاقيات الاعتماد على إعانات دولة الرعاية الاجتماعية الكينيزية، (والتي كانت السيدة ماجي تعتبرها استكانة مشاة للإرادة) وغيرها من المرتكزات التي شكلت -ولا تزال - النواة الصلبة للفكر النيوليبرالي في صيغته المعروفة منذ ماما كان يدعى عند الاقتصاديين بمدرسة شيكاغو.. مفهوم الاختيارات مفهوم يتجاوز إذن مفهوم السياسات او التدابير policies لأنه يجعل هذه الأخيرة تتأسس بالضرورة على مرجعية وعلى فلسفة سياسية معينة يجري تقديمها والدفاع عنها بشكل واضح ومكشوف ، وتوظف لخدمتها منابر أكاديمية وإعلامية وعلب تفكير Think tank ذات قيمة. لا شيء من هذا لدى الأصوليين عندنا وهم يساهمون في تدبير الشأن العام ، هم نيوليبراليين بالاجراءات والتدابير المتخذة ، وكفى الله المومنين شر القتال. والظاهر ان الجناح الدعوي للعدالة والتنمية ، والذي كان من المفروض -او المنتظر- ان يقدم الغطاء النظري للسياسات النيوليبرالية المتبعة من طرف الحزب الحاكم مشغول بالكامل فيما يظهر بموضوعات اخرى تدخل في نطاق إثبات النباهة الفقهية الشاطبية في سياق الصراع مع الاطياف الاصولية الاخرى ،موضوعات لا علاقة لها بالسياسة الاقتصادية او بقضايا تتصل من قريب او حتى من بعيد بالحريات النقابية او بالمفاوضة الاجتماعية او بالسلم المتحرك للاجور او بالضمان الاجتماعي او ببنية توزيع واعادة توزيع الخيرات والمداخيل .وغيرها ممن القضايا الاقتصادية والاجتماعية الملحة والضاغطة. وما دام الأمر كذلك اي ما دام أنهم نيوليبراليون وكفى ، ( دون مرجعية او فلسفة) فإن المسألة لا تخرج عن إحدى احتمالين : اما انهم نيوليبراليون بالسليقة ، بالهوية الأولية ، وقد يكون هذا نتيجة لتشبث من جانبهم بقراءة او تأويلات معينة ، خطية ، حرفية ، نكوصية للنصوص القرآنية التي تتحدث عن مشروعية الاختلاف في الأرزاق بين الناس .وعلى كل حال ففي هذه الحالة ، اي ضمن هذا الاحتمال، ليس هذا المجال هو المجال الوحيد الذي نصادف بخصوصه لديهم قراءات متزمتة للنصوص الدينية ، فلقد مارسوا بكثافة هذا النوع من القراءات في السابق في موضوع مدونة الأسرة وخطة ادماج المرأة في التنمية وقضايا مجتمعية أخرى عديدة . واما، الاحتمال الثاني ،انهم ليبراليون بالمحاكاة والتقليد، حيث لا حاجة أصلا عند المقلد، في هذه الحالة، لأية مرجعية، وحيث المطلوب فقط إتقان محاكاة من يتم تقليده لا اكثر ولا اقل . والحاصل في مثل هذه الحالة ان المقلد عادة ما يبالغ حد الإسفاف في محاكاة أوصاف وأفعال وخصائص من يقلد. لاحظوا مثلا، كمؤشر على ذلك ، الحماسة الزائدة التي يبديها السيد بنكيران كلما تحدث عن التوازنات المالية وصناديق التقاعد والمقاصة والمقايسة وحقيقة الاسعار والمنافسة وغيرها من الموضوعات الاقتصادية . كيفما كان الحال وسواء كنا إزاء الاحتمال الاول او كنا امام الاحتمال الثاني ، فإن واقع الحال لا يرتفع ، هم نيوليبراليون بدون سند مرجعي او فلسفة داعمة . وأستطيع ان اجزم بالمناسبة ، في هذا السياق مثلا ان المنشغلين بالاقتصاد في صفوفهم لم يطلعوا بعد على الكتاب/ الحدث لسنة 2014 حول رأسمالية القرن الواحد والعشرين لصاحبه توماس بيكيتي الذي ترجم الى كل اللغات وبيعت منه ملايين النسخ ولاقى اهتماما دوليا واسعا ،لان المؤلف بين بالوقائع والأرقام في هذا المؤلف الرائد لماذا تحولت معضلة اللامساواة اليوم الى معضلة زماننا الاولى ، وما دام النصح خير فإننا ننصح الأصوليين النيوليبراليين عندنا بقراءة الكتاب . الآن فقط في سياق هذا الحراك الاجتماعي الراهن وبمقتضى موجباته ودواعيه بدأت هذه الحقيقة اي الانتماء النيوليبرالي للاصوليين، تنكشف للعموم، وعلى نطاق غير مسبوق ، لأن الناس بدأوا يلمسونها في معيشهم اليومي ، الآن لم يعد بإمكان مهندسي حزمة التدابير اللاشعبية، التي تهدم كل يوم وكل أسبوع القدرة الشرائية للأجراء والمستخدمين، ان يقدموا سلعتهم في صورة الإصلاحات الضرورية . لم يعد الناس مستعدون لتصديق الحكاية حتى ولو تفنن السيد الوزير الاول في تقديمها بأبسط مفردات الدارجة إظهارا للقرب من عامة الناس، لأن البسطاء فهموا الهوية الاجتماعية الحقيقية للحزب الاغلبي الحاكم وانقشع الضباب . قد تستمر عناصر» البورجوازية التقية « la bourgeoisie pieuse كماسماها جيل كيبل، ضمن توصيفه لبعض القواعد الاجتماعية للأحزاب الأصولية ، تلك التي لا تتأثر بدرهم او درهمين زيادة في هذه المادة الحيوية او تلك- قد تستمر هذه الشريحة الاجتماعية في اسناد البرنامج النيوليبرالي الاصولي وقد تكون هذه الشريحة رأس الرمح في الحسابات الانتخابية المقبلة لحزب العدالة والتنمية، ولكن هذا الوضع لا يغير من المعادلة العامة في شيء . بعد هذا ترى ماهي النتائج التي يتعين ان تستخلصها القوى السياسية المناهضة للسياسات النيوليبرالية الأصولية ، بعد ان اصبح هذا الخطاب الأيديولوجي الاصولي عاجزا عن التمويه ،غير قادرعلى إخفاء الهوية الاجتماعية الحقيقية لأصحابه ؟ سؤال نحسبه مهما لأنه يضع الديمقراطيين جميعا امام سؤال استراتيجية العمل المطلوبة حينما يتعلق الأمر بالاختيار الواعي لمفردات المحاججة السجالية و الصراع السياسي مع الأصوليين النيوليبراليين : هل يستمر الديمقراطيون الحداثيون في ممارسة الصراع في الواجهة الثقافية الأخلاقية ، وهو ما يروق الأصوليين ان يجروا الجميع اليه لانه المجال/ المصيدة الذي يعتبرونه انسب المجالات للتمويه على اختياراتهم -عفوا تدابيرهم- النيوليبرالية ، ام انه آن الأوان لفرض مجالات الصراع الأكثر إلحاحا من الناحية السياسية المباشرة ، مجالات السياسية الاقتصادية وتحديدا مجال التوزيع وإعادة التوزيع والأجور والأسعار والضرائب والخدمات العامة وباقي المجالات التي يرتهن بها معيش ومعاش الملايين من الناس ، وحيث تتبدى حينها واضحة مكشوفة الهوية الحقيقية للاصوليين، يراها المواطن البسيط حتى قبل ان يكشف عنها الاقتصادي المتخصص . قد لا اخرج عن الصواب السياسي politically correct , ان قلت انه بمقتضى طبيعة المرحلة وضغوطاتها, فإن الحس السليم بات يقتضي من الديمقراطيين الحداثيين ، عند مقارعة الفكر الأصولي ، خاصة حينما يصل أصحابه الى الحكم، وتجنبا للمصيدة المنصوبة ، اعادة ترتيب الأولويات على صعيد الممارسة الفكرية والسياسية. وهكذا فعوض الانشغال حد الاستغراق بالموضوعات الفلسفية الثقافية الغليظة الجامعة المانعة من قبيل مفهوم الحداثة وأخواتها والتقدم الحضاري وحيثياته وتجديد التراث وعوائقه( موضوعات في غاية الأهمية بدون شك أمضى جل مفكرينا المرموقين حياتهم في الخوض فيها ) قد يكون من الأفيد الآن ،وقد انقشع الغبار عن حقيقة السياسات الأصولية في المجال الاقتصادي / الاجتماعي العمل على تأطير هذا المد في الوعي الجماهيري الراهن ( واكاد اقول الصحوة الجماهيرية )بفتح نقاش جماهيري واسع حول الهوية الاجتماعية النيوليبرالية للاصوليين وكيف تعاكس سياساتهم الفعلية اي مطمح نحو العدالة الاجتماعية او التنمية المجتمعية وما يستتبع ذلك من ضرورات الدفاع عن قيم واختيارات وسياسيات بديلة تخدم المساواة والتكافؤ والتوزيع العادل. ونعود الى طرح سؤال يتداعى من كل ما سبق : هل من غرابة في كون صدر الأصوليين عندنا ينقبض ويضيق ، كما تمت الإشارة إلى ذلك في بداية هذا الحديث، كلما طرحت المسالة الاجتماعية نفسها بإلحاح ؟ والجواب ، او مقدمته على الأقل ، ان المسألة الاجتماعية حينما تطرح نفسها على الوسط الأصولي ، فإنها تكشف بما لا تستطيعه أية مسألة اخرى ، خطابية عامة او فكرية مجردة ، الثاوي والمختبئ ، على مستوى الهوية الاجتماعية ، تحت الجلباب الأصولي . وإذن فإذا ظهر السبب بطل العجب. الأخبار الطيبة القادمة من تونس الشقيقة تبين ان الديمقراطيين هناك ، بعد عراك قاس وصراع طويل النفس فهموا الدرس واستوعبوا الحقائق الكامنة وراء الظواهر ، فهل نكون نحن اقل منهم فهما واستيعابا لجوهر الهوية الاجتماعية للاصوليين، وما يفرضه هذا الفهم والاستيعاب من تغيير في مواضيع وميادين الصراع السياسي ومفرداته ومنطوقاته في المستقبل ؟ ان نجاح الإضراب الإنذاري ليوم التاسع والعشرين من اكتوبر و روح التعبئة والانضباط التي واكبته قد تكون علامة فارقة في الطريق السالكة نحو هذا الهدف. لماذا ينقبض صدر الأصوليين عندنا وهم في موقع المشاركة الحكومية كلما واجهتهم الساحة الاجتماعية وأطرافها النقابية المنظمة بتحركات مطلبية عارمة او بإعلان إضراب عام أو حتى قطاعي؟ لماذا تكررت ردة الفعل هاته -انقباض الصدر وضيقه -أكثر من مرة خلال الثلاث سنوات الأخيرة من عمر حكومة السيد عبد الإله بنكيران حتى صارت لازمة سلوكية لدى رموز حزب العدالة والتنمية كلما قفزت المسألة الاجتماعية إلى مصاف الاهتمام الجماهيري الأول؟ لماذا يتقلص القاموس السياسي الأصولي وتتبعثر مفرداته، فتدخل توصيفات الاصوليين لما يجري على الساحة الاجتماعية في حالة من التيه، المصحوبة بتعبيرات تلتقي في الترميز الى درجة عالية من النرفزة وفقدان التوازن ،كما ظهر مثلا على لسان الوزير المتحدث باسم الحكومة سواءعقب اتخاذ قرار الإضراب او مساء يوم تنفيذه ونجاحه؟ لماذا يحدث هذا كلما عرفت الساحة الاجتماعية دينامية مطلبية او بوادر غليان يدفع إليهما نفاد صبر الطبقة العاملة وصغار الموظفين وعموم الأجراء من سياسات وتدابير اكثر ما صار يميزها اليوم هو المسايرة العمياء لقوانين السوق العشوائية ، تأتي على الأخضر واليابس ، و توسع الهوة بين طبقات الأمة وشرائحها الاجتماعية ؟