بعد توصلها بنسخة من الرواية في شهر شتنبر الماضي، ضمن ركام من الكتب الجديدة التي يحرص الناشرون على بعثها للإعلاميين مع مطلع كل دخول أدبي، شرعت ألكسندرا شفارتزبرود، الصحفية في يومية "ليبراسيون" الفرنسية، في تصفح الصفحات الأولى من المطبوع الورقي كما يقتضي ذلك الحد الأدنى المهني، وفق ما تحكيه في مقال لها منشور في 29 شتنبر الماضي. فماذا اكتشفت؟ "بدأت في قراءة الصفحات الأولى (من الرواية). لم أعد أستطيع وضعها جانبا: إنها تعج بالجنس، جنس خام، بارد، عنيف. حكاية امرأة تعاني من الإدمان على ممارسة الجنس. المعاناة هي الكلمة الصحيحة. ليس ثمة لذة إطلاقا خلال الممارسة، أو لعلها تكمن في عملية القنص، في لحظة الإغراء المنفلتة." أعجبت الصحفية بالرواية، فخصصت لها ولصاحبتها صفحة كاملة في اليومية الباريسية. لكن من تكون الكاتبة وما الرواية المثيرة لكل هذا الإعجاب رغم أنها المولود الأول لصاحبتها في مجال الكتابة الأدبية؟ الرواية صدرت مؤخرا ضمن منشورات غاليمار الفرنسية، عنوانها "في حديقة الغول" وصاحبتها هي ليلى السليماني، المنحدرة من أصول مغربية والمقيمة منذ سنوات في فرنسا. الشخصية الرئيسة في عمل ليلى السليماني الروائي الأول امرأة صعبة المراس وجليدية تسمى أديل. بمجرد مغادرة الزوج لبيت الزوجية الذي يبدو سعيدا للالتحاق بالعمل، تجهد البطلة نفسها للبحث عن رجال عابرين تجد بين أحضانهم "ذلك الإحساس السحري المتولد عن لمس الخسيس والفاحش، الانحراف البورجوازي والبؤس البشري بالأصبع"، مثلما يرد في الرواية. ومع ذلك، فليس السرد في الرواية، طبيعة ومعمارا ولغة ومشاهد وأحاسيس وشخوصا ودقة وصف للممارسات الجنسية هو سبب عدم الفهم الجلي الذي تولد لدى الصحفية ألكسندرا شفارتزبرود وهي في حضرة العمل. ليس السرد في حد ذاته، والمشاهد الإيروتيكية التي تخترق صفحاته، بل الإهداء الذي يتصدر المؤلف: "إلى والديٌ". "لولا والديٌ، لولا ما هما، لما استطعت كتابة هذا المؤلف"، تصرح الكاتبة للصحفية حين التقتها وسألتها عن أسباب نزول الإهداء ذاك. ازدادت ليلى السليماني بالرباط، من والدة مختلطة الأصول (الجزائر والألزاس الفرنسية) ووالد مغربي ينحدر من مدينة فاس. تابعت دراستها في الثانوية الفرنسية، وهي لا تتحدث العربية إلا بصعوبة لأن الوالدين كانا يفضلان استعمال اللغة الفرنسية في البيت. الوالد، عثمان، كان مصرفيا، منحدرا من عائلة متواضعة. لقد حصل على منحة لمتابعة دراسته الجامعية في مجال الاقتصاد بفرنسا وتخرج بامتياز. حمل حقيبة كاتب للدولة في الشؤون الاقتصادية في مغرب سبعينيات القرن الماضي، ليصبح بعدها رئيسا لبنك تورط في فضيحة مالية، ما أدى إلى أفول نجمه رغم أنه لم يكف عن الدفاع عن براءته. وقد توفي في سنة 2004 جراء الإصابة بالسرطان. الوالدة، بياتريس-نجاة، طبيبة متخصصة في أمراض الأنف والأذن والحنجرة. "إحدى أولى النساء الطبيبات في المغرب، تقول البنت بافتخار. تمتلك حسا نادر بالجرأة والكرامة، وهي غير قابلة للقهر." الوالدان العلمانيان كانا شغوفين بالفن والأدب، شغف نقلاه لبناتهن الثلاثة. "لم يكن في البيت أي إكراه متعلق باللباس أو الإيديولوجيا. كنا حرات، نتناول كل المواضيع"، تقر الكاتبة. حين بلغت الثامنة عشرة من العمر، غادرت ليلى السليماني المغرب لتحط الرحال في باريس. كانت تحلم بأن تصبح طبيبة نفسية، لكن ميولاتها الأدبية ستقودها إلى دراسة العلوم السياسية قبل التسجيل في معهد لتلقين التمثيل: "لكنني كنت ممثلة رديئة والوسط السينمائي لم يكن يحظى باهتمامي"، تعترف. حصل هذا عقب زياراتها لدول أوربا الشرقية، وخاصة إلى العاصمة موسكو التي تجولت في رحابها، برفقة أمها، بين بيوت كبار الكتاب الروس، وتقديم دور سينمائي صغير. بعدها، ستتابع ليلى السليماني دراستها في شعبة الإعلام بأحد المعاهد الباريسية العليا، لتتلمذ على يد كريستوف باربيي، مدير تحرير لكسبريس، الذي سيوفر لها تدريبا مهنيا في الأسبوعية. وجدت الشابة نفسها مثل سمكة في الماء في لكسبريس، لكنها انتبهت بسرعة إلى أن العنوان ليس بحاجة إلى صحفيين جدد، فتوجهت إلى جون أفريك لتشتغل بها طبقا لعقد عمل غير محدود المدة. وكانت حينها حديثة العهد بالزواج بأنطوان الذي التقته في حانة. الزوج مصرفي، بروتستانتي، حاد ورصين؛ على عكسها تماما: "لكنه يحب المتع مثلي. لدينا معا نفس العشق للاحتفال". أديل، بطلة رواية "في حديقة الغول"، صحفية هي الأخرى، تتميز بنظرة غير دمثة للمهنة. وتؤكد ليلى السليماني، اعتمادا على تجربتها المهنية الخاصة: "أجد هذه المهنة قاسية، تلتهم كل وقت ممتهنها. كنت دائمة الشعور بأنني لا أشتغل بما فيه الكفاية، بأنني لست في المستوى. ثم إنها مهنة لا نتقدم في إطارها في السن بشكل جيد". ولذا، ستستقيل ليلى من وظيفتها كصحفية مهنية لتظل مجرد متعاونة، مخصصة جل وقتها لعشقها الدائم: الكتابة الأدبية. "في حديقة الغول" حكاية تيه، يقول ناشرها، حكاية جسد نسائي يسعى إلى المطلق. كتابتها دقيقة وفجة تشرع الأبواب أمام فجوات شاعرية ومثيرة للمشاعر. هي رواية ترسم ملامح شخصية نسائية ملؤها الألغاز، شخصية تبدو منفلتة من الزمن بقدر ما هي معاصرة. إن أديل وريشار يعيشان في باريس، ويبدو للوهلة الأولى أن الصحفية والطبيب زوجان سعيدان، وهما يسهران على تربية صغيرهما في منزلهما الجميل. لكنه ثمة سر تحتفظ به أديل لنفسها وتدمن عليه: توظيف الفائض من وقتها للقاء رجال وممارسة الجنس معهم. ريشار سيكتشف الحقيقة، ويحاول، بعد تجاوز الغضب والحزن العميق والرغبة في ترك زوجته، استرجاع هذه الأخيرة إلى كنفه. لكن كيف تولدت فكرة الرواية لدى مبدعتها؟ في ماي 2011، سترزق ليلى السليماني بإميل، وتشرع في غرضاعها أمام شاشة التلفزيون. كانت القنوات التلفزية، أيامها، مهتمة بقضية دومينيك ستراوس واتهامه باغتصاب عاملة في فندق أمريكي، وتبث صور الحدث ذاك طوال نشرات أخبارها. الصور المتتالية ستجعل الفكرة تنبثق في ذهن الكاتبة: "كنت مبهرة، كيف يمكن لإنسان أن يجازف بحياته إلى هذا الحد؟ لكنني وجدت أن دراسة الإدمان على الجنس من طرف امرأة أهم، خاصة أنني كنت أرغب منذ مدة ليست باليسيرة في التطرق إلى مسألة الجنس لدى النساء. حين يعيش المرء في بلد مثل المغرب، فهو يدرك أن الممنوعات المحيطة بالجنس تخلق علاقة غريبة مع الجسد. كل الأمور تمارس في سرية، في وضع ضيق إلى حد ما". شرعت ليلى السليماني في التهام الروايات العالمية ذات الشخصيات الرئيسة النسائية: "مدام بوفاري"، "تيريز ديسكييرو"، "أنا كارينين"... وذات صباح، ستنعم بالإلهام وتهزم رهاب الصفحة البيضاء: "بانت لي أديل، مثل موسيقى خافثة مضايقة. المنحى التخريبي لديها لا ينجلي في الجنس، بل في استكانتها، كسلها. وهي ترفض أن تجعل نفسها تطابق الأدوار المقترحة عليها مسبقا". بمجرد صدورها، حازت "في حديقة الغول" استقبالا محتفيا من قبل الإعلام الفرنسي المكتوب، ولكن أيضا السمعية?البصري الذي استضاف صاحبتها (فرانس 24، إيل. سي. إي.، باري بروميير...). غير أن أول من احتفى بالرواية هو الكاتب النغربي الطاهر بن جلون، الذي خصص لها عمودا في أسبوعية "لكسبريس" (19 غشت 2014)، عنونه ب "كتاب الجنس والملذات". يقول صاحب الغونكور وعضو لجنة تحكيم الجائزة حاليا: "انتهيت توا من قراءة الكتاب، وأجده جد جيد. من النادر أن نعثر على رواية أولى منجزة بهذه الجودة، تتضمن حكاية تجذب القارئ من البداية إلى النهاية، ومكتوبة بأسلوب حيوي وشخصي". ويضيف بن جلون بأن ليلى السليماني كسرت عادة مكرسة في أوساط الكتاب المغاربيين، العادة التي تقضي بأن يكتبوا دائما وعموما، في البدايات، عن أنفسهم، بينما أحداث رواية "في حديقة الغول" تحتضنها فرنسا وشخوصها فرنسيون. ويكتب الطاهر بن جلون الذي اقترف هو الآخر ذنب السيرة الذاتية في بداياته (حرودة) عن رواية ليلى السليماني "الكتاب يفرض نفسه علينا ويجعلنا في وضع يمنعنا، أخلاقيا، من الحكم على الكاتبة". قبل أن يختم: "النهاية تتميز بحبكة ممتازة. الكتاب يمنح نفسه للقراءة دفعة واحدة، والقارئ يفتن بين طياته بقوة وجرأة وموهبة الروائية الشابة. فمرحى في حديقة الكتابة والخيال بجميع أشكاله".