يختار إبراهيم صادوق المناضل السياسي والحقوقي، الابتعاد عن الأضواء يقوده اندفاعه نحو القراءة والكتابة إلى الاختفاء عن الأنظار، يهرب من كل مهامه المهنية بمجرد انتهائه من المسؤوليات الملقاة على عاتقه كمحامي وكنقيب لهيئة المحامين بمراكش لولايتين والأمين العام المساعد لاتحاد المحامين العرب.رغبته الجامحة في لقائه مع الذات لا يفهمها إلا المقربون جدا من دائرته. لقاء يتحول فيه الرجل إلى حامل قلم بسؤال قلق في القوانين التي تمس جوهر الإصلاح في السلك القضائي وهو الممر الذي خبره صادوق إبراهيم وحقق فيه إشعاعا وتأطيرا على مستوى البحث و الدرس بالنشر مرة في المجلات المختصة أو في الإفادة خصوصا في صفوف الشباب اللذين يحجون إلى مكتبه وكل فضاءات تواجده، يساعدهم في ذلك مرح الرجل واعتزازه باللمة القانونية والثقافية وحتى السياسية في أحيان كثيرة. لا أخفي أني تحايلت على الرجل في أكثر من مرة من أجل معرفة تاريخ أعتز بالانتماء إليه في مسار رفاقنا، كان صادوق اسما يحمل وسطهم معنى متجسدا في عدم توظيف تاريخه النضالي من أجل كرسي عابر، ظل الرجل معتبرا تاريخه واجبا نضاليا عاشه بقناعة في ممارسة السياسة بالشكل الذي انتمى فيه إلى الرفاقية وقناعتها الكبرى في الزمن الصعب الذي كان يقود الرفاق إلى السجن وذلك أبسط العقوبات في سنوات الجمر والرصاص. يحكي الرفيق، بالتواضع الذي يشدنا إليه، تسكنه الحكاية النابعة من قهر فعلي، لكنه قهر لا يسجن النقيب في مرارته، فللرجل قدرة عجيبة في تحويل القهر إلى حكي سلس، وكأنه جزء من بناء إنسان، ويبدو فيه صادوق مسكونا بمرجع للمستقبل، وكأن الذي كان هو جزء من إبراهيم المنتصر للوطن والقضية. لهذا توجه النقيب صدوق، وأنا أطارده من أجل انتزاع الحكي من ذاكرة ترفض الخوض في التفاصيل التي كانت، إلى كراسة الحكي في نصوص أدبية أضاع المؤلف الضمني العديد منها، وهي نصوص كتبها في سبعينيات القرن الماضي، نشرت في مختلف المنابر، تلك التي لم يستطع زمن كان أن يحفظها في أرشيف كتاب وطننا، وذلك موضوع آخر. حكى المؤلف الفعلي إبراهيم صادوق عن مؤلف ضمني اسمه إبراهيم، لم تتعبه القراءة، كان يذكر ممراته في الفعل والممارسة المكتوبة بحروف واضحة في كراسته، نقلنا إلى خبايا وأسرار عاشها إبراهيم الواقع والخيال، يمتزج الوعي بلحظات الطفولة بالوعي في لحظات الكتابة ، يخون وعي زمن الكتابة وعي طفل يترصده إبراهيم المؤلف الضمني، يوجهه كي يميز بين ثنائية الحرام والحلال ، المقدس والمدنس، بعمق فلسفي وصوفي، يحضر الفقيه بجلبابه وتوجهاته الدينية، يناقشه إبراهيم الطفل يقسو عليه يسخر منه، فيتركه في تقليدانيته هاربا إلى فرح في قرية ترسم معالم الحب والجمال بمختلف الفنون التعبيرية في الفروسية و "التبوريدة" حيت تمتزج رائحة البارود برائحة كحل امرأة يفعل في الذاكرة الصغيرة نحو ذاكرة كبيرة تحج من القرية إلى أفكار ماركس ولينين ليصبح الجسد قضية ينبغي تحليلها كي لا يمارس القهر على جسد امرأة في لحظات الفرح الكبرى، وهي اللحظات التي تقفز في مخيلة المؤلف الضمني إلى "الفرح والغبار والمجد المنتظر" وهي الجملة النواة التي فجرت مقولات سردية أخرى تركت النقيب صادوق يسردها وكأنه محتاج إلى متلق آخر غير ذلك الذي ألفه في السياسة والمحاماة. يتذكر النقيب الأديب كل شخوصه، يتوقف عند" عباس" الذي سماه أهل القرية بالخاسر، وللخاسر دلالاته في النطق والتعبير نحو الانكسارات المعلنة على اللسان المرارة وفي النص بالتكرار. مقولات جعلت طموحي يفوق رغبة الرجل في الانتقال من سؤال الخيال نحو الواقع ، وهو السؤال الذي استشفه من نفس حكي إبراهيم عن الذات والجماعة في ممرات الدوار الوعرة التي تضع قانونها و مساطرها في التدبير، ليستيقظ في هذه اللحظة إبراهيم الشاب الذي يبدأ في المقارنة بين الجماعة والبرلمان وممارسة مفهوم الديمقراطية بأسلوب لا يخلو من التشويق والسلاسة التي ميزت حكي المؤلف الضمني. واصلت انتصاراتي المتكررة على الرجل، انتشيت بذلك، أحسست أني انتزع منه حقا مشتركا باسم الرفاقية والأخوة، سؤالي مهوس بالسياسي القابع فينا جميعا، قلت هو مشتركنا لكن لكل جيل إكراهاته ومحفزاته في مواصلة الدرب أو عوائقه في التراجع. قلت لصدوق الواقع، كيف كانت البداية في التعليم الثانوي، كان سؤالي مقصودا جدا وهادفا لمعرفة حركة التلاميذ في الستينات، قال صدوق وهو يتحول بذهنه من قريته التي تبتعد عن المدينة بثمانين كيلومتر ، إلى مراكش واصفا عروس الجنوب بالواحة الشامخة وسط بياض الأطلس، تغنى بأسوارها وبطرقها وبليلها وشمسها، كشاب عشق المكان حتى أسكرته لغة الغزل النابع من قلب التلميذ الذي كان. وهو غزل لم تمحوه قسوة الرغبة في مواصلة التعليم بنفس يملؤه التحدي ، قال صادوق: كنا 89 تلميذا، اجتمعنا كلنا أمام جامعة بن يوسف طلبا للتعليم الأصيل ، لم يكن الأمر سهلا، وعندما قبلنا - يضيف - بدأنا من الأصعب في معادلة مقلوبة كالتساؤل عن علم الحساب وفوائده، وقس على ذلك مواد أخرى. وفي باب التعليم ينقلنا الراوي الفعلي إلى مدرسة باب خميس ثم نهضة بن يوسف التي كانت تابعة للإتحاد الوطني للقوات الشعبية والتي كان يلقي الدروس فيها مناضلون وأساتذة من مصر في إطار التآخي. ولم يفت النقيب صادوق ذكر أسماء وقف عندها بكل شغف وتقدير كالأستاذ زنتوت والأستاذ شحرور، مؤكدا أنهم علموا التلاميذ آنذاك دروس المحاسبة والاختزال والرقابة. ويتحسر إبراهيم صادوق على سوء الفهم في ردود الأفعال في السياسة عندما أبعد هؤلاء عن المغرب إبان حرب الرمال التي تورط فيها المصريون إلى جانب الجزائريين، لكن حرارة دموع الوداع بين الأساتذة و تلاميذهم تؤكد علاقة أخرى لم يمحوها النسيان. بدأت لغة النضال تتسرب إلى مواقف صادوق التلميذ الذي أكد لنا انخراطه في أحداث ثانوية ابن يوسف ، كان ذلك سنة 1965، التي تحمل دلالات في ذاكرة الطفل الآتي من الهامش و المهوس بأسئلة قلقة وجودية ستجد محطاتها في القناعات السياسية في مساره السياسي والفكري، قال ابراهيم التلميذ لقد انخرطت في الاحتجاج العفوي ضد اختفاء المهدي، كان للاختفاء وقعه في الصف التلاميذي ، هذا الصف الذي سينظم نفسه في خلايا مبادرة الى قرارات من داخل الصف التلاميذي. يحكي ابراهيم عن يوم الخروج في المظاهرة وكيف تصدت السلطات التي حجت الى المؤسسة ومنعت التلاميذ من الخروج ممارسة بذلك عنفا لفظيا وجسديا لم تميز فيه بين التلميذ والعامل و الأستاذ، ويواصل إبراهيم حكيه يوم أديرت وجوههم إلى الشمس في يوم مراكشي حارق وكيف أن الفعل لم يتنيهم على مواصلة دربهم النضالي الملتف حول مطالب القوى الشعبية يؤكد صادوق أن الخلايا التلاميذة كانت متراصة الصفوف وهي عنصر في بنية الخلايا الاتحادية التي تشكل مشروعا جماهيريا مصطدما بالفعل مع منظومة المخزن. واصل ابراهيم التلميذ كيف واجه هذا الأخير الخلايا الاتحادية بالقمع و الإعتقال وإبعاد التلاميذ الآتون من الهامش الى دواويرهم وقراهم في عطلة طويلة تحمل معاني كثيرة في سياسة تدبير مرحلة توضع في سنوات الجمر والرصاص. وهي السنوات التي يحملها ابراهيم الشاب الى حياته المهنية والتعليمية والنضالية في مدينة الاقتصاد والأسئلة الكبرى بمدينة الدارالبيضاء حيت يلتقي فيها بعمر بنجلون ، وبمناضلي منظمة 23 مارس. ينخرط ابراهيم في سلك التعليم، ويلتحق بمدرسة تحناوت نواحي مراكش، كان معلما مختلفا يحمل ثقافة مغايرة لكنها ثقافة زادت من حماسه في إفراغ شحنة العلم في أذهان طلبته.لم يكن التعليم أفقه كان ابراهيم يبحث عن محطة مغايرة، طلب الانتقال إلى الدارالبيضاء ليهيئ الباكالويا ويجتازها حرا. نجح ابراهيم الشاب المتحمس للعلم والمعرفة بدرجة عالية، أتاحت له الالتحاق بكلية الحقوق بالدارالبيضاء. في هذه الفترة بالذات كانت اللقاءات تتم في نقط متفرقة في هذه المدينة الحاملة للعديد من أسرار المناضلين، خاصة تلك التي تجمع الرفاق على تداول البعض منها بحذر كبير بمقهى" الستيام"، عرف ابراهيم ، عبد السلام المؤذن وبنشقرون وغيرهم. يذكر ابراهيم جملة للينين ظلت عالقة في ذهنه لأن المرحوم عبد السلام المؤذن، وهو يحاور الشباب يذكرهم بها قائلا" وكما قال لينين : لا ثورة بدون نظرية ثورية".كان ذلك يعني لهم جميعا أن عليهم مسؤولية التكوين النظري والإديولوجي. يومها كان اليسار الطلابي- يضيف إبراهيم - استحوذ على نضالات الجامعة وبلغ الصراع أشده بين الفصائل، وكان النضال في النقابة الوطنية للتعليم في أوجه. في هذه الفترة يذكر إبراهيم يوم خروجه في مظاهرات إلى جانب النقابة الوطنية للبريد على إثر ما تعرض له الشهيد عمر بنجلون من إحتجاز وتعد على يد الجهاز البورصوي، وكان التظاهر والاحتجاج الى جانب رفاق أمثال عبد الرحمان شناف وصبري ووديعة الطاهر وغيرهم من أسسوا الكونفدرالية الديمقراطية للشغل. يحكي ابراهيم في باب امتهان مهنة المحاماة أن يوم 16 دجنبر 1976 ظل موشوما في ذاكرته عندما قدمه النقيب محمد الودغيري لأداء اليمين القانونية أمام هيئة الغرفة المدنية بمحكمة الاستئناف، وذلك رفقة زملائه الأساتذة عبد اللطيف الحاتمي المحامي بهيئة الدارالبيضاء، وعبد السلام حشي المحامي بهيئة الناضور،المرحوم الأستاذ اعبابو. لقد تملكه إحساس دافق باللحظة الأولى التي يرتدي فيها بذلة النبل و السمو و غمره شعور عميق بالمسؤولية و التبصر والرزانة و الوقار، وهي بذلة المحاماة ذات الدلالة و مغزى الكبير. ويواصل إبراهيم حكيه عندما تلا السيد رئيس كتابة الضبط القسم القانوني الذي يؤديه المحامون في بداية مشوارهم المهني : "اقسم بالله العظيم ان امارس مهام الدفاع و الاستشارة بكرامة و ضمير و استقلال وإنسانية، و أن لا أحيد عن الاحترام الواجب للمحاكم و السلطات العمومية، وقواعد مجلس الهيئة التي انتمي إليها وأن لا أفوه أو انشر ما يخالف القوانين و الأنظمة والأخلاق العامة وامن الدولة و السلم العمومي، إبراهيم يده اليمنى مرددا أمام جلال الهيئة ووقارها: " اقسم بذلك و في جوارحه يختلج الإحساس العميق بالمسؤولية وتقدير جلال المهنة التي اختارها حبا و طواعية، ووثاقه رباط المودة الذي سيربطه بزملائه الذين أدى اليمين رفقتهم في نفس اللحظة التاريخية. يلتحق إبراهيم بعدها متمرنا بمكتب المحامي احمد ابن منصور التونسي الجنسية، وذلك بناء على توصية من النقيب الأستاذ محمد الناصري الذي قدمه له و عرفه به الصديق المشترك و رفيق الدرب محمد شناف الذي كان صديقه و رفيقه في النقابة الوطنية للتعليم قبل تأسيس الكونفيدرالية الديمقراطية للشغل. يحكي إبراهيم بكل استقلالية وحرية عن الأحداث الموشومة في ذاكرته وبصمت عقله الروح و الوعي، كان زال حديث العهد بمهنة المحاماة، و في طور التمرين تحديدا ، حيت ترافع عن الطرف المدني في قضية جنحية بالمحكمة الابتدائية بالبيضاء، وامتثالا لتوصيات المكتب لزمه الإدلاء بمذكرة المطالب المدنية و التماس الحكم وفق ما تحمله سطورها، غير أنه ارتأى بدافع الاجتهاد أن يرافع شفويا، ولم تكن المرافعة الشفوية إلا تكرارا لما هو مسطر في المذكرة الكتابية، واجهه القاضي بابتسامة ملؤها السخرية ومحامي الطرف الآخر صادق عليها بابتسامة أخرى من النمط نفسه، أحس ابراهيم بإختناق شديد وأخذ العرق بتصبب من جبينه ولم يعد يقوى على الحركة ببذلته السوداء .غادر إبراهيم المحكمة و قد انتابه قلق و جودي يلوح في افقه سؤال المصير، يومها ظل يوما كاملا في فضاءات الحبوس بجانب الكتب يفتش عن مذكرات أو يوميات محامي أو احد رجالات القضاء لعله يجد فيها إفادة ، فما ظفر بشي اللهم ما كان من كتاب واحد لمؤلفه الصفريوي يتضمن القانون المنظم للمهنة حيت اعتبره لمدة طويلة مرجع المرشحين لاجتياز امتحان الأهلية. و منذ تلك اللحظة ظل السؤال يراوده بإلحاح: " لماذا لا يقدم رجال المحاماة و القضاء على كتابة سيرهم الذاتية ولماذا لا يعبرون عن تجاربهم كتابيا لإفادة خلفهم في المهنة؟ يعتبر ابراهيم هذه الأسئلة مشروعة تماما لأنها تومض بكل وهج جدل العلاقة بين كتابة التجربة وتجربة الكتابة . فإذا كانت كتابة التجربة، وهي تجربة حياة محكومة بأصول و استعدادات ، يتقاطع فيها المهني و النقابي و الاجتماعي و السياسي، فإن تجربة الكتابة محكومة بتورع أدبي ظل مستحوذا على وجدانه، ليكرر السؤال من جديد : هل يتعين على كتابة التجربة أن تلجأ إلى تقطيع الماضي لتصوغ كل مستوى فيه منفردا و مستقلا، أم يلزمها التقاط الخيوط الرفيعة لتجدلها في ضفيرة واحدة يتعين على القارئ المفترض أن يعزل فسائلها فيما هو يجول في فسحتها مقربا المتباعد ومباعدا المتقارب ؟ ويسكن التساؤل إبراهيم الراوي حين يقرر المرء الدخول في مغامرة كتابة سيرته أو مقاطع منها، هل يصوغها بضمير المتكلم أم بضمير الغائب. ومن هنا يرى إبراهيم ضمير المتكلم شعري بامتياز، وعند تواتره قد يومئ إلى شكل من النرجسية وحب صورة الذات وجنون العظمة، وبالمقابل فان ضمير الغائب يخفف الحكي قليلا من الذاتية في سبيل موضوعية تبقى مفترضة غير انه يمنح موضوعه شكلا من الإجلال و التعظيم و أن الحديث عن الذات نفسها بضمير الغيبة هو من المع صور التأدب والتأنق. يقف ابراهيم عند تزامن أداء اليمين القانونية مع انطلاق أشهر محاكمة لليسار المغربي لمنظمة إلى الأمام و منظمة 23 مارس، ويقول أنه لضرورة أمنية تقرر عقد غرفة الجنايات بمحكمة أنفا الابتدائية، وهي المحاكمة التي ترأسها آنذاك القاضي محمد افزاز الذي صار فيما بعد كاتبا عاما لوزارة الأوقاف، ثم رئيسا للمجلس العلمي بمدينة وجدة. ويواصل إبراهيم أن القاعة امتلأت بما يزيد عن 140 فردا، معظمهم شباب مثقف تحمس للتحرر و الإنعتاق من السلطات المخزنية بعد أن خرج من جبة الأحزاب الشرعية حينذاك وتحديدا الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وحزب التقدم و الاشتراكية. وكان الخروج تحت لواء اليسار الجديد بافق تنظيمي مستقل ، يتم مع هبوب رياح المعسكر الشرقي و الأفكار الشيوعية القادمة من الاتحاد السوفيتي و الصين الشعبية . وتحتفظ ذاكرة ابراهيم بأسماء و ملامح العديد ممن مثلوا امام المحكمة :ابراهام السرفاتي عبد الفتاح الفكهاني ، بلعباس المشتري، بنزكري، عبد السلام الموذن ،علال الأزهر، عبد القادر الشاوي، بنشقرون، الشقيقان عزيز وصلاح الوديع، ركيز و جبيهة رحال إلى غير ذلك من المناضل الذين اعتقلوا في تلك الفترة. وقد انبرى للدفاع عنهم الأساتذة عبد الرحيم برادة و عبد الرحيم الجامعي ، بالإضافة إلى العديد من الأساتذة المعينين في إطار المساعدة القضائية، وظل إبراهيم من المواظبين على مواكبة أطوار المحاكمة، بحجة أن تطبيقات معظم الفصول الجنائية تثار خلالها، إلا أن المشترك الفكري والسياسي مع هؤلاء الشباب الماثل في قفص الاتهام كان هو الحبل القوي الرابط في الحضور الفعلي المتواصل. يواصل ابراهيم حكيه: "غاب الأستاذ عبد الرحيم برادة عن حضور الجلسات ، برغم مؤازرته لعدد كبير من المناضلين" وهو ما كان مثار سؤال و استفهام . وقيل حينها أن الشرطة حاصرت منزله بحجة حمايته وتحصينه من بعض الجهات المعادية للخط الأحمر.. لكن، مهما تعددت الأقوال، تظل حقيقة هذا الغياب متروية في ذاكرة الأستاذ عبد الرحيم برادة" توجه ابراهيم لمزاولة التمرين بمكتب الأستاذ بنيس، استقبله الأخير بحفاوة منقطعة النظير تخللها الإعلان عن قبوله ليعقبه خطاب إرشادي وعظي محمل بالأخلاقيات التي يتعين ألا تفارق المحامي و ألا يفارقها في امتداد حياته المهنية من نبل الأخلاق إلى الأمانة و الاستقامة و الاستماتة في إعلاء راية الحق و الدفاع دون هوادة عن استقلال السلطة القضائية. وضمن هذه الحدود تبقى الأمور مبدئية، لكن الغريب يقول ابراهيم هو نهاية التوجيهات الإرشادية، وقوامها ان المحامي يجب أن يتذكر دوما خلال ممارسته المهنية، أن له ثلاثة أعداء : الموكل و الخصم أما البند الثالث فقد سقط من الذاكرة. بدت هذه التوصية الختامية للمحامي الشاب المتمرن أمرا عجبا، فغادر مكتب الأستاذ المحترم و في قرارة نفسه موقف عدم العودة إليه، طالما يمتنع عنه ممارسة المهنة النبيلة في مكتب تتنافى و وصاياه و مخزونه الثقافي و مع قناعاته من مبادئ سامية خلال انتسابه لجمعية طلبة ابن يوسف و عبر عضويته الفاعلة في مكتب النقابة الوطنية للتعليم. و الحاصل انه لم يكن ليستسيغ فكرة العداوة بين المحامي و الموكل الذي استجار به طلبا للحماية و الدفاع و المساعدة القضائية . يرى النقيب صادوق أن المعرفة دون إبداع صخرة جامدة نتكسر فوقها أمواج الطموح والأمل وملكة الإبداع في حقل المحاماة كما في غيره بوصلة ومنارة هادية الى التميز والنجاح يلتقي فيها الوعي المبدع مع الوقائع المبعثرة، لا نظام فيها ولا ترتيب ويكتنفها الحشو اللغوي وعليه أن يصطفي وينتقي منها ما له آثر قانونية وفي الاصطفاء يكون الإيمان بعدالة القضية حافزا للعمل، كما أن العمل دون إيمان أو ثقة شكل من الارتزاق المتنافي مع الدفاع عن حقوق الناس ومحك القدرة الإبداعية اختبار المساطر المناسبة لعرض القضايا. وفي مسار حكي ابراهيم الذي يمتزج مع لقاؤنا به من موقعه المتعدد ككاتب ومحامي وسياسي وحقوقي، يأخذنا حكي الكاتب إلى ما ذكره في كتابه" في رحاب المحاماة" حول أشهر المحاكمات السياسية التي عرفها تاريخ المغرب بعد الاستقلال، حيت يمر الكاتب إبراهيم بمحاكمة 1984 وهو ما عرف بمحاكمة المؤامرة لقلب النظام والمس بكرامة الملك على إثر الأحداث والمظاهرات التي عرفتها مراكش سنة 1984 . يذكر ابراهيم الطلبة المتابعين بالأسماء، عباد محمد، و اليونسي و التعارجي، والنيكر ومعايفي وبلهواري والدريدي مولاي الطاهر، والحميدي، والعطروز والحراث روالمصريوي و بلبرك وسراج وبنيوب ونارداح والادريسي مولاي رشيد.بلغ عدد المتابعين 36 شخصا. كانت المحاكمة برئاسة القاضي ادريس بن الزاوية، وناب الاستاذ عبد الرفيع الجواهري عن جميع المتهمين . وتقدمت هيئة الدفاع بملتمس يرمي الى الاستدعاء ضباط الشرطة القضائية بالبيضاء الذين حرروا هذه المحاضر وكذلك استدعاء نائب وكيل الملك موحى الدهري لمساءلته عن تمديدات الحراسة النظرية التي جاءت خرقا للقانون.. وفي جلسة8 / 5 / 1984 التي استأنفت بها المحاكمة أعلنت الهيأة رفضها للدفوع الشكلية، تم عادت هيأة الدفاع والتمست القول بأن تفتيش منازل المتهمين كانت في غيبتهم ودون إذن منهم فقررت المحكمة الرفض. وشرعت في استنطاق المتهمين. واكد ابراهيم في مسار سرده أنه خلال سنوات 78 - 83 انضم المتهمون للمنظمة السرية"القاعديين" واتخذ بعضهم طريق الاتحاد الوطني لطلبة المغرب وتعاضديات الكليات مطية لذلك. يقول ابراهيم إن منظمة القاعديين هي امتداد للمنظمة المحظورة " الى الأمام" ذات البعد الماركسي اللينيني وكان من بين أهدافها نشر الإديولوجيا الشيوعية بين صفوف الطلبة والتلاميذ والأوساط المثقفة واستقطاب أكبر عدد ممكن منهم للانضمام الى صفوفها والتشبع بمبادئها و أفكارها والإيمان بأهدافها. ويضيف أن هدفهم كان هو إضعافا الدولة والإطاحة بالنظام السياسي القائم وإقامة ديكتاتورية عمالية محله. يضيف إبراهيم أنه في سنة 1984 قامت مجموعة من القاعديين ذات الاتجاه الماركسي اللينيني وروجت لإشاعة بين صفوف التلاميذ والطلبة وعامة السكان تقول فيها إن وزارة التعليم أقرت بأداء رسم عن ملف الترشيح لاجتياز امتحان الباكالوليا وعزم الحكومة على الزيادة في أسعار المواد الأساسية، وقد استطاعت المجموعة بالفعل بحكم توسعها في دائرة التلاميذ والطلبة أن تقوم بإضراب خربت من خلاله أملاكا عمومية وامتدت المظاهرات إلى الطرق العامة وخاصة سيدي يوسف بنعلي و عرصة معاش وحي الداوديات، وانضم إلى الطلبة في هذه المظاهرات العاطلين وذوي السوابق وشعاراتهم مست كل المؤسسات الوطنية والدستورية المقدسة في البلاد ...