بعد «نساء على رصيف الغربة «في 2000، و»مواجع أنثى» في 2008، تعود الكاتبة سعاد رغاي بعد فترة تناهز العشر سنوات بكتاب «أنا والإرهاب وأفول أحلام الحرية» الصادر هذه السنة عن دار الثقافة للنشر والتوزيع، معتبرة أن عودتها الى الكتابة تتم في الزمن الضائع مشيرة الى أن كتابها ليس تقليديا لأنه مزيج من السيرة والسياسة والجرح، كما أنه توثيق لتفاصيل علقت بذاكرتها وهي تراقب هذا الاندحار المتسارع للأحداث نحو الفوضى. حول كتابها الجديد، كان لنا معها هذا الحوار. – بعد إصداريك «نساء على رصيف الغربة» و»مواجع أنثى» عدت الى الكتابة في ما يشبه رحلة للتأمل والتفكير في ما حدث ويحدث من تحولات على الساحة المغربية والعربية والدولية. هل الانقطاع عن الكتابة يمنح الكاتب مسافة أكبر للتماهي والتفاعل مع الاحداث بعمق أكثر؟ – هذا ما حدث على الأقل بالنسبة لي.. لم يكن هذا الانقطاع عن الكتابة فقط رحلة تأمل وتفكير في ما يجري حولنا من صراعات وحروب وتطاحنات دموية ، بل لإعادة النظر في ذاتي كمواطنة، وفي موقعي من الأنظمة القائمة ، من الثورة، من قضايا الحرية ، ومن الحرب على الإرهاب.. مرغمة كنت أتطلع الى ما يجري و لا أرى سوى مستنقع الحقائق الذي نعوم فيه .. أرى الغياب الطويل للحياة الطبيعية التي نأملها كشعوب حرة، أرى انتشار الفقر واليأس والأنظمة الدكتاتورية المرعبة التي سدت منافذ الحرية واحتقرت مواطنيها، أرى المستوطنات الإسرائيلية تنمو كالسرطان وقد سلبت آلاف الفلسطينيين أراضيهم وديارهم، أرى أوطاننا يخرج منها كل يوم ألوف البائسين والمضطهدين إلى عرض البحار، باحثين عن أي مرفأ أمان أو مستقبل، أرى المشروع الصهيوني الأمريكي الأوربي يمعن في قتلنا وتشريدنا باسم الحرب على الإرهاب.. لم يكن ممكنا وأنا أرى هذه الحصيلة المرة من موت ودم ودمار إلا أن أكتب، علني أضيء تراجيديا الشعوب المكتوية بالإرهاب.. ونبتة الضوء ترتوي بالفكر ، لا بالدم وحده.. – لا صوت يعلو على صوت الرصاص والقوة اليوم. حتى المثقف خبا صوته لصالح وسائط معرفية أخرى أقل فاعلية. كيف ترين الساحة الثقافية اليوم في ظل خطابات نكوصية وتراجع المثقف عن لعب أدواره في التغيير؟ – كان الشاعر الألماني هلدرلين يقول « لم الشعراء في الزمن الضنين؟» فهل يمكن أن يوجد الشعراء والكتاب والمفكرون إلا في الزمن الصعب؟ أليست مهمة المثقف أن يوقظ الضمائر و يساهم في التنوير والتغيير السليم ويجمع الأمة في الأزمات والمخاضات الكبرى على شمل و احد؟ يجب ألا ننسى أن جميع ثورات العالم صنعها أو قادها كتاب ومفكرون، واستطاعوا أن يصنعوا مجد الحضارة الغربية ونهضتها التي تحاربنا اليوم وتعيد احتلالنا بأسلحتها وتكنولوجيتها المتطورة بعد أن حولتنا إلى إرهابيين متخلفين يجهلون جوهر الحضارة والإنسانية. لكن هذا لا ينفي أن الحركات النضالية العربية الأولى كان لها مفكروها أيضا الذين التزموا بقضايا أمتهم وجيلهم ومدنهم الغارقة في طمي الجهل والاضطهاد والطرق المسدودة، وكان فيهم من لوحقوا واضطهدوا وعوقبوا على أعمالهم دون أن يقطفوا الثمار، ودون أن ينالوا الجوائز والتشريفات.. ونحن اليوم نتساءل أين هم مثقفونا في هذا الزمن الضنين؟ وأي نص أو فكر يستطيع أن يرتفع إلى مستوى الفجيعة العربية التي نعيشها حاليا؟ أعتقد أن مشكلة مثقفينا اليوم أنهم استكانوا لفكرة الأبد العربي الذي لا مكان له في التفكير والتأمل وطرح أسئلة التطور، وصار صعبا عليهم الاستيقاظ بعد تلك النومة الطويلة والتخدير الكاذب.. بعضهم جلس في مكانه خوفا من إرساله إلى السجن أو المنفى أو الموت، بعضهم أثبتوا أنهم فاقدو القدرة على الإبصار والاستماع إلى أصوات الشعوب المنهوبة والمقهورة ، والمتطلعة للحرية والكفاية والازدهار، ولا يتحدثون إلا بلسان من يتحكمون في مصيرنا. السؤال الآخر الذي أود أن أطرحه في معرض الإجابة عن سؤالك: ماذا تعني مشاكل الفقر والجوع والأمية والاستبداد السياسي والعدوانية الصهيونية والزحف الاستيطاني والمصالح الاستعمارية وشبح الحرب الأهلية وغياب الحريات وهيمنة الإقطاع والركود الاقتصادي والتنموي، وتدني المستويات الصحية والتعليمية والتثقيفية، وقبل ذلك منح الشعوب السيادة لتقرير المصير بواسطة ديمقراطية حقيقية؟ ماذا يعني ذلك كله للمثقف العربي في الوقت الذي نبدو فيه مفصولين عن التطور الهائل الذي يجري في العالم و إنجازاته؟ – كتابك الأخير» أنا والإرهاب وأفول أحلام الحرية» صرخة ونداء يتنازعه اليأس والإحباط ،هل هو إدانة للآخر الذي يمتلك السلطة في انتظار تحقيق العدالة؟ – لقد جاء كتابي» أنا والإرهاب وأفول أحلام الحرية» توثيقا للحظة انفعالية قد يصعب استعادتها في غير زمن الكتابة، لحظة غير مصنوعة، مغموسة بوجع حقيقي لا بوجع متخيل .. وكما قلت في سؤالك،هو صرخة إدانة للعالم المتحضر الذي حمل طائراته ودباباته ومرتزقته وجاء ليحارب الإرهاب على أراضينا، مستكثرا علينا حق الثورة ضد الظلم، وحق مقاومة الاحتلال، وحق الخروج من واقع التبعية والوصاية، وحق المطالبة بالعدالة والكرامة والمساواة والحرية . ففي خضم هذه الحرب العالمية التي ترهبنا اليوم باسم الحرب على الإرهاب، كنا نرى حكومات متسلطة لم تدافع عن إرادة شعوبها، و لم يكن ردها سوى المزيد من القتل والقمع والتجويع ، بل اعتبرت المواطن إرهابيا لا تسقط عنه التهمة إلا إذا مشى مادحا و مصفقا. جروح كثيرة خلفتها تلك الحرب في ذاكرتي وأعماقي ، كنت أشعر بألم فظيع وأنا أشاهد آلاف القتلى والمهجرين والنازحين والبؤساء و الأيتام المشردين بلا رغيف وبلا مأوى وبلا وطن وبلا أمة ، كنت أتساءل من أنا وأضع نفسي مكانهم وبينهم ومعهم، لهذا حرصت أن يكون كتابي الجديد غضبة من أنظمة أمتي، وغضبة من أجل أمتي، وغضبة من أجل هويتي وعروبتي ووطنيتي وإنسانتي التي أهدرتها طائرات التحالف الدولي ومليشيات النظام العربي.. – يغلب على كتابك الأخير السالف الذكر ، النفس القومي والحماسة العروبية. هل مازال ممكنا الحديث عن هذه الخطابات اليوم وعن مركزية القضية الفلسطينية ضمن أولويات الأجندات العربية في ظل التكتلات الجهوية والإقليمية التي تنبني على المصالح الاقتصادية والسياسية فقط؟ ربما يغلب على كتابي كما قلتِ النفس الحماسي أو العروبي.. بالنسبة لي شيء طبيعي أن أتحدث عن العروبة كهوية ثقافية جامعة موحدة وضرورية لدول الوطن العربي لحمايتها من التفكك والانقسام في ظل التحديات الجديدة الخطيرة الاستعمارية والصهيونية و العنصرية، وفي ظل اعتماد هويات جزئية ومشاريع بديلة مثل المشروع القطري، ومشروع تسييس الدين، ومشاريع العولمة والنظام العالمي الجديد.. كل هذه مخاطر تسقط الدول العربية دولة، فدولة، وتهدد بتفتيتها وإبقائها في حالة من التوتر والصراع و الفوضى. والواقع أن الأمة كلها، ناهيك عن العروبة كمحتوى، تعاني مخاطر الاندثار بفعل ممارسات الاستبداد والفساد العربي الذي يتحمل مسؤولية مباشرة وكاملة في خيانة أهداف الأمة، وتقويض مشروع النهوض العربي، واستباحة الأرض و السيادة من كل طامع وغاز، فراحت تصول وتجول فيه المشاريع الاستراتيجية للآخرين، بدءا من المشروع الصهيوني، والأمريكي، والإيراني، والتركي، وصولا الى مشاريع الدول الغربية وغيرها ، بينما يغيب أي مشروع عربي عن الوجود في حالة أقرب إلى الانعدام. – لذلك جاءت ثورات الربيع العربي لتعيد الكرامة والعزة للمواطن، تشعره بموقع الانتماء للعروبة، وللوطن، ولهويته الدينية والتاريخية والحضارية، وترفع رأسه عاليا بعد عقود من الذل والهوان والاستبداد والفساد، وتضعه في موقع القرار لبناء غد آخر مختلف يتجاوز العنصرية السياسية والقومية والفكرية والعشائرية والمذهبية، وكرد فعل على دعوات القطرية والانعزال والفصم بين شعوب المنطقة وبعضها البعض . ولا ننسى أن التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن لمكافحة الإرهاب لا يعدو كونه جزءا من استراتيجية الفوضى البناءة لخلق مشكلات في عمق النسيج العربي والدفع بالأجيال العربية المتعاقبة إلى حد الكفر بالعروبة والانتماء وبالوطن، وهو ما نراه اليوم من موجات النزوح واللجوء والتهجير القسري في حالة استنزافية قل نظيرها ، وكذا ما جرى ويجري في فلسطين القضية المركزية وللعراق وسوريا واليمن وغيرها.. – تطرقت في كتابك «أنا والإرهاب وأفول أحلام الحرية» الى مفهوم الإرهاب أو ما سميته «الفوضى الهاربة باتجاه التعساء»، وظروف نشأة هذا المفهوم الذي استنبت ضد الانسان العربي المسلم، ضحية وفاعلا. اليوم صناعة الارهاب صناعة محلية بامتياز، فهل يكفي التعلل بكون غياب الديمقراطية والسياسات الداخلية الاقصائية للرأي الآخر هو الحاضنة الرئيسية والدافع للإرهاب أم أن هناك إعادة تشكل للخريطة الدولية بامتداداتها التوسعية من جديد؟ – لقد حرص الغرب الاستعماري منذ أيام «سايكس بيكو» على إبقاء الخريطة العربية ممزقة ومرتهنة في سياساتها واقتصادها للبنك الدولي والهيمنة الأمريكية ومجلس الأمن، وما النغمة الجديدة « محاربة الإرهاب» التي تعزف على وترها الدول التي تسمي نفسها عظمى، إلا سياسة استعمارية تهدف إلى الحفاظ على مصالح مبتدعيها على حساب تعميق أزمات العالم الثالث بما فيها عالمنا العربي والإسلامي، والنفوذ إلى أحشاء مجتمعاتنا وتشتيتها أكثر مما هي مشتتة عن طريق الضغط الاقتصادي والعسكري، ودعم الديكتاتوريات ونخبها المرتزقة المكرسة لآليات الاستعمار الجديد وزرع فوضى العنف والتطرف ، وشل أدنى حركة تفكير لدى الشعوب وعلى حقها في التعبير الحر عن واقعها وآمالها وآلامها وأحلامها، وسعيها لتحقيق مسيرات الحرية التحرر واسترداد الكرامة ، بعد أن وحدها شعور الانقضاض على الظلم والحاكم الظالم . ويبقى السؤال الذي أود أن أطرحه في ختام هذه الدردشة عن كتابي الجديد: ماذا يمكن أن نسمي كل هذا الذي حدث وما زال يحدث لنا إن لم يكن من جنس الإرهاب؟