( تحية إلى مدرسة محمد الخامس الحُرَّة ، في مدينة شفشاون أواخر خمسينات القرن الماضي) * قبل قليل، كان لون هذا الصباح أقرب ما يكون إلى رماد منطفيءٍ،بارداً كان الجوّ، ورغم ذلك لم أتكاسل أمام رغبةعادية، كانت تدفعني إلى فتح نافذة الحجرة، ورفع أستارها، وإن دعاني ذلك إلى ارتداء ما يقيني نزلة برد قد تفاجئني.في نهار الصوم هذا الطويل. وبعد استغراق لساعة أو تزيد قليلاً في القراءة، أشرق ضوءُ شمسٍ قويٌّ، وسمعت صوتاً يصرخ كأنه آتٍ من طفل، رفعْتُ عيني أتابع المشهد ، كان هناك نورس شديد البياض يصيح في فرح ، كأنه وهو يجول فوق أرض الساحة ، فوجئ بألوان الأشياء تتحول مع إشراق الشمس وتلألؤ نورها الرائع،، كان النورس غير بعيد عني ، وأنا أنظر إليه من بنافذة في الطابق الثاني ، يبسط جناحيه في تحليق انسيابي، وينعطف من هذا الجانب إلى تلك الجهة،، مكررا صيحاته، وهو لا يتوقف عن الطواف فوق مساحة غير واسعة من الأرض الخلاء التي تجاور بيتي، ولا يبتعد كثيراً حتى تعود به فرحته إلى التحليق قريباً من مستوى نافذتي. نورس أبيض ، وصيحاتُ فرحٍ ، وشمسٌ لألاءة… ما أقرب هذا الصباح من صباحات عشتها على الطريق إلى المدرسة في ثياب بيضاء ، ووسط رفاق طفولتي ، كان الشعور بالفرح يطغى علينا ، ويجعل أنشطنا يرسل صيحات فرح، وإن كان من بيننا من لم يجد ثياباً في بياض أجنحة طائر النورس ، لكنه كان إذا صاح يطلق صوتاً أعذب وضحكات أجمل ، وعبارات أسعد. في الجو أمامي الآن غناء طيور لا يتوقف ، وإن كنت لا أراها، فقد وصل الوقت الآن إلى حدود منتصف النهار ، وعلى الطيور أن تلجأ إلى أعشاش، أو إلى الاختباء بين أغصان أشجار تقع في آخر المشهد ، بدءأ بشجرة امتدت أغصانها الكثيفة واتسعت حتى أصبحت شبيهة بغيمة في لون شجرة زيتزن كبيرة، كما أن هناك أشجاراً لا أستطيع أن أسمي من بينها غير نخلات ثلاث، وشجر آخر زين أبناء شعب متحضر راية بلدهم بواحدة من أوراقه الجميلة،، وعدا ذلك فليس أمامي إلا جدران عمارات شاهقة، ومنحدر تقطعه سيارات الجيران، وأحياناً تحتله مجموعة أطفال لممارسة شغبها ، وإن كانت أصواتها تعلو أحياناً فتشوش على هدوء المكان الذي شجعني على أن تطول إقامتي هنا، ولولا هذا الهدوء لما أمكنني أن أستسلم لمشاعر واستيهامات، تعينني على رحيل إلى ماضيّ ، أو تخيل مستقبلي، ما بين هواجسِ خوفٍ، أو تطلعات إلى أيام مقبلة قد تكون أجمل مما عشت إلى الآن. ما أسعد لحظاتي وأنا في الطريق إلى المدرسة ، وحيداً وأنا أتابع أغنية على المذياع ، كان وعيُ الطفل قد لاحظ بالصدفة، أنها بدأت مع انطلاق خطوتي الأولى من الدار، واستمرت تأتيني من دكاكين شتى ومحلات عمل كثيرة، ودورمتباعدة، كنت أمرُّ بها وأنا أغذ الخطو نحو مدرستي الثانية في الحي الآخرعلى الجهة الشرقية من المدينة، والوقت منتصف النهار، كان صوت المغنية شبيهاً بصوت طفلة ، تشدو في مرح غير متكلف هو سبب انتشار أغنيتها التي كانت خفيفة على السمع، تهتز لها النفوس في سعادة ظاهرة، وإن كانت بعض أصوات الكبار ذات وقار ومهابة تنفر منها نفوس الأطفال، لم أستطع أن أستمع إليها بتروٍّ وعمقٍ إلا مع تقدمي النسبيّ في العمر. كان الكُتَّاب مدرستي الأولى ، وهو مكان غير صالح مبنى ومعنى ، وإن كان ما يلقن فيه لا يتجاوز الحفظ والاستذكار، وإطلاق الأصوات المنكرة بالصراخ أثناء القراءة، أو البكاء حين التعَرض إلى نوبة العقاب.وفي مدرستي الثانية ، كانت الإدارة استعمارية ، وجو الدراسة ثقيلاً ، كما أن علاقاتنا بما كانوا يدرسوننا صارمة، وسرعان ما كان الجميع ينصرف عن المدرسة لتمتليء نفوسُ الصغار بما يشبه الشعور الحقيقي بالحرية. كان مدير المدرسة من غير أبناء وطننا، ورغم أن علاقاته بمواطنينا كانت تتميز بكثير من التقدير والاحترام ، إلا أن نظرة عينيه إلينا ظلَّت كعيني أي فرد من مواطني البلد المحتل ، مثقلةً بكثير من الاستعلاء والإحساس بالتميّز. لم أشعر بالجو الدافئ لما أحببت أن تكون عليه مدرستي إلا حين انتقلتُ إلى مدرسة كانت مغربية ، بأطرها الإدارية والتربوية، وهي مدرسة حرَّةٌ أسّسها حزبٌ وطنيٌّ، كان كل من فيها يعمل على أن يشيع جوٌّ عائلي بين كل عناصرها ، ففيها كنا نكاد نلقن كل شيء عبر أناشيد تتغنى بالطبيعة وحب الوطن الرائع، والعلاقات الإنسانية التي تحكمها مثل سامية، وقد زاد من بهجة الدروس أن المدرسة كانت مختلطة، وأن أعمار تلاميذها كانت مفتوحة غير محددة، وأنشطتها تتضمن الموسيقى والمسرح ، والوعي بكل ما يتطلبه الزمن الجديد من تدارك الجميع لحقوقه، بما فيها حق التعليم، بعد أن أعلن عن الاستقلال السياسي لبلدنا تغنينا بالأطيار ونحن في صفوفنا، وغنينا معها في خرجات مدرسية إلى ضواحي المدينة ذات المشاهد الطبيعية الخلابة، وبالمشاعر القومية والوطنية في حفلات مدرسية موسمية في أعياد دينية وقومية، واتصلنا بالتراث الموسيقي المحلي والعربي، بينما لم يكن للمدرسة الثانية التي كان أكبر أطرها التربويين أجانب، من إمكانية للوصول إلى ذلك ، بل إن بعض الأساتذة الأجانب كانوا يلقوننا أناشيد تتصل بحب وطنهم هم ، وبكاء أحبابهم الذين تركوهم في جهات منه ، في شماله أو جنوبه. على سبيل النوستالجيا التي كثيراً ما كانت تفيض بها نفوس بعضهم ممن كانوا ضحايا النظام الدكتاتوري الذي كان يمسك بتلابيب شعب، الأمر الذي جعل شمال المغرب ، لا يعاني من محتله مثلما ذاق المغاربة من عدوِّهم المستعمر البغيض. لم أنس مدرستي الثانية، ولا أصدقائي بها ، ولا وجوه كثير من أساتذتي الذين كانوا جميعاً متطوعين، لا شيء يدفعهم للعمل ، من أجرة أو ما أشبه، إلا ما كان من روح وطنية حقيقية ، كانت تجعلهم يخلصون في تقديم كل ما يملكون إلى تلامذة كانوا ينجحون في أي مباراة أو امتحان يخوضون. مدرستي الثانية يامدرسة صباح عمري الجميل، تحياتي إلى كل من عمل بك ، إلى كل أقراني على مقاعد الدرس فيك.