يظل لويس بورخيس، ذاك الضرير العجوز بعكازته وابتسامته الماكرة، لغزا بديع الصنعة ومتقن الحبكة، حتى إنه تحول، لدى بعض خصومه الشرسين، إلى مجرد قناع يتنقل بمكر بين وجوه كتاب أرجنتينيين معروفين، وأن هذا القناع هو ما أدى به إلى أن يصبح ناطقا رسميا باسم "أدب قارة بأكملها". من الذي يمكنه أن يسعد بهذا القناع سوى بورخيس نفسه الذي كان يقيم دائما مماثلة بين العالم الواقعي، وآخر متخيل؛ بين المتبدي والافتراضي؛ بين الظل والضوء.. بل إنه دأب، في كل لقاءاته، على أن يكون "لا أحد"، إمعانا في الانغماس في الموضوعة المركزية لعمله السردي (المواربة). إن هذا "التخفي"، كما قال الكاتب الإيطالي أنطونيو تابوكي، هو النواة التي تنضد كل الموتيفات الكبرى التي تميز عمله: الزمن الدائري (قصة: الألف)، الخاصية السرمدية للذاكرة (فونيس أو الذاكرة)، المتاهة (قصة الخالد)، المرآة (قصة: طائفة الفينق) العالم باعتباره كتابا (قصة: مكتبة بابل)، استحالة تحديد الخير والشر (قصة: ثلاث روايات ليهودا)، موضوعة الخائن، والبطل، وكل الاستعارات الأخرى للواقع التي ابتدعها ليوضح تمثله للعالم.. تمثل كاتب انتمى فعلا لذكائه فقط. ولهذا ليس من الغريب، مثلا، أن يصبح بورخيس موضع اتهام في مدى مصداقية انتماء نصوصه اللافتة إليه، حيث اتهمت مجلة "كابيلدو" اليمينية الارجنتينية بورخيس، بأنه "اسم" اختفى وراءه ثلاثة كتاب أرجنتينيون لنشر أعمالهم، وهم: (ل. مارشال، وبيوي سيزاريز، وم. لوبيز) أما من جسد هذه الشخصية الوهمية فهو "ممثل ايطالي تعيس من الدرجة الرابعة". فما مدى مصداقية هذه التهمة؟! الحقيقة أن مروجي هذه التهمة سعوا من ورائها لإنكار شخصية بورخيس، وهي مهمة لا يختلف هو معهم حولها، فقد عرف عنه إنكاره الشديد لذاته وانشغاله بالتبشير ليس بأمجاده الشخصية والأدبية، وإنما بقيم أخرى، مثل السمو والطهارة والنبل.. بل إذا أردنا أن ننخرط في مفارقته، والقبول بلعب لعبته فمن الجائز لنا أن نقول، مع أنطونيو تابوكي، "إن حياة بورخيس كتاب". ذلك أن قصصه تحتشد "بشخصيات لا وجوه لها تقريبا وهي ليست في أغلبها شخصيات حقيقية بل إنها نماذج مصغرة تسبح في عالم فكري بحت. وهذه الشخصيات لا تثير تعاطف القارئ معها او تسمح له بالاقتراب منها إذ تتصرف دائما كما لو كانت مخلوقات أسطورية تتحرك في كون فطري". ولعل هذا ما يقصده تابوكي حين قال إن بورخيس "بكشفه لمفارقات الحياة، وتوسيعه لمدارات الأدب، كان يعني أن الأديب هو قبل كل شيء، بطل يختلق ذاته وإذا كان لنا أن نجاري ألاعيبه اللغوية، وبالتالي أن نقع في المفارقة ذاتها، لقلنا: إن بورخيس بطل روائي اختلقه شخص يحمل الإسم نفسه، ولد في اليوم نفسه، ومات في اليوم ذاته، أعني الشخص ذاك الطالع من بطون صفحات كتبه وقصصه وأشعاره". وليست مجلة "كابيلدو" هي الوحيدة التي قامت بشن غارات هجائية على بورخيس. فقد اتهمه مواطنه الأديب أندرسون أمبرت بأنه "يدير ظهره في أعماله لوطنه"، وخصص له عددا هجائيا من مجلة "الطليعة" التي كان محررها الأدبي. أما محرر "آداب" الأرجنتينية، رامون دول، فقد وصفه بأنه "موت فوق الموت، وقذارة فوق القذارة". لقد كان بورخيس يعي تمام الوعي أنه "تشكيل من الثقافات"، وأنه متحيز للقراءة وباحث عن كتابة تقع خارج الأسلوب، أي تلك الكتابة الوفية لركاكة العالم، فهو، كما يقول عن نفسه، ضد "الكتابة المتقنة التي لايمكن تغيير حرف من حروفها دون ضرر"، أي ضد الترتيب والتنضيد والعيش بوجه واحد أمام فكرة "الزوال الكلي" التي يؤمن بها. إنه ضد "الكتاب البارعين"، ومع الكتابة التي لا تقوم على "حماس التصويتات". وبطبيعة الحال، إن كاتبا بهذا التفكير لا يمكنه سوى أن يكون كاتبا يحب القناع.