عودتنا جمعية النجم الأحمر، على امتداد دوراتها السابقة، أن تحتفي بالقصة القصيرة وتستدعي المنشغلين بها، كتابا وباحثين ونقادا، إلى موائدها الأدبية العامرة. وها هي اليوم تجدد عهدها ووعدها حين تختار أحد رموز النقد القصصي بالمغرب كي يحمل اسم هذه الدورة في طبعتها الرابع عشرة، ترسيخا لقيم المحبة وتجسيدا لثقافة الاعتراف. يتعلق الأمر باسم يتردد على أكثر من لسان وفي أكثر من مكان. هو الباحث والناقد الأدبي نجيب العوفي. دعوني في البداية، وأنا أدبج هذه الشهادة، أن أفشي سرا كوني أحب اقتراف النميمة، في بعدها النبيل، كلما أتيحت ليَ الفرصة. نميمة أعبر من خلالها جسر المديح العالي، وما يختزل من مشاعر مثقلة بالنبل والوفاء إزاء أستاذ صادق وناقد حاذق وإنسان جدير بكل حب فارق. الأستاذ نجيب العوفي واحدٌ ممن يرتاح إليه القلبُ، ليس لظرفه ودماثة خلقه فحسب؛ وإنما لجمال روحه. ثمةَ أشياء كثيرة تضيء مساره وتسبر أغواره. مهما اختلفنا في تقديره سرعان ما ننحاز إلى ألقه الأدبي. ولعل مرد هذا الانحياز، جمعُه بين عشق اللسان العربي وعمق البحث الأدبي وحذق المنهج العلمي. وبين هذا وذاك، رهافة حس وأصالة فكر، مشفوعتين بتواضع قلّ نظيره في زمن الوهم والادعاء. تأصلت معرفتي بالأستاذ نجيب العوفي، من خلال مكتوبه في الجرائد والمجلات. ثم انشددت إلى حديثه خلال حضوري لبعض الملتقيات والندوات. كان ذلك في ثمانينيات القرن الماضي يوم كنت طالبا جامعيا. انبهرت، كغيري من أقراني، بلغته الشائقة وتحليلاته الرائقة. تعلمت منه أن شغف القراءة مدخل أساس للكتابة وأن قراءة واحدة للنص لا تكفي؛ بل الإنصات الجيد إليه، إن شئت الاقتراب من عالمه وعوالمه. لاحظت أن قراءاتِه كانت مواكبة ومساءلة للإبداع المغربي المعاصر، أستحضر هُنا كتابيه: «درجة الوعي في الكتابة» و»جدل القراءة» اللذين وقعا في يديّ كدرهم حلال. قلبت صفحاتهما وتدبرت مقالاتهما بكثير من التبصر والتدبر، كأي قارئ متفاعل، يروم استشراف المخفيّ والمضمر. ولعلي أذكر يوم دخلت إحدى حصصه زائرا، كيف شغلني بسؤالين طرحهما خلال تقديمه لدرس في الأدب الإسلامي. كان السؤال الأول: ما موقف الإسلام من الشعر؟ استدعى مني تفكيرا تبيّنت خيوطه، استنادا لتاريخ المرحلة وما جاء في ثنايا المصادر من معلومات، فيما استفزني السؤال الثاني وأثار حفيظتي: ما موقف الشعر من الإسلام؟ عظمت دهشتي واحترت في شرعية السؤال قبل حيرتي في الإجابة. غير أن حيرتي سرعان ما تبددت حين تفضل بالشرح والتفسير فانجلى الغموض وبان المقصود. وها هي الأقدار تفعل فعلها يوم تيسر لي العودة إلى متابعة الدراسة الجامعية نهاية التسعينيات، بعدما كنت قد انقطعت لثلاثة أعوام متتالية، بسبب الوظيف والتعيين خارج الرباط. التحقت متأخرا وكان علي أن أختار مشرفا على بحثي لنيل شهادة الإجازة. لم يخطر ببالي أحدٌ، سوى وجه بشوش لم يفارق مخيلتي. هو وجهُ الأستاذ نجيب العوفي. بحثت عنه بالكليةِ، متعثرا في خجلي. كيف أكلمه؟ وما العبارات التي يحسن بي استحضارها في حضوره؟ هل أجد في موضوعي ما يصادف هواه الأدبي؟ أم عليّ إيجاد وسيط رمزي يدلل طريقي إليه؟.. تصارعت الأسئلة بداخلي ووجدتني أمامه وجها لوجه، ودار بيني وبينه حوار قصير، خُيل إلي أنني أعرفه منذ زمن بعيد. رحب بالإشراف وتواعدنا على استكمال الحديث عن البحث ومفاصله خلال لقاءات منتظمة مع الطلبة. أذكر كيف كان يُثني على البحث وهو في بداياته الأولى، وكيف كان يشيد ببعض التخريجات التي رمتها في التحليل لمتن قصصي مغربي. وكم سعدت كثيرا بهذه الصحبة الأدبية، خلت نفسي ساعتها، بدعم منه، أني مشروع ناقد، في طور التشكُّل. ولم تقتصر صلتي به خلال تلك السنة على مشروع البحث، وحواراتي التي لم تنشغل بغير الدرس وما إليه فقط؛ بل تعداها إلى مجموع الحصص التي حرصت على حضورها بنظام وانتظام. كانت حصصا في تحليل نصوص من السرد القديم. ما أرق الذكرى وأنا أستحضر تحليله البنيوي العميق لنص بديع الزمان الهمذاني «المقامة البغذاذية»، وكيف جعلني أنجذب، بسلاسة شرحه، لمثل هذا النوع من الكتابة السردية وأنصرف، في ما بعد، إلى قراءة باقي المقامات وأنواع السرود الأخرى من روايات وقصص مغربية وعربية. مع الأستاذ نجيب العوفي، سأتعرف إلى أعلام النقد الحديث أمثال جون كوهين وجيرار جنيت ورولان بارث وميخائيل باختين وباشلار ثم كريماص وغيرهِم، كما سأجدد صلتي بأعلام النقد القديم كالجاحظ والجرجاني وابن سلام الجمحي وحازم القرطاجني وابن رشيق ومن جرا جريهم. دون أن أدير الظهر لما كان قد خلّفه بعض النقاد العرب أمثال طه حسين والعقاد وغيرهما من جليل الأعمال. معه أيضا، سأتعرف إشكالات المفاهيم وتقاطعات المصطلح، وأتبيّن معنى المناهج وكيف ينبغي تمثلها أداة علمية تقترب من النص ولا تجاوزه، تكلفا أو تعسفا. وهو أمر يسيء للنقد ويضر بالنص وصاحبه. مَثل ذلك، ما عبر عنه ذات قراءة نقدية بعنوان «القصة القصيرة على سرير بروكست» حين ختم قراءته عن إحدى الدراسات النقدية قائلا: «أما الحجم فقد أخذته وتمطت**** به دون شك، لكن فوق سرير بروكست النقدي، حيث كانت تبتر وتقطع منها الأطراف والأوصال لتتكيف وتتلاءم مع سرير البحث. أما التأصيل، فلا شك في أن القصة القصيرة متأصلة بذاتها قبل أن تكون متأصلة بغيرها.» (جدل القراءة ص170). الأستاذ نجيب العوفي من جيل يُمثّل برْقا للرّعْد القادِم. حمل مشعل الاستمرار هوية وفكرا ونبوغا. كان إلى جانب ثلة من أساتذة الجامعة المغربية، الذين جمعوا بين التدريس والتأليف، كعباس الجراري، محمد السرغيني، أحمد اليبوري، محمد برادة، سعيد علوش، أحمد المجاطي، محمد الكنوني، محمد بنيس، أحمد المديني، بشير القمري، إدريس الناقوري، حسن البحراوي، وسواهم. وكم كنت معجبا بهؤلاء وبغيرهم، مشدودا إليهم، أقلّب وأنقّب في ما تيسر لي من كتاباتهم النقدية والإبداعية، على حد سواء، بتحفيز ضمني منه. وهكذا شكل الأستاذ نجيب العوفي إلى شكل إلى جانب مجموعة من رفاق المرحلة تلك الشعلة المُضيئة في الأدب المغربي، وصورةً حية عما كانت تعرفه الساحة الثقافية من حراك نقدي واجتماعي أفرز جهودا وجنودا دخلت المعركة وفازت بالقدح المُعَلّى. هكذا حين انشغلت بالبحث واهتممت بتفاصيله الدقيقة، كان غايتي ومناي أن يرتفع منتوجيَ إلى ذوْقِه وبرْقِه. أذكر من تحليقاته الطريفة، حينما قدمت البحث للمناقشة، وكان يبدو صغيرا في الحجم بحكم الطباعة المكثفة، أن باشر الأستاذ المناقش رفقته قائلا: «هذا البحث خفيف على اللسان ثقيل في الميزان». ظلت تلك العبارة تملأ مني السمع والوجدان، وحرصت أن أظل وفيا لحدسه ما استطعت إلى ذلك سبلا. ولأن القصة أخذَتْ منّي وقتا ووجدَتْ لها في نفسي مقاما، فقد وجدت في كتابه: «مقاربة الواقع في القصة المغربية من التأسيس إلى التجنيس» ما يشد عضدي النقدي ويحفزني على مواصلة القراءة في هذا النوع الأدبي، إبداعا ونقدا. وكذلك كان. طالعت عددا من المجاميع القصصية لكتاب اختلفوا جنسا وأعمارا وتباينوا صنعة وأسرارا. لقد علمني برقه كيف أرهف السمع للتجارب الجديدة وألا أنشغل بالمكرّس دوما، فقد يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر، على رأيه. الأستاذ نجيب العوفي ناقد متمرس وخبير بالنص وغواياته. تعامل مع مختلف الأجيال الإبداعية وتفاعل مع مختلف الأنواع الأدبية، ولم يبخل بالدعم والتشجيع لكل وافد جديد لم يستقم عوده بعد في درب الكتابة. تجده، بالرغم من تنوع مقارباته، وفيا لمقاييسه الفنية ومعاييره الجمالية، حيث وضوح الفكرة وانسجام المعنى ورشاقة اللفظ وجزالة التعبير. هي مقارباتٌ تبشيرية لما تجود به الساحة الإبداعية وما يتخللها من إضافة نوعية تقودها بعض المنازع والنوازع التجريبية. كان همه البحثُ الدائم في الإنتاج الأدبي المغربي عن مناطق النبوغ والإبداعية، انطلاقا من الحركية والدينامية التي يتميز هذا الأدب. أخيرا، إذْ أنسى فلست أنسى إنسانيته الشاهقة، فما وجدته يوما متأففا. كلما هاتفته أشرق صوته: أهْلا.. أما بقية الحديث فتأتي سهلا. أخبره أحيانا، عن جديدي فأجده أعلمَ مني به وبتفاصيله. يأخذ وقته في الهاتف ويهز بجذع الكلام كي ينهال علي مدحا يربكني. ويصر على أن يعلي من شأن الألفة ويزيل الكلفة. حينذاك، يكبر في عيني وأستعير قول أحمد شوقي مع تحريف بسيط: «قم للمعلم وفه التبجيلا // كاد المعلم أن يكون نجيبا» تراه يقرأ للشباب، كما للرواد من الأجيال السابقة، بكثير من العمق والدقة والسلاسة التي تليق بمقام اللغة وجلال المعنى، ما دام النقد/ القراءة، في اعتقاده، ضربا آخر من الإبداع. إذ لا تخلو كتاباته من هذا الميول إلى تطوير اللفظ وتطويع العبارة، فهو لا يسلم أثره المكتوب للقارئ إلا وقد استوى على نار إبداعية هادئة. أذكر مرة شرفني بقراءة في ديواني البكر «أطياف مائية» سنة 2007 ومرة خصني بتقديم لكتابي «جمالية المكان في قصص إدريس الخوري» سنة 2009 وكم مرة رافقني في حوارات ثقافية على أثير الإذاعة المغربية. غير أن سعادته ستفوق سعادتي حين تشاء المصادفات الأدبية أن تجمعنا منصّةٌ واحدة في عدد من الندوات واللقاءات الثقافية بالرباطوسلا والبيضاء وبني ملال وتطوان وغيرها. هكذا، حين لا تسعف الكأس ولا تسعف العبارة، لا يتبقّى من الكلام سوى همس الإشارة. فشكرا نجيب العوفي لأنك كُنتَ هُناك. شكرا لأنك هُنا. دامت له السعادة والبهاء. ولعل اللبيبَ بالإشارة يفهمُ… سلا في ماي 2018 ——————— */ قدمت هذه الشهادة خلال الدورة الرابع عشرة لمهرجان مشرع بلقصيري للقصة القصيرة، دورة الناقد نجيب العوفي، أيام 4،5،6 ماي 2018