أزمة القراءة في مواجهة الإنترنت، إلى أين؟ حين نتعود على القراءة (خاصة الكتب بصورتها الإلكترونية)، فإنه لا يسعنا إلا أن نقطع قراءاتنا بالكثير من التصفح السريع للإنترنت، الفيسبوك، البريد الإلكتروني، الأخبار، والكثير من المواقع الإلكترونية متعددة المحتوى، إلخ. وحين نتعود أيضا على مثل هذه الأنشطة السريعة والمتقطعة، فإن تأثيرها لا ينحصر فقط على مستوى التركيز والاستيعاب وفهم المعلومة المقروءة، بل أيضا على طريقة ونمط التفكير وطريقة عمل الخلايا العصبية في الدماغ. وهذا مرتبط بما يعرف باللدونة العصبية، طبقا لما جاء في علم الأعصاب، ويعني قدرة الدماغ على التكيف والتغيير، كون الخلايا العصبية في الدماغ تستطيع أن تعيد تغيير مسالكها عندما تتعرض لمؤثرات معينة. أحد أهم العوامل المسؤولة عن هذه الظاهرة يتعلق بتكنولوجيا «الإنترنت»، التي بلغت ذروتها في عصرنا هذا، وكذا تأثيرها على حياة وعادات الناس. وحين كان الإعلام المكتوب في قمة إنتشاره، كانت الكلمة محفزة للإنسان على إكمال قراءتها والتأمل في محتواها ومضامين قدسيتها وكانت تحث العقل البشري على التفكير العميق والتركيز الطويل والغوص في المعاني. وبالتالي إنتاج أفكار إبداعية و عميقة ومركبة؛ بعكس الإنترنت الذي يشجع أو يعيد تكييف دماغ الإنسان على نمط تفكير مخالف تماما. بمعنى: أنه يضعف المهارات والقدرة على التأمل، والتركيز، والقراءة العميقة لدى الإنسان، ويرفع لديه الحاجة أو الإدمان المستمر على التصفح السريع والقراءة القصيرة والمتقطعة والتي لا تحتاج إلى جهد ذهني وتفكير وتركيز طويل. بل الأدهى والأمر كذلك أن هذا العالم يشجع على القرصنة و الكسل ولن نزيد… ولذلك، فالإنسان المعاصر المدمن والمعتاد على الإنترنت يفقد بشكل تدريجي القدرة على التفكير التأملي والعميق والتركيز؛ وذلك نتيجة الاستقبال والتفاعل والتعرض المستمر لسيل لا نهائي من الصور وشذرات المعلومات المختلفة بشكل سريع ومؤقت، مما يجعله يمر فقط على الذاكرة قصيرة المدى، ولا يسمح للذاكرة طويلة المدى بالإحتفاظ بتلك المعلومات لكي تفرض على الإنسان التفكير بها والتأمل فيها وتنسيقها داخل ذاكرته. ولهذا فإن بعضنا يشعر بعد قراءة مقالة أو كتاب أنه لم يقرا شيئا و يعجز عن تلخيص أهم أفكاره بشكل متناسق، بل أصبح الأمر يعلم – بضم الياء – كما ذكرنا، على الاعتماد على الغير، حتى لا نقول القرصنة المفضوحة والكسل. وهكذا تصبح كتابة صفحة أو التركيز على فكرة معينة أو موضوع ما أو حتى قراءة عشرة صفحات تتطلب مجهودا كبيرا من مدمني الإنترنت ومواقع التواصل الإجتماعي، لأنهم إعتادوا على نمط الإنترنت «السريع» والمتحرك باستمرار. فالتعرض المستمر لتكنولوجيا الإنترنت يساهم في تثبيط مناطق معينة في الدماغ، كالمناطق المسؤولة عن التفكير التأملي الطويل والمركب. وفي المقابل يثير ويحفز مناطق معينة كالمناطق المسؤولة عن الاستجابة وردود الأفعال السريعة والقدرة على معالجة كم كبير من المعلومات في وقت قصير بدون تأمل. والعكس هو الصحيح حين يدمن المرء على المواد الإعلامية في صورتها المطبوعة. والذي – كما أكدنا سابقا – مرتبط بمفهوم اللدونة العصبية، أو المرونة العصبية، في علم الأعصاب، أي قدرة الخلايا العصبية والشبكات العصبية في الدماغ على تغيير علاقاتها وسلوكها إستجابة لمعلومات جديدة، سواء كانت عبارة عن تحفيز حسي، أو نمو، أو تلف، أو خلل وظيفي في جزء معين من الدماغ. هذه بإختصار شديد بعض الأفكار الرئيسة من كتاب «المياه الضحلة: ماذا يفعل الإنترنت بدماغنا" (The Shallows: What the Internet is Doing to Our Brain) للكاتب الأمريكي، نيكولاس كار، خريج جامعة هارفارد الأمريكية ومدير تحرير سابق لمجلة "هارفارد بزنس ريفيو" (Harvard Business Review) الشهيرة. وهو الكتاب، المرشح لجائزة البوليتزر، الذي يسلط الضوء على كيفية نشأة كل تكنولوجيا محورية (كالبوصلة، والخريطة، والساعة، والكتاب، والإنترنت) في كل حقبة زمنية من التاريخ البشري، وتأثيرها على نمط وطريقة تفكير الإنسان بشكل عام، ويركز بشكل مفصل على التكنولوجيا الحديثة المرتبطة بالإنترنت ووسائل التواصل الإجتماعي مستندا على أحدث الدراسات في علم الأعصاب.