شكلت وفاة المؤرخ المنقب محمد بن عزوز حكيم فجر يوم فاتح شتنبر من سنة 2014، فاجعة كبرى بالنسبة لكل من عرف الرجل أو احتك به أو استفاد من غزارة علمه وتنقيباته الكثيفة والمتنوعة. والحقيقة، إن هذه الوفاة لم تكن خسارة لمعارف الرجل ولأصفيائه ولمريديه فحسب، بقدر ما أنها كانت خسارة للبحث التاريخي الوطني المعاصر، الذي فقد فيه صفات الأناة والصبر في استكناه عتبات الوثيقة المادية وفي فك طلاسمها وفي توظيف مضامينها في سياقات الكتابة القطاعية أو المونوغرافية المتخصصة في تحولات ماضي منطقة الشمال. ولقد أثمر هذا الجهد رصيدا هائلا من الأعمال التأريخية المستندة إلى قوة الوثائق المدونة وإلى أمهات الإسطوغرافيات التاريخية بالضفتين المغربية والإيبيرية، إلى جانب عدد كبير من المجلات والدوريات والصحف التي كان محمد بن عزوز حكيم مشرفا على إصدارها، بموازاة مع سلسلة أعماله التفكيكية لخبايا منطقة الشمال، وخاصة خلال المرحلة الممتدة من مطلع القرن 15 إلى منتصف القرن 20 م. ولقد شملت هذه الدراسات جوانب شتى من واقع منطقتي جبالة والريف، في أعمال غير مسبوقة، اكتسبت عناصر قوتها من قدرتها على استلهام مضامين الوثائق ومن تشريح هذه المضامين بالتفكيك وبالتحليل وبالمقارنة وبالاستقراء. لذلك، فقد استطاع الفقيد ابن عزوز حكيم أن يتحول إلى رائد زمانه وإلى معلمة كتابة تاريخ منطقة الشمال، لا شك وأن أعماله تكتسي قيمتها المرجعية بالنسبة للباحثين في إبدالات الواقع التاريخي لمنطقتي جبالة والريف خلال القرون الماضية. باختصار، فأعمال الرجل أضحت تمارس سلطتها على مؤرخي المرحلة في مجمل القضايا التي انشغل بها هذا المؤرخ الفذ، بعد أن نشر نتائج هذا الانشغال في أعمال قطاعية ومونوغرافية وبيوغرافية ووثائقية متعددة، أذكر منها تلك المرتبطة بحروب الريف التحريرية، وبتجربة حزب الإصلاح الوطني، وبسيرة الزعيم عبد الخالق الطريس، وبالتحولات السوسيولوجية والتاريخية والمجالية لمنطقة غمارة، وبسيرة القائد أحمد الريسوني، وبتاريخ تطوان، وبتاريخ أصيلا، وبتاريخ شفشاون، وبالحملات التبشيرية التي استهدفت احتلال المغرب خلال القرنين 15 و16 الميلاديين، وبوضعية الثغور الشمالية المحتلة، ... إلى غير ذلك من الأعمال الكثيفة التي أكسبت صاحبها مركز الريادة داخل حقول الكتابة التاريخية المتخصصة في راهن منطقة الشمال، في ما يمكن اعتباره حلقات موصولة إلى سلسلة الأعمال المرجعية التي خلفها الرواد السابقون، من أمثال محمد داود والتهامي الوزاني وأحمد الرهوني. وإذا كنت في هذه العجالة، لا أنوي العودة لتقديم رصيد منجز الرجل مما لا يمكن الاضطلاع به في هذا المقام، فإنني أكتفي بتسجيل مجموعة من الملاحظات العامة، أعتبرها مفاتيح أساسية للكتابة عن علاقتي ? الشخصية والعلمية ? بالرجل، مفاتيح تعكس معالم التقدير والاحترام التي أحملها تجاه هذه السيرة الفريدة التي مارست / ولازالت تمارس على شخصي المتواضع كل سمات الإثارة والانبهار والتقدير. تتوزع هذه الملاحظات على الشكل التالي : أولا- تعود معرفتي بالمؤرخ محمد بن عزوز حكيم إلى منتصف ثمانينيات القرن الماضي، عندما كان لي شرف النهل غير المباشر من معين تنقيباته، وذلك من خلال اطلاعي « الأول « على إصداراته المتعددة والمتنوعة. ففي كل محطة، وأنا طالب ? آنذاك بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان ? كنت أتوجه فيها للبحث عن بعض تفاصيل تاريخ منطقة الشمال أو العلاقات المغربية الإسبانية، إلا وكنت أجد أمامي اسم المرحوم ابن عزوز حكيم. فكانت معرفتي الأولى به، معرفة الدهشة والانبهار بهذا الاطلاع الواسع وبهذا النفس الفريد في تجميع الوثائق وفي تحليلها وفي توظيفها. ثانيا ? ترسخت علاقتي غير المباشرة بالفقيد العزيز، عندما التحقت بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط قصد استكمال دراساتي العليا. يومها كان الرجل حاضرا بقوة بمجمل منعرجات مسيرتي الجامعية، بعد أن اخترت التخصص في قضايا تاريخ منطقة الشمال. فكلما فتحت ملفا من ملفات البحث البيبليوغرافي الخاص بوقائع تاريخ منطقتي جبالة والريف، إلا وكنت أجد نفسي أواجه اسم محمد بن عزوز حكيم ووثائقه وتخريجاته .. وثائق وتخريجات كانت تجبرنا على مراجعة أحكامنا المندفعة وتأثراتنا الموجهة تحت ضغط حماس الشباب وتحت وقع نزوعات الأحكام « السهلة «، إيديولوجيا ومواقفيا وعاطفيا. وأكاد أجزم أني تأثرت بأعمال الرجل في كل ما أنجزته في تجربتي المتواضعة بالاشتغال على قضايا تاريخ منطقة الشمال. إنه « مدرسة « قائمة الذات، مارست سلطتها على مريديها، وأرخت لظلالها الوارفة على كل حقول البحث التاريخي الوطني الراهن. ثالثا ? رغم اختلافنا مع بعض الخلاصات التي كان ينتهي إليها الفقيد العزيز، أو مع بعض طرقه وأساليبه في تفكيك المضامين، فإننا كنا نجد أنفسنا أمام قوة الحجة وقوة المنطق وقوة الصبر في البحث عن الأدلة الدامغة والاستشهادات الموثقة. وكثيرا ما كنا / ولا نزال ? اعتمادا على تنقيبات ابن عزوز حكيم ? ننحو نحو التصحيح المتجدد لخلاصاتنا ولقراءاتنا للمتون الكلاسيكية أو للأسطوغرافيات الكولونيالية حول تاريخ الشمال وعموم العلاقات المغربية الإسبانية. والأمثلة على ذلك كثيرة ومتنوعة ... رابعا ? كانت أولى الاتصالات المباشرة التي جمعتني شخصيا بالفقيد العزيز، ترتبط بمناسبات ثقافية، حيث كان لي شرف المشاركة إلى جانبه في ندوات ومنتديات علمية مختلفة، أذكر منها اللقاء الذي احتضنته مدينة أصيلا حول موضوع « دور منطقة الشمال في الحركة الوطنية «، بتنظيم كل من مؤسسة محمد الزرقطوني للثقافة والأبحاث وجمعية ابن خلدون للبحث التاريخي والاجتماعي سنة 2002، ثم اللقاء التقديمي لكتاب مؤرخنا الفقيد، « أصيلا : قرن من تاريخها الذهبي ( 1589 ? 1681 ) «، وذلك بمدينة أصيلا سنة 2004. وأذكر كذلك، الندوة التأبينية للمؤرخ المرحوم عبد العزيز خلوق التمسماني بمدينة طنجة، والتي شاركت فيها إلى جانب كل من المرحوم ابن عزوز حكيم والأستاذ مصطفى المرون والأستاذ خالد مشبال، وهي الندوة التي أشرفت على تنظيمها جريدة « الشمال « سنة 2008. لقد سمحت هذه اللقاءات بتوسيع معرفتي بالرجل وبالاحتكاك به، فأدركت أني كنت / ولازلت أمام قامة سامقة، لا يمكن إلا أن نحترمها ونقدر عطاءها. ومنذ هذه اللقاءات، واتصالاتي بالرجل ممتدة ومتواصلة، ولازلت أحتفظ ببعض مما خطته يداه حول قضايا كنت أستشيره فيها، سواء تعلق الأمر بالأرصدة الوثائقية، أم بالمصنفات الإسطوغرافية، أم بالأعلام البشرية والمكانية لمجالات الشمال التاريخية الواسعة. كما أنه ظل حريصا على تمكيني من كل إصداراته العلمية، مباشرة بعد خروجها من المطبعة. وقد كان صديقنا المشترك، الأستاذ والمسرحي رضوان احدادو، يقوم بهذه المهمة خير قيام، إذا كان المرحوم يكلفه بمدي بهذه الإصدارات مباشرة بعد صدورها ... خامسا ? عندما شرعت في الاشتغال على وضع تصنيف موضوعاتي / بيبليوغرافي لتاريخ منطقة الشمال، بتشجيع كبير من الصديق الإعلامي خالد مشبال وعلى صفحات جريدة « الشمال «، وجدت نفسي ملزما بالعودة المتجددة لكتابات المرحوم ابن عزوز حكيم. ويمكن أن أقول بهذا الخصوص، إنني نجحت ? والحمد لله ? في تقديم عدد كبير من أعمال فقيدنا العزيز، في شكل قراءات احتفائية، اجتهدت من أجل إبراز عناصر قوتها وتعميم تداول مضامينها بين الباحثين والمهتمين وعموم القراء. ولقد كانت سعادتي كبيرة باتصالات الفقيد ابن عزوز حكيم التي كانت تشد على يدي وتنصحني بالمضي في نفس النهج. فالأمر كان ? في نظره ? مرتبطا برغبة جامحة لرد الاعتبار للذاكرة التاريخية لمنطقة الشمال، وإعادة تقييم رصيد المنجز العلمي ذي الصلة، بعيدا عن افتراءات الكتابات الكولونيالية وعن غلو الكتابات الوطنية وعن تهافت الكتابات الوظيفية. لقد كانت ملاحظاته بخصوص تجربتي المتواضعة في الاشتغال على بيبليوغرافيا منطقة الشمال، دقيقة وعميقة وفاحصة للتفاصيل. لذلك، فإني أعتز ? أيما اعتزاز ? بتشجيعاته، وبتنويهه المتواصل بما نشرته بهذا الخصوص، الأمر الذي ظل يحفزني على المضي في ترصيص معالم المشروع المعرفي الذي كنت أشتغل عليه. ... وبعد، فهذه نتف من ذاكرتي الشخصية المتفاعلة مع السيرة الذهنية للمرحوم محمد بن عزوز حكيم، تشكل عربون وفاء وامتنان تجاه ذكرى الرجل، وتجاه رصيد منجزه العلمي الثري والمتنوع. إنها شهادة مريد تجاه أحد أبرز أعلام الكتابة التاريخية الوطنية المتخصصة في تاريخ منطقة الشمال، شهادة منفردة بأبعاد متعددة مادامت سيرة الرجل قد أضحت ملكا لنا جميعا، ومصدر إلهام لمؤرخي الزمن الراهن. ورغم أننا قد نختلف مع بعض نتائج تنقيبات الرجل وتأويلاته بخصوص قضايا محددة في زمانها وفي مكانها، فإننا لا نستطيع إلا أن نقر بمتانة هذا الصرح الذي خلفه المرحوم .. صرح عنوان لانتمائنا الجماعي لهذا الشمال العظيم، شمال الهوية والتاريخ والفرادة، بالأمس واليوم وغدا. « دور الشمال في الحركة الوطنية بالمغرب «، أصيلا 2002.