في التاسع من شهر أكتوبر قبل ثمانين سنة، لفظ أنفاسه بأحد مستشفيات العاصمة التونسية أحد أشهر الشعراء العرب المعاصرين ورواد الإصلاح في الثقافة والشعر العربيين، صاحب البيت الرؤيوي الشهير «إذا الشعب يوما أراد الحياة ... فلا بد أن يستجيب القدر»، شاعر الحرية والخلود «أبو القاسم الشابي». وعرفانا لما قدمه هذا الشاعر الكبير من أعمال إبداعية تناصر الإنسان وقيم الحرية والانعتاق وترسخ أسس ثقافة عربية معاصرة منفتحة على زمانها ومواكبة لتحولات العصر، ووفاء لحبه الأبدي لتونس التي قال عنها ذات يوم «أنا يا تونس الجميلة في لج الهوى قد سبحت أي سباحة .. شرعتي حبك العميق وإني قد تذوقت مره وقراحه ..» ، تحتفي وزارة الثقافة التونسية بذكرى رحيل هذا المبدع الرائد ، من خلال تنظيم تظاهرات ثقافية وفنية متنوعة ، خصوصا في مسقط رأسه ومدفنه «توزر»، ذات الطبيعة الفيحاء، حيث تخلقت أمشاج وعيه الجمالي والانساني. معلقا على استحضار هذا الشاعر الأيقونة في زمن ما بعد الثورة، يقول رئيس اتحاد كتاب تونس، محمد البدوي، في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء، بتونس، إن التحولات السياسية والاجتماعية التي عرفتها المنطقة وتونس ، على وجه الخصوص، تؤكد راهنية هذا الشاعر المستقبلي، معتبرا أن الاحتفاء بذكراه يدخل في إطار تجديد التراث والفكر والأدب العربي « حتى لا يتحول الشابي إلى صنم شعري»، مضيفا « ما أحوجنا الى أمثال الشابي .. لقد كان مغاربيا وعربيا وكونيا قبل أن يكون تونسيا ..». فرغم حياته القصيرة ، التي لم تتجاوز الخامسة والعشرين سنة تنقل فيها بين الكتاب والكلية الزيتونية وجامعة الحقوق التونسية حيث تخرج منها سنة 1934 مرورا بترحالاته رفقة أبيه، خريج جامعة الأزهر القاضي بالعديد من المدن والبلدات التونسية، وإلى غاية وفاته المأساوية متأثرا بتداعيات قلب مريض، طبع أبو القاسم وما يزال المشهد الثقافي والشعري العربي والتونسي على وجه الخصوص، باعتباره أحد أقطاب التجديد والتنوير في المجال الشعري والثقافي، وصاحب رؤية جمالية حداثية متقدمة على عصره وموقف اجتماعي إصلاحي متنور، ومناهض للاستعمار والتخلف على حد سواء. ففي الشعر، وفي تفاعل بين مؤثرات المدرسة الرومانسية على تجربته ومتن شعري عربي قديم غرف منه خلال مساره الإبداعي، اجترح الشابي، شاعر الحياة ، لغة جديدة غير مألوفة، متمردا رافضا جمود وحسية التراث الشعري القديم، منشدا للغة تتعالى على الحسي متطلعة إلى الطبيعة الساحرة المرئية والمتخيلة والأفق الجمالي الانساني والروحي الأرحب، حيث الشعر بهذا المعنى «ما تسمعه وتبصره في ضجة الريح وهدير البحار وفي بسمة الوردة الحائرة يدمدم فوقها النحل ويرفرف حواليها الفراش، وفي النغمة المفردة يرسلها الطائر في الفضاء الفسيح». ذلك الأفق الجمالي والإنساني الأوسع والاعمق من اللغة، حيث الشعراء «أولئك الموهوبون الذين يسبقون عصورهم فيغنون أشهى أغاني الجمال وأعذب أناشيد القلب البشري لأجيال لم تخلق بعد. وهم أولئك الذين لا يصورون عادات العصر المتغيرة المتحولة، بل عادات الحياة الخالدة على الدهر، ولا يصفون أحاديث الوعاظ والمتكلمين والمتفلسفين بل أحاديث نفس الإنسان التائهة في بيداء الزمان، ولا يعلنون أسرار القصور والمجالس، بل أسرار الأزل والأبد». لقد تفاعلت في رؤية وفكر الشابي الإصلاحي الدعوة الى تجديد الشعر والتراث العربي مع الدعوة إلى إصلاح المجتمع وحثه على صنع قدره ، وذلك من خلال الثورة على التحجر الفكري والانغلاق والتقليد والتعصب بكل أشكاله والأساليب البالية في التعليم بجامع الزيتونة وكل أشكال الاستلاب ومناهضة الاستعمار وتشييء المرأة حيث « فكرة مظلمة جائرة استحوذت على مشاعر الشرقي جعلته يفهم من المرأة ملهاة ساعة وسلوة حين وألعوبة في أكف الشهوات.لا. إنها نصف الانسانية التي يجب أن تجتاز السبيل الوعر المحفوف بالأشواك، وأن تقتحم الهاوية المترعة بالدموع والدماء حتى تبلغ قمة الكمال منتصرة ظافرة على جبابرة الإحراج وأبالسة الكهوف»، ولذلك تأتي قصيدته محملة بهذا الرؤية الإنسانية الحالمة : « عذبة أنت كالطفولة كالأحلام....كاللحن كالصباح الجديد...كالسماء الضحوك كالليلة القمراء كالورد كابتسام الوليد...». لكل ذلك ، تعتبر قريبة الراحل الشاعرة فضيلة الشابي، على الرغم من رحيله البعيد، أن هذا الشاعر الرؤيوي لم يكن تونسيا بالمعنى الضيق للكلمة ، بل مبدعا كونيا ، وتجربته الشعرية والوجودية تخترق الأزمنة وتعلو على الأمكنة. وأسرت فضيلة، في حديث لوكالة المغرب العربي للأنباء بهذه المناسبة ، أن الشابي (وهو زوج عمتها وابن خال والدها)، ظهر كالشهاب في سماء الأدب العربي، محدثا رجة قوية في القصيدة العربية من زاوية رؤيته التجديدية والتمردية على الأشكال التعبيرية السائدة حينئذ ، مما كان له تأثير كبير على حركة الشعر خلال عقود تلت وفاته. وأبرزت أن كتابة «الخيال الشعري عند العرب» يعد أحد الأعمال التنويرية الرائدة المجددة للفكر العربي والإبداعي على وجه الخصوص، مضيفة أن الفكر التنويري للشابي يجد صداه في الثقافة التونسية الى حدود الآن، حيث ما تزال « الثقافة التونسية محملة بهذا الفكر المستقبلي ذي الأثر الكبير على المجتمع التونسي». ولأن الزمن الابداعي لا يقاس بالعمر البيولوجي ، فسيظل هذا الشاعر المتمرد القلق الحالم ، كشبيهه الأسطوري المتنبي، خالدا متعاليا على الزمن والمكان...فقامته طالت الكوني والانساني...ولذلك ستظل قصائده ، من قبيل «إرادة الحياة « و»صلوات في هيكل الحب» و»نشيد الجبار» و»إلى طغاة العالم» ، ومقاطع من شعره متضمنة في النشيد الوطني التونسي، حية بين مواطني العالم وقبل كل ذلك سيتجلى مشرقا كلما أظلم ليل في وجه الانسان.