بعد روايته «المغاربة»، خلق الكاتب والروائي ذ. عبد الكريم الجويطي، بتجربته التأريخية جدلا كبيرا بطروحاته المستفزة لبعض المؤرخين، وبكتابه الجديد «تاريخ بلاد تادلا – تحيين وتركيب»، الذي كتبه بنية تاريخية ملثمة بلغة روائية تنطلق من نقد الكتابة التاريخية القائمة والمتداولة، قال عنه محمد الأشعري «لا أعرف كتابا في التاريخ كتب بهذا الإبداع على مستوى الصورة والتركيب والسرد»، وقد صدر في ثلاثة أجزاء، استضافه «مركز روافد للأبحاث والفنون والإعلام» بخنيفرة، يوم 31 مارس 2018، في حفل توقيعه، بحضور كاتبه الذي دشن دخوله للعاصمة الزيانية بلقاء مع تلاميذ «نادي القراءة» بثانوية طارق، قبل انتقاله إلى «مركز أبو القاسم الزياني» الذي تميز بحضور عدد كبير من الفاعلين المحليين والمهتمين بالشأن الثقافي والفكري والتاريخي. الحفل تم بمشاركة الباحث ذ. المصطفى فروقي وذ. لحسن رهوان، وتسيير القاص والناقد، ذ. حميد ركاطة، الذي افتتح اللقاء بكلمة مركز روافد، قدم فيها الكتاب ك «حصيلة تفاعل بين مكونات المجال والقبلية والمخزن والدين والاقتصاد»، والمستنبط ل «مجموعة من الأسئلة من قبيل: كيف تم تفكيك ثنائية المخزن والسيبة ببلاد تادلا؟ هل تاريخ هذه البلاد محصور في مكوناته الجغرافية الثلاثة كما جاء في الكتاب، السهل والجبل والدير؟، لماذا نعت تاريخ بلاد تادلا بكونه إقليما مشتهى ملعونا تراجيديا وقدرا تاريخيا، وتاريخا متعثرا بوثائق قليلة وبيانات كثيرة؟، مع تساؤل حول سر هذا التحول الذي قام به الكاتب من النص الروائي إلى الرواية التاريخية إلى التاريخ؟ وما هي رهانات هذا المؤلف ومدى استطاعته الحسم في قضايا الظواهر التي لا يزال تاريخ المغرب لم يقطع معها؟. ومن خلال قراءته للكتاب، أكد ذ. لحسن رهوان أن كتاب «تاريخ بلاد تادلا» للكاتب ذ. عبد الكريم الجويطي هو محاولة في التركيب والتحيين لهذا التاريخ، في شتى جوانبه السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية والثقافية، عبر «تأليف العناصر والبحث في الصلات والتدقيق، اعتمادا على تفاعل خمسة عناصر أساسية شكلت عبر التاريخ الهوية المغربية، وهي القبيلة والمجال والدين والمخزن والاقتصاد»، كما أن الكتاب «يثير قضايا مركزية في تاريخ المغرب ككل، من خلال دراسة تاريخ بلاد تادلا بمكوناتها الجغرافية الثلاثة (السهل والدير والجبل)»، أهمها البنيات القبلية والنسيج البشري، ودراسة دقيقة لزوايا المجال التادلي (الصومعية والشرقاوية والدلائية). وفي ذات السياق، ركز ذ. رهوان على ظاهرة غياب الاستمرارية ببلاد تادلا والحفاظ على المكتسبات (فترات رخاء قصيرة وفترات انحطاط طويلة)، ورؤية مخزنية قائمة على الحصار (قصبات وحصون) والملاحقة والمتابعة والتأديب (الحملات والحركات)، وثنائية المخزن / السيبة، والسهل/ الجبل، والحاضرة/ البادية، في حين لم يفته النبش عميقا في ما لامسه الكتاب للكيانات السياسية ومراحل الاندماج وحضور الهاجس الاقتصادي للغزوات ببلاد تادلا، وظروف ترسيخ الإسلام السني وسك العملة، وما عرفته هذه البلاد من محن وازدهار، والزوايا والمرجعيات والبنيات القبلية والخصوصيات المجالية. أما الباحث ذ. المصطفى فروقي فرأى أن الأعمال الإبداعية للكاتب ذ. عبد الكريم جويطي كانت منفتحة على التاريخ، إذ في روايته «المغاربة» يشكل «تخييل الذاكرة خاصية إبداعية بارزة، في حين الإصدار المحتفى به بصدد انتقال من تخييل التاريخ إلى إنتاجه»، مع تسجيل عدة ملاحظات بخصوص المؤلف الجديد «تاريخ بلاد تادلا – تحيين وتركيب»، حيث «الانفتاح على التاريخ المحلي من منطلق وعي الكاتب بأهمية التاريخ للهوامش، نظرا لما تختزنه من حقائق تاريخية كان لها تأثير على المجرى العام للتاريخ الوطني»، والخاصية الثانية هي «البعد التركيبي والتحييني لهذا العمل، وما يفترضه هذا المنحى المنهجي من عرض لمختلف المعلومات والإخبار والوثائق عن الموضوع المدروس، ثم مساءلتها ودعم نتائجها بمعلومات جديدة مستقاة»، إما من وثائق تم استعمالها لأول مرة أو نتيجة تأويل مستجد للمتوفر منها. وفي ما يتعلق بتحديد الإشكالية الرئيسية في الكتاب، فسجلها الباحث ذ. فروقي من خلال سؤال المجال وتوتراته بالمغرب مند بروز الدولة المركزية بالمغرب مع المرابطين والموحدين، وضمنه أيضا ما يتعلق بفتح أسئلة جديدة حول «قراءة تاريخ المجال التادلي وفتح أفاق بحثية جديدة وجديرة بالاكتشاف، خصوصا ما يتعلق بالزوايا التادلية وبالمتخيل»، إلى جانب خاصية عودة صوت الأديب الذي لا يكتفي بالمعلومة وهو ينشغل أيضا بطريقة عرضها في كتابه الذي لن يعتبر إلا إضافة نوعية للمكتبة التاريخية على مستوى الجهة والوطن. وكم كان ذ. الجويطي جريئا في خلخلته لبعض «الرسميات»، عقب حفل توقيع كتابه بخنيفرة، ذلك عندما شكك مثلا، في دخول عقبة بن نافع إلى المغرب، وفي تعرض المغرب لهجرة واحدة من طرف بني هلال الذين نزحوا من اليمن وليس من النجد، على حد قوله، بل ذهب أعمق من ذلك حين نفى بشكل شبه قاطع وجود أية سلالة للأدارسة، كما شكك أكثر في ما يحكى عن البورغواطيين الخوارج على أنهم ألّفوا قرآنا بلغتهم، بينما لم يقوموا إلا بترجمة القرآن الكريم إلى الأمازيغية قصد تسهيل قراءته وفهمه وإقامة الصلاة به. ولم يفت الجويطي في كلمته خلال الحفل التأكيد على أن اعتزازه بكتابه «تاريخ تادلا» أكثر من اعتزازه بأعماله الروائية، رغم أنه يجهل كيف كتبه ولا ظروف إنجازه، بالقول إنه قرأ المئات من الكتب لأجل 1200 صفحة فيها عصارة ما قيل عن تادلا في شتى المراحل والعصور والأنظمة. وصلة بالموضوع، قال ذ. الجويطي «إن ثقافتنا ثقافة جبلية، والجبل هو الذي شكَّل المقاومة، بينما السهول كانت كلها عواصم سلطانية، والمغرب طيلة تاريخه كان عبارة عن ممر باتجاه الأطلس المتوسط الذي لم يخضع لأية سلطة إلى حين جاء السلطان مولاي إسماعيل وأطبق بجيوشه على مناطق وجبال هذا الأطلس، حين كان المخزن ليس سلطة بل آلية لتدبير مجال معين»، مشيرا بالتالي إلى ما كان يكتنزه هذا المجال من ثروة هائلة من النحاس الذي كانت قيمته أغلى من قيمة الذهب، واضعا الأصبع على عدة أسئلة تاريخية في محاولة منه تصحيحها برأيه وتعبيره. ومن جهة أخرى، قال بأن «المغرب ضيع فرصا كثيرة للإصلاح»، ليقوم بإخضاع رأيه لتشريح تاريخي انطلاقا من عودته بالحضور إلى الزروق الذي ظهر في فاس ودعا إلى «كرامة العمل»، ومدى تكالب الجازوليين والقادريين عليه، كما خلق ذ. الجويطي نقاشا بتأكيده على أن الزاوية الشرقاوية كانت موالية للمخزن عكس باقي الزوايا، ومن خلال ردوده على بعض التدخلات، أكد ذ. الجويطي أنه لا يكتب ليستفز بل هو من تستفزه بعض الكتابات التاريخية التي قرأها. وجوابا على سؤال حول علاقة الروائي والمؤرخ فيه؟ قال ذ. الجويطي إنه لا يقبل بمناداته بالمؤرخ أو حتى الروائي، بل هو «رجل بسيط يسعى إلى تقديم أي شيء مفيد لهذا الوطن، وابن رجل كادح عاش نصف قرن من عمره بمدينة خنيفرة، وحفل توقيعه لكتابه بهذه المدينة هو بمثابة إهداء لوالده»، مبديا استعداده للمساهمة في كتابة تاريخ هذه المدينة الذي لم ينل حقه من التدوين. وقد عرف اللقاء مجموعة من التدخلات التي ألقى بها الحضور أمام ضيف اللقاء، من قبيل موقع الزاوية الشرقاوية ضمن باقي زوايا البلاد؟ وعلاقة التاريخ بالسياسة في المغرب؟ والتقسيم الترابي المتكرر بشكل غريب؟ وما يتعلق بالوعي الكوني والوعي الحديث والوعي التاريخي؟ ما مدى تمكن الكتاب من روح التحفيز لفتح باب البحث في التاريخ المسكوت عنه؟ وما سر القفزة النوعية لكاتبه من الرواية إلى التاريخ؟ وهل الكاتب انتصر للهامش؟ وكيف يمكن للقلم واللسان الوصول إلى الحقائق الملفوفة في الطمس؟ وغيرها من الأسئلة الحارقة والمتعطشة لتأسيس قراءات جديدة للتاريخ من أجل إعادة الاعتبار للمهمّش والهامش ويسهل فيها تحطيم طابوهات سلطة التاريخ الرسمي.