من يقرأ راهن الزمن العربي منذ انفجار ما عرف في وسائط الميديا الحديثة بالحراك الإجتماعي، تستوقفه علامات ناضحة بالتفكيك والتشبيك، لربما تدخل في سياق لعبة خلط الأوراق التي باتت لوحدها نظرية سياسية تُدرس في كبريات معاهد العلوم السياسية، تجعل المنطقة العربية اليوم فضاءا لتجذير خطابات القبيلة والاثنية والطائفية بشكل يتعذر معه إقامة تحليل تاريخي بحس نقدي، يبحث عن أدواء الوهن العربي من المحيط إلى الخليج. يرتفع القلق أكثر حينما يصبح الزمن العربي منسكبا ضمن ترسيمة إلتقاء صعب بين تراكمات ممنهجة مورست من طرف الدول الوطنية في استبعاد الهامش والمهمش من دائرة الانشغال السياسي لفترات مديدة، مع نُزوعات العولمة الافتراسية الساعية إلىرسم عوالم متخيلة عن الواقع الإنساني، برؤية تمتح مما يسميه عرَّابو الخطاب الما بعد كولونيالي بالسلطة الناعمة Soft power، وهو ما يفسر تواتر الحركات الاحتجاجية على امتداد جغرافية العالم العربي، التي باتت تنقلمطالبها من مطالب اجتماعية نحو مطالب سياسية إذا ما وجدت التربة الحاضنة لذلك، وبالتالي تساهم في ولادة شرعية جديدة تؤسس لتصادم حادث بين التقليد والحداثة، تنذر بمخاض جسد على وشك الوضع كما يقول المفكر الفرنسي جييل كبيل. الزمن العربي يبدو راهنا مثخنا بالإشارات السوسيولوجية حول مخاضات القطيعة والولادة، حول بداية زمن المراجعات الفكرية والسياسية والدينية، حول هدم عالم ما قبل 2011 وإعادة بناء عالم ما بعد 2011، إنه تحول راديكالي يجعل نقطة العودة صعبة، وأفق الاحتماء بالماضي متعذر، مغرب المَقدم والشيخ والقائد، مغرب الدولة الاستبدادية التي تستمد شرعيتها من الإرث المخزني بدأت في التواري والضمور، تحت تأثير وسائط الميديا وانفجار المعلومات والحاضر المعولم، وهو ما يسمح للمشتغلين في حقل العلوم الانسانية اليوم بإعادة صياغة سردية سياسية واجتماعيةجديدة حول مورفولوجية العالم العربي، استنادا على تحليل مِجهري متعدد الجوانب، يُنوع باستمرار من مقياس الملاحظة، بين الملاحظة من فوق المفككة لتاريخ الاخفاقات التنموية وفشل السياسات العمومية في تذليل معيقات التأخر الاقتصادي والاصلاح السياسي والثقافي، والملاحظة من أسفل الباحثة عن التقاط إكراهات وضغط اليومي الاجتماعي بسبب سوء توزيع الثروة وغياب العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص في ظل القبضة الحديدية لمالكي وسائل الانتاج والاكراه الجدد. أتصور أن الانتصار لهذه الرؤية التركيبية في تناول موضوع على درجة عالية من التعقيد والتركيب، في فضاء جغرافي متموج ومنفلت من كل مقاسات التحليل، يقتضي ارتداء عباءة المؤرخ السياسي المتجرد من الخلفياتالمعلنة والمضمرة، المؤرخ الباحث عن مسكن الشيطان المستوطن في التفاصيل كما يقول المثل الفرنسي، الذي يقوم بعملية فرز وتصنيف التشابكات التي تسم البنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية لعالم يقع في مفترق طرق حاسم، أملا في إقامة مقايسة مجالية بين أقطار هذه البلدان لفهم الجذور المنتجة لخطاب الفعل الاحتجاجي، وإشكالية مأزق الإسلام السياسي، وانسحاب الإنتلجنسيا من التأثير في الشارع، مقابل صعود صوت الشباب، وتصدع مؤسسات التنشئة الاجتماعية التقليدية في تشكيل الوجدان وصناعة التوافق التاريخي، عن تعذر صياغة ما يسميه موريس هالفاكس ب»الضابط الإجتماعي»، الذي هو بالنهاية عملية متواصلة بتواصل تطور المجتمع. تروم هذه الورقة البحثية تأطير النقاش بخصوص أزمة التأخر التاريخي، وتواصل أزمنة التسلط والاستبداد والتواكل التي تنخر راهن مجتمعات الانفجارات الكبرى، عن صعود خطابات الاثنيات والقوميات والطائفيات في لحظة تاريخية فارقة، بقدر ما تنجر نحو الوراء، بقدر ما تتطلع إلى الأمام،لحظة هادمة لما قبلها، لحظة ولادة جديدة، بتعبير آخر يشهد راهن العالم العربي على انبثاق معارك جديدة تتطلب نفسا طويلا من أجل تشكيل الذات العربية المنكسرة، معركة التحديث الثقافي وترسيخ قيم المواطنة والحرية والدولة المدنية، معركة التصالح مع الذات، وإعادة بنائها مجددا على سكة العقل والتاريخ والوعي والنقد، معركة إعادة الفضاء العربي إلى قطار التاريخ ومجاراة تحولاته الحادثة. يفضي هذا الاختيار إلى تحويل رهان القوة إلى قوة الرهان، إلى جعل الارتطام بين القديم والحديث مكشوفا من أجل استثماره في معركة ما بعد النهاية، لأن التخلص من الاستبداد وإرث الدولة السلطانية لا يقتضي منازلة واحدة، بل نفس طويل ورؤية مستدامة وتضحيات دؤوبة، وهو ما يجعل سؤال الاجتهاد والأنوار داخل رحى العالم العربي مطلبا راهنا لمواجهة العودة المتكررة للقبيلة والعشيرة إلى الفضاء التداولي وقضايا الشأن العام، على الأقل في اللحظة التي تشهد انحسارا قويا للدولة الوطنية وفشلها في بناء مشروع مجتمعي يرعى الاختلاف، مشروع يؤسس لوعي وطني صاهر للهويات المتقاتلة، مشروع يذيب فزَّاعة دولة الخلافة التي تتوطن في ذهنيات بعض من قارئي التراث، دولة إحياء المجد القديم ضدا على حركية الواقع التاريخي ومكتسبات الحضارة الانسانية. فوق كتيبة الخراب العربي من المحيط إلى الخليج لا وقت للبكاء في التاريخ، حينما ترتد المسميات إلى نقيضها،يصير الالتفات للخلف تجزية للوقت، ومداراة للوهن البنيوي، في عالم صارت عولمته تنسف ما تبقى من أنسجة مجتمعاتنا. من أجل أن نستوعب دروس الديموقراطية يقتضي علينا نسيان الماضي، والتطلع للمستقبل، علينا أن نؤمن بأن لا تاريخ بدون معارك، وأن الصراع الذي نحن نقع في معمعانه لا تُنهيه جولة واحدة، قد يصح القول أننا بدأنا في غربلة حساباتنا مع تركة المشروع النهضوي وثنائياته، الأنا والآخر، الذات والعالم،الاسلام والغرب، الداخل والخارج. كل عملية خلط للأوراق قد تزيد من تضييق مخرج الانعتاق، الانعتاق الذي يجب أن يتم بروح نقدية ووعي تاريخي وبتجديد الرؤية نحو الذات والآخر، في معركة لم تعد قابلة للتأجيل. معركتنا معركة مركبة، معركة من داخل مختبر العلوم الانسانية، معركة استئناف الفعل الانساني. يجب أن ننتصر في قراءتنا لحدث الحراك الاجتماعي العربي على أنه تجسيد لعودة الفضاء العربي لمعانقة قطار التاريخ وولوج أحد مقطوراته، بعد تراكم خيبات حضارية كثيرة منذ نكبة 1948 ونكسة 1967، هذه العودة إلى ركاب التاريخ لا تقتضي منازلة واحدة فقط، بل نفسا طويلا ورؤية مستدامة لوأد الاستبداد السياسي والتأخر التنموي الذي يبدو أنه وجد مستوطنا أثيريا بالمنطقة. مطلب التنوير لا يزال ملحا في الراهن العربي، قياسا بالردة المجتمعية التي تعانيها مختلف دول المنطقة منذ سبعينيات القرن الماضي، على الأقل منذلحظة تبلور خطابات الاسلام السياسي في الجامعات العربية، الرافعة لشعار الاسلام هو الحل، المستوحى من كتاب معالم على الطريق للراحل حسن البنا، وهو ما يجعل الراهن العربي مفتوح على رجات عنيفة، بسبب عدم التوافق حول صيغة مشروع سياسي ومجتمعي، تنضبط إليه كل التيارات الفاعلة في المسرح السياسي. يلح المفكر الفرنسي أوليفيه روا كثيرا على تعولم الاسلام السياسي في زمن الميديا، بفعل التشبيك الافتراضي الذي جاد بمريدين جدد على الأممية الاسلامية، وفرضية التعولم هذه تستند على قدرة الحركات الاسلامية على تغيير موقفها حسب حاجيات اللحظة السياسية، فحزب العدالة والتنمية في المغرب مثلا الذي كان خارج حراك 2011، سيعود للإشادة به عقب افرازات صناديق الاقتراع التي ستوصل لأول مرة في تاريخ المغرب حكومة إسلامية إلى قمة المشهد السياسي، نفس الشيء مع حزب النهضة التونسي في ما يخص تفاعله مع بعض الاجتماعية والسياسية. تحولت بعض الحالات في العالم العربي إلى حالات درامتيكية، جديرة بالمُدارسة والاهتمام من طرف الإثنوغرافيين، وهي تؤسس لمنزلق خطير، يجعل من نعرات القبيلة والعشيرة تعود إلى واجهة الأحداث مجددا، أوَ ليس فشل مشروع الدولة الوطنية في تدبير الاختلاف الاثني والعقدي، في بلورة وعي وطني صاهر للهويات هو من يحيل على نقطة البدء؟ بعيدا عن سيناريو المؤامرة الخارجية، وفرضية الفوضى الخلاقة التي تجعل من دول اقتصاد الحروب تغتني على حساب تطلعات الشعوب العربية في الكرامة والحرية والاختلاف، علينا أن نقر على أن نموذج الدولة الاستبدادية الذي نما بالمحاذاة مع الدولة الاستعمارية وأحيانا بإيعاز منها، هو الذي رعا عملية إحياء الطائفية والقبلية من جهة، بجعل بعض تيارات الإسلام السياسي لا تفتأ ترفع فزَّاعة دولة الخلافة، مجد قديم في طريق الانبعاث مجددا. مما يبعث على التساؤل، لماذا بعض الأوهام تتمتع بحضور تاريخي في حاضرنا ضدا على الواقع الانساني وحركية التاريخ؟ في الطرف الآخر، تظهر اصدارات جديدة، لربما تصدح عن البنية العميقة لتفكير الغرب وسدنته في التعاطي مع قضايا الإسلام، فهذا إريك زمور يتكلم عن الانهيار النفسي للشباب أمام زحف الإسلاموفوبيا بفرنسا، ويطالب بترحيل المسلمين من فرنسا، وذاك ميشيل ولبيك ينتج عملا أدبيا على درجة عالية من التخييل، يتصور فيه فرنسا مسلمة سنة 2022 تحت قيادة رئيس مسلم يعمل على نشر الاسلام في فرنسا. هذه الأعمال وغيرها هي من تزكي العنف والارهاب، وتنسف رصيد الأخلاق المشترك، وتجعل الغرب يعادي الاسلام والمسلمين. الارهاب صار وباء العصر الجديد، أفيون بشرية القرية الكونية الواحدة، كل محاولة لفهمه لا يجب أن تخرج عن نطاق الفقر الفكري والبؤس الاجتماعي والافتراس الاقتصادي، للإرهاب تربة حاضنة ينتعش فوقها ومن خلالها، حينما يخفت صوت المجتمع المدني، ويضمر صوت المجتمع السياسي والنقابي، تكون إذاك الأرضية مهيأة لانتعاش خطابات الانتماء، التي تغتني بقراءات مخصوصة للترات. ما يهم في راهن المنطقة العربية هو دراسة ردود الأفعال التي تسكن تجاويف اللاشعور، كما يحيل على ذلك الفيلسوف الايراني دريوش شيغان، والتي لا يجب أن تلهينا عن جلد الذات، والنأي بها عن فرضيات المؤامرات، لقد ظللنا سجناء ردود أفعال انتقائية، لم تُوصلنا إلى طرح قضايانا الخلافية بوعي تاريخي، ظللنا عاجزين عن لملمة حالة الانهيار الشامل التي تتعرض لها كل البنى الكبرى. هناك من يعقد أمالا عريضة على تجربة الياسمين التونسية، هل تعدو استثناء في مسار يكاد يكون متشابها؟ هل تحصل في داخلها ايحاءات على بداية العد العكسي للانتقال من دولة الافتراس نحو دولة التقاسم؟ لربما يوحي راهننا أننا نمضي نحو شوط جديد من مسارنا التاريخي، قد يتشابه مع الأمس في أشياء، لكنه يضعنا أمام مفترق طرق، إما انتاج وضع جديد، أو مواصلة الارتباك السياسي. التاريخ الذي يجمعنا لا يزال يمنحنا شرف الاختبار، وفرصة ضبط النفس أمام هذا الانسداد الخانق. علينا أن نعمل على تحويل التحديث إلى خيار نهائي وجماعي، علينا أن نراهن على الفعل الجماعي المركب الذي سيعيد للمثقفين هيبتهم المعرفية في تغيير الذهنيات وأنماط الوعي، سبق للأكاديمي الأردني مروان معشر أن نبه إلى مسألة جديرة بالانتباه، اليقظة العربية الأولى كانت شأن نخب من دون جماهير، والربيع العربي شأن جماهير من دون نخب، ثمة حاجة إلى زمن احتمالي ثالث يلتقي فيه صوت الشارع مع صوت المثقف. المثقف هنا قطب الرحى في ظل كل تحول منشود، ذلك أنه هو الموكول إليه تعزيز مساحة الفكر النقدي، صياغة بدائل فكرية، بناء تصورات تاريخية لمواجهة اليقينيات والفكر الشمولي. المثقف يجب أن يكون صاحب حلم جماعي، يؤمن به أولا قبل الاخرين، لا يجب أن يستغرق في خطاب البكائيات ومغالبة الوهن، عليه كما يشير غرامشي أن يؤمن بعقلية التشاؤم وارادة التفاؤل. ففي بهو أحد فنادق سويسرا من عام 1897، حينما كان مؤتمر بال يتداول فكرة إقامة المشروع القومي الصهيوني فوق أراضي فلسطين، خاطب تيودور هرتزل أثرياء اليهود بجملة لا تخلو من وجاهة، «سيصبح مشروعكم حقيقة إن أنتم امنتم به». الإيمان بالحلم يجب أن ينطلق من المثقف أولا قبل أن يشيع داخل المجتمع، من هنا تبدأ مسؤولية المدرسة. ثمة نقطة أساسية لا ينتبه إليها المحللون، مسألة تناسي القضية الفلسطينية، ذلك الجرح الانساني الغائر في وجدان العالم، فأغلب دول الحراك انكفأت على نفسها، وأضحت مهتمة بقضاياها الداخلية، بدورها القضية الفلسطينية لا تزال لم تغالب أعطابها الذاتية. *أستاذ باحث بجامعة القاضي عياض بمراكش