مر نحو نصف قرن على كتاب «الاستبداد الشرقي، دراسات مقارنة للسلطة المطلقة»، لصاحبه كارل ويتفوغل، الذي عبر القرن الماضي، بغير قليل من التوترات، موزّعا بين أحلام تعادلية ومصنفات أدبية… سجون ، منافي، ومحاكمات فكرية، في رحلةٍ غرّبت به بين طبقات الصراع الفكري للأممية الثالثة، قبل أن يستقر في الولاياتالمتحدة في نهاية الثلاثينيات. غير أن العودة القوية لفلاديمير بوتين التي صارت روتينا سياسيا في البلاد التي يأتي منها الثلج، تعيد طرح السلطة موضوعاً للمقارنة، وطريقا إلى إحياء الاستبداد الشرقي، فلا شك أن كثيرين من أنصار الصراع الفكري القديم سيسترجعون بعضًا من عناوين الكتاب، وهم يتابعون الفوز الساحق للرئيس بوتين، القيصر الجديد لروسيا الفيدرالية.. ولا شك أن العبارة التي كتبها، في تقديم الكتاب، أو دراسته كما كان يحب القول، تعود إلى الأذهان، من دون أن تفصح عن نفسها: «لقد أكدت أنه، في الجزء من العالم الذي يمكن أن نصفه بالمفتوح، تتهيأ أزمة خطيرة، وأنه لفهم العالم في مجمله لا بد من فهم الجزء الشرقي منه». ولأن المجتمع الروسي، في تقدير هذه النظرية التي طالما تم نبذها، هو مجتمع «نصف آسيوي»، فلا هو مجتمع آسيوي أشمل، كالصين، ولا هو مثل كوريا، بل إنه نصف مفتوح، يسمح بالانتخابات، شريطة أن تقود إلى القيصرية. ولفهم هذا التحول نحو «إعادة تثبيت النظام الآسيوي لروسيا»، بلغة الكتاب، لا بد من استحضار المشاعر المتضاربة التي يثيرها فلاديمير بوتين اليوم. في الغرب أولا: هو حامل سيكولوجي لمشاعر متضاربة بين الحقد والحب، بين الإعجاب والنفور، في تلك المنطقة المتلاطمة التي سماها عالم النفس الفرنسي، جاك لاكان، «حبراهية» أو «hainamoration» فقد كُتبت عن الرجل بورتريهات متضاربة، ترى فيه الرئيس القوي الذي يميل إلى الفعل المباشر والحازم. رجل يبدو مثقلا بصورة كئيبة، لكنه فعال وديناميكي، بارد الملامح، مثل أي جاسوس قديم في «كي جي بي»، لكنه، في الوقت نفسه، يُحسن صناعة النتائج التي تقدمه بصورة السياسي الناجح والناجع. يرى بعض آخر النصف الأوروبي في الرجل، ويحاكمه على أساسه، بحيث يعدّد مثالب الانتخابات والتدخل، والقبضة الحديدية التي تميز عهده. وكل الذين استحلوا العولمة، تعبيرا عن نهاية التاريخ ودخول العالم لعصره الليبرالي الأخير، يعدون الرجل خليطا من الجنرال الدموي والسياسي المكيافيللي. في روسيا ثانياً: وحيث يفشل الغرب في فهم القومية الروسية، ترتفع شعبية الرئيس لدى أبناء بلاده. يعتبرونه الرجل الذي تحدى الغرب، وأعاد إليهم بعضا من الاعتزاز بالنفس، بعد زمن ظلت العواصم الأوروبية تقدم فيه الدروس… والفتات. وقد أظهرت النتائج أن الرئيس الذي يبلغ 65 عاما، أمضى منها أكثر من 18 عاما في السلطة، قد حصل على أكثر من 70 % من الأصوات، ليبقى بذلك رئيساً لولاية رابعة لروسيا التي أعادها، في السنوات الأخيرة، إلى واجهة الساحة الدولية، في وقت يخوض اختبار قوة مع الغرب، منذ تسميم العميل الروسي المزدوج السابق، سيرغي سكريبال، في المملكة المتحدة. على مستوى العالم ثالثاً: لا يدّعي الرئيس بوتين قدرته على قيادة الاقتصاد العالمي الذي دخلته روسيا... القهقرى، فقد كانت نتيجة تغوّل العولمة، وتفكيكها عالم الحرب الباردة، وفي أحسن حالاتها، فإن مستوى النمو لا يتعدى مستوى دولةٍ في الاتحاد الأوروبي هي إيطاليا. لكنه يعود من باب الحرب، أساسا لا اقتصادها. من استراتيجيات موروثة عن تأثير الجغرافيا في السياسة، منذ عرفت كل قوة حدودها وقدرتها على التأثير، فالسياسة الدولية لا تطمح إلى منح الشعوب الروسية شروطا أفضل للعيش، بقدر ما تطمح إلى إعطاء روسيا شروط العيش الاستراتيجي. وفي هذا الباب، يقترح الرئيس التوتر مدخلا ثابتا في كل عودة: فعل ذلك عبر جزيرة القرم، وتسخين الجبهة الغربية لحلف شمال الأطلسي «الناتو»، وفعل ذلك في سورية، لتسخين الجبهة المتوسطة للجزء الغربي من امتداده في الشرق الأوسط. وقد فعلها، في جهة أخرى من جهات العالم. وعلى ذكر الشرق الأوسط، يبدو أن روسيا صارت جزءا كبيرا من توازنات الرعب في المنطقة، بفعل التباس العلاقات الأمريكية هناك، وتتشابه الصيغ المقترحة في حرب كل طرفٍ مع الطرف الآخر، وإعادة صياغة الأولويات، بفعل الفوضى الخلاقة، وبفعل تأرجح الغرب الأوروبي، بين سياسة أبيقورية تعلن الاستناد إلى الفضيلة ومكيافيللية ترافق دوما القوى الاستعمارية القديمة التي تمارس السياسة لمصلحة الأمير، كما نظر لها الإيطالي الأكثر شهرة في عالم السياسة، نيكولا مكيافيللي. روسيا اليوم، في اعتقاد بوتين، قادرة على أن تعود إلى ساحة التنافس الدولي، لأنها مطلوبة.. هناك من جهة عودة الوطنيات الفاعلة في العالم، بعد أن كانت الأمم قد تحللت في صهريج كبير اسمه التكتلات الكبرى (الاتحاد الأوروبي، الأممالمتحدة، الميركسور…... إلخ)، وبدأت الوطنيات تعبر عن نفسها بطريقة مركزية «البريكسيت»، أو بطريقة مرضية من باب تشجيع الشوفينيات القاتلة على الاستفراد بصناديق الاقتراع (فرنسا، إيطاليا، النمسا...…). وهناك، من جهة أخرى، انتعاش الجيواستراتيجية، بفعل تفكك الهيمنة الأحادية للولايات المتحدة، ونزعة العالم إلى تنصيب تماثيل أخرى للقوة «الصين، روسيا، …). الميكانيك السياسية التي يطمح إليها بوتين هي (الدولة الكليانية) التي تقود البلاد إلى موقع جيد على رقعة الشطرنج الكبرى، العالم، وهو ينتظر على أبواب الألفية الثالثة وصول الدول الراغبة في شراكات استراتيجية جديدة، تبتعد عن هيمنة القطب الأمريكي. كان هناك نزوع شرق – أوسطي في اللجوء إلى البلاغة، وحشوها بكل إكراهات الواقع، أو بلغة ثانية، الهروب من صلابة الواقع إلى ميوعة البلاغة السياسية (تحرير فلسطين من البحر إلى البحر، وحدة الأمة، هزم الإمبريالية...)، في حين كان الواقع يقول عكس ذلك، من خلال استسلام كلي للحكم الشمولي من جهة، وإتقان الدور الذي جاء به التوزيع الدولي للعمل. والتحول الوحيد الذي جاءت به العودة الروسية إلى دورها في الشرق الأوسط هو أن اللغة السياسية تحرّرت من وهم البلاغة، ولجأت إلى إكراهات الواقع الجديد. واتضحت النوايا، بعد أن عادت القوة الروسية إلى «التدبير المشترك» للعالم، من خلال الحسم العسكري في النزاع السوري، واتضح أن النزوع الدائم لروسيا القيصرية وروسيا الاتحاد السوفياتي يجد امتداده في روسيا بوتين، تبعا لعقيدة ديبلوماسية تاريخية، مفادها أن المتوسط هو جزء من «الخارج القريب». وما لا يمكن أن ننساه، وإن نسيناه يذكّرنا به خبراء معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية الفرنسي، ومنهم بليغ نبيلي، الذي يقول «إن التدخل الروسي في القضية السورية لا يتلخص في قضية تحالفات أو جيوستراتيجية، بل يكتسي بعدًا داخليًا وجهويا لروسيا»، فبوتين يخشى توسع التهديد الجهادي إلى الجمهوريات الإسلامية في القوقاز والشيشان أو داغستان، ولهذا اعتبر بوتين، في تحليله، أن ثورات الشعوب العربية في 2011 تهديد أمني إسلاموي لبلاده ذاتها». ومجمل القول إن بوتين يستحق، بعد ولايته الرابعة، أن يسمى القيصر الرابع، ليس فقط في استمرار الاستبداد نصف – الآسيوي، بل أيضا بامتداد روسيا القيصرية في الجيواستراتيجيا وفي التنافس، باعتبار هذا الامتداد دليل عنفوان البلاد. * نشر في «العربي الجديد»