يبدو أن الصراع الذي طفا على السطح بين تركياوروسيا يوم 24 نونبر الماضي على خلفية إسقاط مقاتلة من نوع سو24، بدأ يأخذ أبعاداً دينية وحضارية غير مسبوقة بالإضافة إلى الأوجه الاقتصادية والدبلوماسية. فقد أصدر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يوم السبت 28 نونبر قرراً بالمقاطعة الاقتصادية لتركيا، وتوعدها بإجراءات أخرى "ستجعلها تندم" على ما أقدمت عليه. فما هي انعكاسات هذه الأزمة على العلاقات بين البلدين؟ وكيف يمكن أن نفهم هذا الإصرار الروسي على التصعيد؟ على العكس من الانطباع الذي يولده قرار موسكو بالمقاطعة، فإن روسيا قد تكون أكبر المتضررين من هذه الخطوة. ذلك بأن معطيات التجارة بين البلدين لسنة 2014 تتحدث عن استيراد تركيا من روسيا حوالي 25 مليار دولار، بينما لا تصدر تركيا نحو روسيا سوى 5.9 مليار دولار. بمعنى أن روسيا تُصدر نحو تركيا أربع مرات قيمة ما تستورده منها، فمن الخاسر إذاً في معادلة المقاطعة؟ صحيح أن تركيا ستتكبد على المدى القريب خسائر جراء قرار المقاطعة الاقتصادية، خاصة في قطاع السياحة الذي يستقطب أزيد من ثلاثة ملايين سائح روسي سنوياً، ولكن تنوع شركاء تركيا سيمكنها على المدى المتوسط من امتصاص آثار الأزمة وتجاوزها. وإذا قارنا الحجم الإجمالي للصادرات التركية في نفس السنة أي 2014 والتي بلغت 171.9 مليار دولار، إلى حجم صادراتها نحو روسيا نجد أنها لا تمثل أكثر من 3.4 %، ويجب أن نلاحظ هنا أن تركيا حققت هذه الأرقام رغم الظرفية الاقتصادية الصعبة التي تمر منها بسبب الأزمة في الشرق الأوسط، والتي أثرت بشكل واضح على علاقاتها بثلاثة زبائن اقتصاديين على الأقل هم مصر وسورية والعراق، بالإضافة إلى إيران التي لا تنظر بعين الرضا إلى مساندة تركيا للثورة السورية ضدّ نظام بشار الأسد. وإذا أضفنا إلى هذا المعطى كون روسيا قد أبرمت خلال الزيارة الأخيرة للرئيس بوتين إلى أنقرة منذ حوالي سنة صفقات ضخمة لتزويد تركيا بأربعة مفاعلات نووية بقيمة تفوق 20 مليار دولار، والمشروع العملاق لإنشاء خط أنابيب لنقل الغاز الطبيعي عبر تركيا والبحر الأسود، نحو دول الاتحاد الأوربي للالتفاف على أوكرانيا التي وصلت علاقاتها بروسيا إلى القطيعة، فستصبح روسيا هي المتضرر الأول من هذه العقوبات، وليس العكس. هذا فضلاً عن كون روسيا خاضعة لعقوبات اقتصادية أمريكية وأوربية بسبب الأزمة الأوكرانية. فهل أخطأ القيصر بوتين حساباته هذه المرة؟ أم أن هناك عوامل جيوسياسية أقوى من الأرقام الاقتصادية؟ للإجابة على هذا السؤال، يجب التذكير بأن روسيا تعيش عزلة دولية، وأزمة مزدوجة مع الاتحاد الأوربي والولاياتالمتحدة، منذ ضمها لشبه جزيرة القرم على البحر الأسود، ثم تدخلها في شرق أوكرانيا لتغذية المطالب الانفصالية في منطقة "دونْباس" ذات الغالبية الروسية. وتحاول روسيا جاهدة استثمار حادثة إسقاط الطائرة لإعادة الدفيء إلى علاقاتها مع أوربا والغرب، وذلك باللعب تارةً على وتر "أسلمة الدولة" لإحداث تصدع في الموقف الأوربي المتوجس من الرئيس أردوغان، وتارة أخرى بمحاولتها خلط الأوراق واتهام تركيا بالتعامل مع "داعش" في استيراد النفط. ولكن تقارير أمريكية وألمانية وفرنسية متطابقة كشفت أن النظام السوري، حليف روسيا، هو أكبر مستورد للنفط من "داعش". ومن الناحية السياسية واستناداً إلى القانون الدولي، توجد تركيا في موقف أكثر من مُريح لأن الأمر يتعلق بالدفاع عن مجالها الجوّي، ولأنها سبق وأن حذرت الجانب الروسي في حادثة مماثلة منذ حوالي شهر، وصرحت ساعتها الخارجية الروسية أن الأمر ناجم عن سوء الأحوال الجوية! ولا ننسى أن تركيا عضو بالحلف الأطلسي منذ 1952، وأن الولاياتالمتحدة عبّرت عدة مرات خلال هذه الأزمة، وعلى لسان رئيسها باراك أوباماعن مساندتها لتركيا في الدفاع عن حدودها ومجالها الجوي. ولكن ما تواجهه تركيا اليوم، وما يجري في المنطقة الممتدة من العراق إلى سورية مروراً باليمن وجزيرة العرب، لا يمكن أن نستوعبه خارج التحولات الجيوسياسية التي رسمت خرائط الدول الحديثة في المنطقة، داخل مختبرات أوربية. ولعله ليس صدفة أن تكون روسيا، التي دخلت على الخط اليوم، هي بالذات التي كشفت بعد الثورة البُلْشفية سنة 1917 عن وجود وثيقة سرية تحت مُسمّى اتفاقية سايكس بيكو الموقعة سنة 1916، لتقاسم تركة الإمبراطورية العثمانية بين بريطانيا وفرنسا، على أنْ تُطلق هاتان القوتان يد روسيا القيصرية في الأقاليم الآسيوية التابعة هي الأخرى لما كان يُسمى بالرجل المريض. وفي ظروف كالتي تمرّ منها المنطقة، لا بد أن نستحضر التاريخ للحديث عن ثأر حضاري عُمره خمسة قرون يبدو أن روسيا الأرثوذكسية لم تَنسه كُلّيةً، ويتعلّق الأمر بسقوط عاصمتها الروحية القسطنطينية في يد العثمانيين عام 1453م. فإسطنبول الحالية كانت هي عاصمة الإمبراطورية الرومانية الشرقية، أو "فاتيكان" الكنيسة الأرثوذكسية التي تتبعها روسيا واليونان. وقد يبدو هذا الأمر غريباً في تحليل سياسي، ولكنْ سُرعان ما سيَزول وجْه الغرابة حين نعلم أن البابا كيريل، زعيم الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، بارك دخول روسيا الحرب في سورية، بل وصفها بالمقدسة حسبما نقلته قناة "روسيا اليوم" الرسمية. وفوق كل ذلك صرح السيد بوتين نَفسُه يوم الخميس 03 ديسمبر الحالي "أنّ الله قرّر معاقبة النّخْبة الحاكمة في هذا البلد"، في معرض حديثه عن تركيا(!). وإذا كان المهدي المنجرة قد تنبأ بحرب الحضارات قبل أن يؤيده الأمريكي صمويل هنتنغتون، فإن ما يبعث على القلق هي تصريحات رَئيسَي أكبر قُوّتين عسكريّتين عرفهما التاريخ، أعني بوتين وقَبْله جورج بوش الابن الذي وصف حربه على العراق "بالحرب الصليبية". وليس غريباً أن تَمْتَح روسيا من قاموس الإنجيل اسم "يوم القيامة" لِتُطلقه على آخر باكورة في صناعة طائراتها الاستراتيجية العسكرية، والتي أُعلن عنها هذا الأسبوع في موسكو. إنّه سباق جنوني لإشعال فتيل "حرب مقدسة" تقودها الدول العظمى وليس الجماعات المُتطرّفة هذه المرة. ومَن يَدري فقد تكون هذه الجماعات جزءً من الخُطة الحربية التي تُصنع في غرف العمليات الإستراتيجية! ومع تَسارع الأحداث، يصعب التكهن بالمستقبل، ويبقى الشيء الوحيد المؤكد أن العالم أصبح أكثر خطورة، وأن الأديان عادت بقوة إلى السياسة الدولية، وللأسف من باب "الحروب المقدسة"، وليس من باب السلام..