اعتادت غالبية المحللين السياسيين في منطقتنا العربية في العقود الماضية على إعلاء شأن التمايزات الأيديولوجية بين الأطراف المتصارعة، لتفسير أصول الصراعات وأسس التحالفات وصولاً إلى استشراف المآلات. ومنذ العقد الأخير لم يعد هؤلاء حتى في حاجة إلى النظر في أيديولوجيا الأطراف والجماعات المتصارعة، بل إلى مذاهبها لتفسير الدوافع وتحليل التحالفات. وزاد من وطأة هذا التبسيط المخل نسبياً أن الطرفين المتصارعين في المشرق العربي الآن يستعصيان على التصنيفات السياسية الكلاسيكية بين اليمين واليسار، فلا هذا يسار فعلاً ولا ذاك يمين بالقطع. على الصعيد العالمي الأوسع، ارتكب محللون سياسيون حول العالم وليس العرب فقط - لعشرات السنين، خطيئة مماثلة وإن كانت أكبر حجماً، ومفادها تفسير الصراع بين الشرق والغرب باعتباره صراعاً أيديولوجياً خالصاً بين الاتحاد السوفياتي السابق والولاياتالمتحدة. اكتفى المحللون السياسيون وقتذاك بمضمون الخطاب، فإن استعملت فيه مصطلحات مثل «منظومة الدول الاشتراكية في مواجهة الإمبريالية» عد قائلها يسارياً، وإن غلبت عليه مفردات «العالم الحر في مواجهة الستار الحديدي» دمغ قائلها يمينياً. طبقاً لتصنيفك السابق أمكن استنباط موقفك من صراعات الكون، وإذا لم تسعفك الذاكرة بمعلومات عن تاريخ الصراع وأطرافه وجغرافيته، يكفي مجرد أن يكون انحيازك واضحاً إما لموسكو أو واشنطن لتبني عليه تحليلا سياسيا قابلا للتسويق إلى حد كبير. وعلى الرغم من أن مصطلح الأيديولوجيا مثله مثل الفلسفة والديموقراطية والاستراتيجية، من أصل يوناني ومشتق من مصطلحين أبوين مختلفين (أيديا بمعنى الفكرة أو الظاهرة أو التصور ولوجوس بمعنى دراسة) ومعناها دراسة الأفكار، إلا أنه الأكثر استعمالاً على الإطلاق في التحليلات والحوارات السياسية حتى مع عدم وضوح معناه تماماً. الجغرافيا السياسية: حقيقة الصراعات الكونية سارت كتب التاريخ في اتجاه شبه وحيد، مفاده أن الحرب الباردة، بين أميركا وروسيا، إنما وقعت لأسباب أيديولوجية دفعت بها إلى الاستمرار منذ نهاية الحرب العالمية الأولى في العام 1945 وحتى انهيار سور برلين ووحدة الألمانيتين في العام 1990 وما تلاها من تفكك للاتحاد السوفياتي السابق. والحال أن الطابع الأيديولوجي في الحرب الباردة لا يمكن إغفاله، إلا أنه لا يصلح مؤشراً وحيداً على أسباب الصراع بين القوتين الكونيتين. واستنساباً وقياساً، يمكن أن يكون للصراعات طابع أيديولوجي، إلا أن عوامل الجغرافيا -السياسية تكون حاضرة ولها الأرجحية ربما، ومع ذلك يتم تجاهلها في التحليلات تماماً. وإذ ترسم مصالح الدول على أساس اعتبارات كثيرة ومتنوعة، إلا أن جغرافيا الدول تحدد إلى حد كبير سلوكها في السياسة الخارجية والدفاعية والاقتصادية وربما حتى الثقافية. الصراع بين روسيا وأميركا يمكن رؤيته في القرن العشرين باعتباره امتداداً لصراع أعمق بين معسكرين قلما تأتي التحليلات السياسية عموماً، والعربية خصوصاً، عليهما. ونعني بذلك القوى البرية والقوى البحرية، منظوراً إليهما على قاعدة الجغرافيا -السياسية. مثلت روسيا القيصرية والاتحاد السوفياتي وروسيا الاتحادية الآن القوى البرية في العالم مقابل القوى البحرية التي تولت زعامتها بريطانيا حتى العام 1945، قبل أن تتراجع وتترك الزعامة لأميركا. ولأن الصراعات الكونية من منظور الجيوبوليتيك ذات بعد جغرافي - سياسي واضح، فقد كانت الحرب الباردة هي الغطاء الذي غطى التناقض الأساسي بين الطرفين أي الصراع بين الماء واليابسة والقوى البرية في مواجهة القوى البحرية. تسترسل نظرية الجيوبوليتيك أكثر، فتصك مصطلح «التيلوروكراتيا» للقوى البرية و«التالاسوكراتيا» للقوى البحرية، فتغيب الأيديولوجيا وتظهر حتميات من نوع جديد، ليست تاريخية مثلما هي الحال في الماركسية، بل في الجغرافيا. يجدر بالتحليل السياسي إذاً أن يضع أسس الجيوبوليتيك، أو الجغرافيا السياسية، في اعتباره، ومثال روسيا وأميركا حاضر وناجز. تواجهت روسيا ضمن الاتحاد السوفياتي مع أميركا في الحرب الباردة وما تلاها حتى الآن، ويعود السبب في ذلك الى أن أيديولوجيا الحكام تتغير، ولكن جغرافيتهم لا تتغير، ما يرتب أيضاً أن جغرافيتهم السياسية تبقى إلى حد كبير على حالها. على ذلك يمكن تصور رابط ما بين قادة الاتحاد السوفياتي وروسيا من لينين إلى بوتين، على الرغم من الاختلاف الواضح في الأفكار في ما بينهم جميعاً، بسبب أن سياسات روسيا - أياً كان اسمها - تندفع دوماً إلى الغرب حيث عمقها الجغرافي في أوروبا، مهما كان الغطاء السياسي لذلك. وفي المقابل، يمكن ملاحظة تشابه مماثل ما بين سياسات قادة الولاياتالمتحدة منذ ترومان إلى اوباما، وكلهم سعوا إلى امتلاك القوة البحرية الأعظم وإلى محاصرة الجغرافيا الروسية الشاسعة بمنعها من الوصول إلى المياه الدافئة في البحر المتوسط والخليج العربي. بوتين وتصورات روسيا الجيو سياسية لم تتغير التصورات الجيو-سياسية لدى الكرملين في فترة رئاسة فلاديمير بوتين عن مثيلاتها إبان العصر السوفياتي، فالمشترك الأكثر وضوحاً بين العصرين هو معارضة النظام الدولي ذي القطب الواحد. ولذلك فقد عادت السياسة الروسية في عصر بوتين لتكون محكومة بالتصورات الجيو-سياسية الكلاسيكية الروسية؛ وما يتفرع عنها من اعتبارات ومصطلحات مثل: «التوازن في القوى»، و«التحالفات العسكرية»، و«النظام الدولي المتعدد الأقطاب»، و«المعادلات الصفرية»، و«المناطق العازلة»، و«مناطق النفوذ». وبسبب اختلال التوازن في النظام الدولي، من جراء انهيار الاتحاد السوفياتي السابق وتفككه، لم يعد لدى الكرملين الآن الهامش والقدرات ذاتها التي تحرك من خلالها للتأثير في النظام الدولي الثنائي القطبية. ولذلك تعتبر روسيا - وريثة الاتحاد السوفياتي المنهار - أن الوسائل المتاحة حالياً لممارسة دورها العالمي ستختلف بالضرورة. وعوضاً عن قيادتها لتحالف أوروبي - آسيوي (أوراسي) واسع، أو ما أطلق عليه «منظومة الدول الاشتراكية» خلال الحرب الباردة، فقد سعت روسيا منذ تولي فلاديمير بوتين مقاليد السلطة في موسكو للمرة الأولى في العام 2000 إلى تثبيت «حلفاء استراتيجيين» لها في مواقع مختلفة كمناطق عازلة، أو «حوائط صد» ضد النفوذ الأميركي في العالم. تجد التصورات الجيو-سياسية الروسية سياقها الأشمل في الصراع الذي تعتبره حتمياً بين «التيلوروكراتيا» أي القوى البرية، و«التالاسوكراتيا» أي القوى البحرية. ووفق هذه التصورات جسدت روسيا القيصرية القوى البرية، فيما قادت بريطانيا العظمى القوى البحرية طوال القرن التاسع عشر وحتى الربع الأول من القرن العشرين. وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية كرّست الولاياتالمتحدة الأميركية نفسها قائدة للمعسكر الغربي بالمعنى السياسي، والقوى البحرية بالمعنى الجيو-سياسي. أما روسيا قائدة القوى البرية فقد تغطت بعباءة الاتحاد السوفياتي لمواجهة القوى البحرية وزعيمتها الولاياتالمتحدة الأميركية، ليخوض قطبا الجيوبوليتيك الكوني صراع القرن العشرين الذي ربحته القوى البحرية، كما ربحت صراع القرن التاسع عشر من قبله. ولكن التصورات الجيو-سياسية الروسية تعتقد أن هزيمة القوى البرية لا تعدو أن تكون ظاهرة مؤقتة؛ تعود بعدها منطقة الأوراسيا تحت قيادة روسيا إلى رسالتها القارية والكونية. تلك التي تأخذ في الحسبان جميع العوامل الجيوبوليتيكية التي أغفلتها تجربة روسيا القيصرية والاتحاد السوفياتي السابق؛ لتحقق في النهاية انتصارها على القوى البحرية. يتخطى هذا الصراع بالمفهوم الجيو-سياسي الأبعاد السياسية والأيديولوجية والاقتصادية وغيرها من عوامل ومحددات الصراعات، التي لا تنتهي إلا بسيطرة أحد الطرفين على الآخر سيطرة تامة. ولذلك فمهما اختلت موازين القوى بين الطرفين، يظل الصراع الكوني قائماً بوسائل مختلفة. تعتبر منطقة الأوراسيا الممتدة من أوروبا وحتى روسيا الآسيوية، هي الساحة الأصلية لهذا الصراع، بسبب موقعها الاستراتيجي الفارق الذي يشكل شرطاً ضرورياً للسيطرة على جيوبوليتيك العالم، وتقتصر الديبلوماسية الروسية على معارضة معلنة للسياسات الأميركية في مناطق العالم المختلفة، فيما تشتد هذه المعارضة حين يتعلق الأمر بالساحة الممتدة بين أوروبا وآسيا الوسطى، أي الساحة الأوراسية. الخلاصة ستستمر روسيا في الصعود في العام الجديد 2014 مستغلة التراجع النسبي للولايات المتحدة، عبر تعزيز نفوذها السياسي في ملفات المنطقة المختلفة، ابتداءً من ملف إيران النووي مروراً بالأزمة السورية، وحتى موضوع الأقليات المسيحية في الشرق. سيفيد ذلك بوتين كثيراً في تحسين صورة بلاده أمام العالم وفي إيجاد موطئ قدم في الشرق الأوسط، الذي يبقى مع ذلك منطقة نفوذ وليس منطقة وجود، كما هي حال الأوراسيا. وفي المقابل، سيتراجع نفوذ أميركا مع العام الجديد وستسحب قواتها من أفغانستان، لكنها تضمن مع ذلك تأمين أهم ثلاث مصالح لها في المنطقة: أمن تدفق النفط، أمن إسرائيل وخلق توازن قوة بين الأطراف في المنطقة بحيث تحتوي بعضها بعضاً. حتى ذلك الحين ستستمر الأيديولوجيا حاضرة في توصيف الصراع بين الغريمين الكبيرين وفي التحليلات السياسية، ولكن التفحص أكثر عزيزي القارئ في جوهر الصراع سيشي بأن أقدار طرفي الصراع الكوني وسياساتهما الكونية والشرق أوسطية تبدو مرسومة بعناية في كتاب الجغرافيا - السياسية! "السفير" اللبنانية