«مناطق منسية» ، «جهاتٌ مقصية» ، « دواوير تجترّ المراراة» ، «سكان تحت وطأة الإحساس بالحُكرة»... عبارات وجُملٌ عديدة تتداولها وسائل الإعلام ، بين الفينة والأخرى ، مكتوبة كانت أو مسموعة ومرئية .. تحمل في طياتها دلالات عميقة تؤشر على «انكسارات» مجتمعية بنيوية يطرح استمرارُها ، في العشرية الثانية من القرن الواحد والعشرين، أكثر من تساؤل؟! عبارات يختلف التفاعل مع «رسائلها» حين يجد المرء نفسه محاصرا بتجلياتها الشرسة على أرض الواقع ، جاعلة منه شاهدا على أن «رياح التغيير» المتحدث عنها رسميا، مازال أبناء العديد من المناطق يترقبون هبوبها على أحر من الجمر! ينطبق الوضع المومأ إليه في المقدمة ، ودون مبالغة ، على دواوير قبيلة «إداوزكري» التابعة للجماعة القروية إيماون ، الواقعة ضمن النفوذ الترابي لإقليم تارودانت الجماعة الأم بلدية إغرم ذي الجغرافية الشاسعة ذات التكوينات الطبيعية المتباينة الأحجام والأشكال. إنها شذرات فقط من واقع تنطق تفاصيله بكل صُنوف «اللااهتمام» والإقصاء ، علما بأن «من رأى ليس كمَنْ سمع»... تسعينيون بدون «هوية» في زمن المناداة بتعميم البطاقة الوطنية وتنظيم القوافل لشد الرحال صوب المداشر والبلدات القصيّة / النائية «قصد التخفيف من تكاليف التنقل إلى مدن المركز» ، حسب الخطاب الرسمي، وبالتالي تمكين قاطنيها من الحصول على بطاقة تشكل عنوانا افتتاحيا ل«مواطنتهم» ، في هذا الزمن نجد العشرات من أبناء قبيلة إداوزكري ، من الجنسين ، الموزعين عبر دواويرها ، محرومين من هذا الحق ، علما بأن منهم نسوة تجاوزن الثمانين والتسعين من العمر حوالي عشر حالات بدوار الدوبْهار فقط! بعضهن لا معيل لهن ولا أبناء، يعشن تحت وطأة الهشاشة بشتى تجلياتها القاسية ، حقيقة أكدها أحد أبناء دوار «أكرض»، مشيرا إلى أن الحرمان من البطاقة الوطنية يشمل شيوخا متواجدين في معظم دواوير القبيلة ، مؤكدا «أن السلطات المعنية أُخبرت غير مامرة بهذه الوضعية الشاذة دون تسجيل أيّ تحرّك فعال لحد الآن»! ليستمر وضعٌ أقل ما يمكن أن يوصف به أنه عنوان ل«العبث» و«الاستهتار» بحقوق البسطاء من الناس. كيف لا والأمر يتعلق بأشخاص وُلدوا وترعرعوا وبلغوا من العمر عُتيا بتربة هذه القبيلة وخبروا أدق تفاصيلها ، منهم من له أحفاد وآخرون لم يُرزقوا بأبناء ، «لا أوراق ثبوتية لديهم ، تثبت انتماءهم للحياة أصلا قبل الوطن» يعلّق بمرارة أحد المنحدرين من القبيلة ممن قضوا معظم حياتهم في ديار المهجر؟ وضع صحي في انتظار «الإسعاف» في سياق اللااهتمام ، دائما ، «يغرق» الوضع الصحي بالمنطقة في «بحر» من النقائص والاختلالات غالبا ما كانت «فاتورتها» باهظة هزّت كيان العديد من الأسر ، التي وجدت نفسها يوما ما أمام «استعصاء» إنقاذ أحد أفرادها ، داهمتْه وعكةٌ صحية على حين غرّة ، أو باغتته لسعةُ عقرب أو لدغةُ ثعبان . يقول «ع. أ» تجاوز العقد الستين من عمره :« الخدمات الصحية المقدمة في مختلف المستوصفات لا تستجيب للحاجيات المُلحة للساكنة، تعلّق الأمر بالصغار المحتاجين لرعاية خاصة ولتتبع دقيق ، أو بكبار السن المعرّضين لشتى أنواع الأمراض المرتبطة بمرحلة الشيخوخة» ، مضيفا «كم من مرة طُلب مني نقل أحد المصابين / المرضى على عجل ، على متن سيارتي الخاصة ، في ساعة متأخرة من الليل إلى مستشفى اغرم ، بالنظر إلى خطورة الحالة ( امرأة على وشك الولادة ، طفل حرارته مرتفعة يتنفس بصعوبة ... على سبيل المثال لا الحصر ) ، وبعد أن نقطع حوالي ثلاثين كيلومترا نصطدم بغياب الطبيب وبالأبواب الموصدة، وحتى إذا ما تم الاستقبال نوجّه إلى مستشفى المختار السوسي بتارودانت أزيد من ثمانين كيلومترا ، لتبدأ معاناة البحث عن سيارة الإسعاف وسائقها الغارق في النوم ، إذا ما كان حاضرا، ثم عمّن يؤدي تكلفة المازوط»! توقف المتحدّث قليلا ، قبل أن يواصل سرد «قصص» المعاناة والمحنة: « مستوصفات القبيلة تعيش تحت وطأة الخصاص ، سواء في ما يخص العنصر البشري، أو ما يهم المستلزمات الطبية ، من معدات وأدوية ، مع العلم أن هناك بعض الممرضين والممرضات يبذلون مجهودات جبارة من أجل مساعدة المرضى والتخفيف من آلامهم ، ولكن كثيرا ما يصطدمون بعائق غياب التجهيزات الضرورية للقيام بالواجب في أحسن الظروف». بخصوص الموضوع ذاته، أشار«ح» في الثلاثينات من العمر إلى « أن هناك مستوصفات بُنيت وعقدت عليها الساكنة آمالا عريضة لتحسين مستوى الخدمات ، لكنها ظلت معطّلة تفتقد للفعالية المطلوبة ، كما هو الحال بالنسبة للمستوصف المشيّد على بعد أمتار قليلة من مقر الجماعة ( إيماون) بتراب [ازدْغاص] »، متسائلا « ما معنى إقامة مرفق صحي وصرف مبالغ مالية عليه دون تزويده بالطاقم الطبي والتمريضي الكافي والمؤهل، وتجهيزه بأحدث الوسائل مع توفير الحراسة نهارا وليلا؟» ، « ألا يعد هذا الأمر مؤشرا على الأعطاب التي يعاني منها تدبير شؤون مواطني هذه المنطقة، باعتبار أن الخدمات الصحية ينبغي أن تكون ضمن دائرة اهتمام الماسكين بتسيير الجماعة ؟». لغةُ التساؤل نفسها طبعت حديث شاب ( في أواسط العشرينات) عن سيارة الإسعاف بالنفوذ الترابي للجماعة ، موضحا أن « سيارة أولى اقتناها أبناء المنطقة العاملون بفرنسا ، حيث تكلفت جمعيتهم بتوفيرها من أجل أن تكون في خدمة الساكنة، لكن التهور وعدم تقدير المسؤولية حولاها إلى «هيكل حديدي» كثير الأعطاب نتيجة الاستعمال المكثف في قضاء أغراض شخصية ، ليلا ونهارا ، والخوف أن تتعرض سيارة الإسعاف ، التي زُوِّدت بها الجماعة، مؤخرا ، في إطار مشاريع المبادرة الوطنية للتنمية البشرية ، إلى نفس المصير دون أن يستفيد من خدماتها المرضى لمدة طويلة»!؟ نقائص بالجُملة «تُفرمل» المجهود التربوي عملية «تشريح» وضعية القطاعات الحيوية بالمنطقة ، تقود إلى الإطلالة على ما يعرفه قطاع التعليم من «تعثّر» تتجسد تمظهراته على أكثر من صعيد شكلت مبعثَ تذمّرٍ واستياء من قبل عدد من آباء وأولياء التلاميذ، وسببا لعدم الارتياح / الاطمئنان بالنسبة للطاقم التربوي والتدريسي الموزع على «الأقسام» المؤثثة لتراب القبيلة. « إن الحالة التي توجد عليها هذه الوحدات لا تستجيب للحد الأدنى من شروط القيام بالمهمة التعليمية ، خاصة في منطقة تفتقر لكل شيء ، يشرح ( ع. ز) في العقد الخامس من العمر فلا طرق ولا مسالك معبّدة تُوصل إلى بعض «الفصول الدراسية» المشيدة في تراب دواوير بعيدة عن الطريق الرئيسية الرابطة بين اغرم وأيت عبدالله التي تحتاج بدورها إلى إصلاح ! ، حيث تتضاعف المعاناة أثناء فصل الشتاء، سواء بالنسبة للمعلمين والمعلمات أو التلاميذ ، هؤلاء الذين غالبا ما يجدون أنفسهم مجبرين على البقاء في بيوتهم إلى أن تخفّ وطأة الأوحال الناتجة عن تساقط الأمطار ، وكذا موجة الصقيع، التي كثيرا ما تصحبها أمراض متنوعة في صفوف الفئات العمرية الفتيّة». ولمعاينة مظاهر التردي الذي يطبع العديد من البنايات المدرسية بالمنطقة ، زُرنا «الوحدة» المتواجدة بدوار «إغيرْ وابوض» ، حيث كانت البشاعة عنوانا للمكان ، الذي قيل لنا إنه تعرّض لغزوات ليلية من قبل بعض المنحرفين ، الغرباء عن الدوار ، فكانت الحصيلة تكسير زجاج النوافذ وإتلاف مُعدات ، على قلّتها ، وإلحاق الضرر بالبناية التي تعتبر في الآن ذاته مسكنا للمعلّم أوالمُعلِّميْن ! سألنا بعض الآباء ، في أكثر من دوار ، عن حقيقة «تعليم البنات» بالمنطقة ، فكان الإجماع على أن العملية تعترضها العديد من العوائق ، بعضها مرتبط بالعقلية السائدة التي مازالت تنظر لتعليم الفتاة بغير قليل من الرّيبة وعدم اليقين ، وعوائق أخرى تعود للفقر المُدقع الذي يُرخي بظلاله القاتمة على غالبية الأسر المتعددة الأفراد ، كما يُستشفّ من كلام (م. أ) : «أنا أبٌ لأربعة أطفال ( بنتان وولدان ) ، أقضي اليوم كله في الخلاء، أرعى قطيعا من الأغنام والماعز ، مدخولي متوقف على بيعي لخروف أو معزة بين الفينة والأخرى، خصوصا إذا رزقنا الله بالمطر فتوفّر الكلأ ، وبالتالي فأنا لا أستطيع مواكبة مصاريف الدراسة بالنسبة لأبنائي ، خاصة إذا حالفهم النجاح وبلغوا مستوى الإعدادي ، الذي يستوجب الانتقال إلى مركز اغرم... ابنتي الصغرى كانت لها رغبة كبيرة في متابعة دراستها ولكن [الغالبْ الله]»! وبشأن ما يرتبط بأوضاع الفتيات النساء عموما دائما ، قال (ح ) : « إن نساء القبيلة يعانين على كافة المستويات ، انطلاقا من القيام بالأعمال المنزلية التي تبدأ في ساعات مبكرة من الصباح ولا تنتهي إلا في أوقات متأخرة ، إلى جانب البحث عن الحشائش في الخلاء البعيد ومهام تتباين من فصل إلى آخر، وحتى بعض المشاريع المحتشمة التي قيل عنها الشيء الكثير، ظلت معطلة ودون فعالية تذكر ، كما هو حال «النادي النسوي»، المبني في سياق مشاريع المبادرة الوطنية ، غير بعيد عن مقر الجماعة»! حين «يعِزّ» الوصول إلى قطرة ماء من الإكراهات البنيوية التي تئن تحت ثقلها مداشر القبيلة ، قلّة التساقطات المطرية وتوالي «الجفاف» ، الذي ازدادت حدتة في العشرية الماضية، لدرجة أضحى الحصول على الماء الشروب يستوجب قطع مسافات بعيدة بواسطة «قوافل الحمير» ارتفعت أسهم هذه الدابة مؤخرا بشكل غير مسبوق! التي تسوقها النساء من مختلف الأعمار ، متحملات أعباء إضافية تزيد من معاناتهن اليومية . ندرةٌ تضطر بعض الأسر لها أبناء يعملون خارج الوطن أو بالمدن إلى شراء المياه المستخرجة من آبار خصوصية [ دوار تكْراكر نموذجا] بحوالي 250 درهما للحمولة التي توصلها الشاحنة الصهريجية التابعة للجماعة 50 درهما لصاحب البئر والباقي للجماعة إلى «المطفيات» المنزلية، التي يتم اللجوء إلى استعمالها حين يعِزّ الحصول على قطرة ماء! معضلة شُح الماء الصالح للشرب بالمنطقة ، شكل موضوع حديث ( ط . أو) يمارس التجارة في الأسواق :« مادامت آثار الجفاف أضحت حاضرة بقوة في حياة الساكنة ، كان من المفروض أن ينتبه القائمون على الشأن الجماعي لهذا المعطى البنيوي ، ويعملون على تشجيع عمليات حفر الآبار وإصلاح تلك التي في حاجة إلى إصلاح ، وذلك في إطار مشاريع المبادرة الوطنية للتنمية البشرية ، التي تستهدف النهوض بالمستوى المعيشي لساكنة العالم القروي» ، مضيفا « هناك دواوير عدة كانت بها آبار حفرها الأجداد قبل أن تُترك عُرضة للإهمال ، لا تحتاج سوى إلى التفاتة جدّية وتوفير ميزانية للتوسيع والترميم » . غزوات «الحلّوف» المدمرة! في ظل الإحساس بالعجز أمام قسوة «الجفاف»، وثقل تداعيات التدبير المختل لشؤون المنطقة ، وجدت الساكنة ، المغلوبة على أمرها، نفسها أمام غزوات «كائن» غريب عن «جغرافية وتاريخ» القبيلة، يعيث فسادا وإتلافا في كل ما تزرعه أيادي الفلاحين البسطاء من خضروات وأغراس... ولا أحد يستطيع التصدي له باعتبارأن المُساءلة المحتملة من قبل « بوغابة»! في انتظار كل من تجرأ على الدفاع عن «سبل معيشته» المتواضعة؟ إنه الخنزيرالبري ، أو «الحلّوف» ، كما تتناقله الألسن بالمنطقة ، الذي حول «سكينة» المنطقة ليلا إلى «عربدة» حرمت العديد من الفلاحين من نعمة النوم ، بعد أن أضحوا مطالبين بالتناوب على حراسة «حقولهم» ، يقول « م. و» : « رغم علم المسؤولين بمحنتنا مع «الحلوف» ، حيث تسبب لنا في أضرار لا تعد ولا تحصى ، فإن لا أحد تدخل بشكل صارم لإنهاء هذه المعاناة ، من خلال مساعدتنا على القضاء على هذا «الوحش» ومدّنا بوسائل حماية مغروساتنا ودجاجنا من هجماته المتكررة ، التي تصل حد العبث بمياه بعض العيون المتواجدة في سفوح الجبال»! تطلع إلى الأفضل.. إنها مجرد إشارات لم تُحِط بكافة أوجه النقص والتدهور، التي تشكل العنوان الأبرز لتمظهرات الهشاشة، في مختلف مناحي «المعيش اليومي» بالمنطقة ، هشاشةٌ يرى العديد ممن أتيحت لنا فرصة الحديث إليهم من المستقرين بدواوير القبيلة أو المهاجرين أنها ليست قضاء وقدرا ، ولكنها حصيلةُ تدبيرٍ «عاجزٍ» وعقيمٍ للشأن المحلي بهذه الجهة ، التي لا تشكل في نظر «مُخططي» الخرائط الإنتخابية ، جماعية أو برلمانية ، سوى رقم لاحتياطيٍّ محتمل من الناخبين، تُسلّط عليه كاميرا « الحديث المناسباتي» في تواريخ معدودات قبل أن يلفّه التنكر والنسيان إلى أن تدق أجراس استحقاق انتخابي جديد! وضعٌ يأمل أبناء المنطقة ، أن تُحرَّك «أطرافُه» الجامدة في أقرب وقت ممكن ، من خلال جعلها تستفيد من أكبر عدد من مشاريع المبادرة الوطنية للتنمية البشرية الناجعة دون أية انتقائية بين الدواوير وإشراك الشباب الحاملين لتصورات بنّاءة بمقدورها زرع أسباب الأمل والتطلع إلى غد أفضل ، بدل إقصائهم ودفعهم إلى «معانقة» اليأس المدمّر.