دخل لقلع حضرة الزجل مثلما يدخل مختلج إلى طقس الجذبة..بغير إرادته تقريبا..مدفوعا بحمية الارتباط الأكثر عمقا بالجذور دائما.. ومع أنه كان من بين أواخر الملتحقين بقافلة الزجالة المغاربة الراسخين..فإن ما خسره في الزمن ربحه في التميز الفني والاختيار الصائب لأسلوبه الخاص الذي عاد بهذا اللون التعبيري إلى منابعه الشعبية القائمة في أصل نشأته..أي إلى منطقة تنأى به عن الحداثة المصطنعة والتجريب المخل..وذلك بالاعتماد الكلام الرْباعي الذي يحتفي بالإيقاع والقافية ويجعل من التقاليد الشعرية حدا فاصلا بين الإبداع الأصيل والمغامرة غير محسوبة العواقب.. لقد جاء لقلع إلى حلقة الزجل من أعماق الساحة العمومية التي كانت مدرسته الأولى في مغازلة الكلمة واستدراج القوافي إلى مضمار الإبداع..استمع طويلا لرواة السيرة وحَفظة الأراجيز في سوق اشطيبة وجوطية العالية وتأمل في القصائد الرعوية ورباعيات المجذوب وأهازيج الرما قبل أن يشمّر عن ساعده ويقوم بالتصدّى لمهمة النظم مُنصتا لنبض الشارع الهادر وهموم المشترك اليومي..ولذلك جاءت نصوصه محتفية بكل ما حميمي وأصيل ومعبرة عن ذائقتنا وناطقة بمخزون ذاكرتنا الشعبية ومتغلغلة في عوالم الأسواق والحلاقي وطوائف التصوف الشعبي مثل كناوة وهداوة وقس على ذلك من مظاهر الانتماء لماض إثنولوجي صار اليوم أكثر من بعيد .. وهذا القرب من الواقع الاجتماعي هو الذي أبعده بداهة عن الخطابية والشّعارية وخلّصه من نزعة اتخاذ فن الزجل مطيّة للتبشير بأوهام سياسوية أو أهداف رخيصة تقيم في مجرة أخرى لا علاقة لها بالتربة المحلية والجذور الثاوية في أعماق الوجود .. ومن هنا كان الانكباب الدائم للزجال على مشروعه واستغراقه في كدح يومي لا يتوقف يكرّسه لإنجاز قصيدة لا تنتسب سوى لنفسها..أي بقدر ما تحققه من اقتراب من الواقع المعيش تسجّله في تميز الصياغة وفرادة التعبير .. وهو من هذه الناحية قد عُرف بجهوده الحثيثة لتطويع لغة عامية تتغذى على الانزياح والاختراق للمألوف والرائج وتتحول بالتالي إلى أداة انقلابية للتعبير والإقناع فيما ترفع الصوت احتجاجا وتصدع بالرغبة الجارفة في الانحياز إلى الفلول العريضة من أبناء هذا الوطن. وأخيرا فإن اعتماد الشاعر على الذاكرة في صوغ وصيانة القصيدة بعيدا عن سلطة التدوين، يعطي لتجربته طعم الممارسة الفطرية المحافظة على الانسجام والاتساق بين مصدر الإبداع (الزجال) ومآله (المتلقي أو القارئ)..ثم إن إلقائها في الحشود من غير حاجة إلى الاستعانة بالورقة، التي قد تشوش على الزجل طقس التلاوة والإنشاد، يحقق هذه الغاية الرائعة في التلقي والتواصل التلقائيين. لقد عمل لقلع طوال حياته إطارا في مهنة التعمير والمحافظة العقارية، أي على مبعدة بما يكفي من مدار الثقافة والإبداع، وهذه المسافة سوف تتشخّص من خلال استقلاله في اختياره لموضوعاته واحتفائه بالمقاربة الشعبية المنفلتة من قيود الثقافة العالمة والحذلقات المستهجنة..مما يضعنا أمام زجال مغربي من طينة خاصة..يسير مع الجموع فيما يحافظ على خطوته الخاصة..فلتمض يا صديقي في مشروعك بكل التصميم والكد المعروفين عنك..وسوف تلاقي مزيد التوفيق والتألق..