هو رجل ثقافة واسعة ومتنوعة، وهو مشغول دائما بتوسيع هذه الثقافة وجعلها بلا حدود، لذلك يسعى دائما إلى القراءة أكثر والاطلاع والمعرفة، وربط علاقة دائمة بالمعرفة والمعرفة الجديدة منها على كل المستويات. وقد أنقذه في ذلك، ولنقل ساعدته عدة عوامل أذكر منها لا على سبيل الحصر: أولا ارتباطه بالتعليم، ففي التعليم صحيح أننا نعلم أو ندرس أجيال وأجيال ولكن في المقابل نتعلم أكثر وفي كل مرة. ثم كثرة السفريات داخل المغرب وخارجه، فالسفر منبع من منابع المعرفةواكتشاف البقاع والآخر، أكان يشبهنا أو يختلف عنا. كل هذا منبع أصيل للثقافة والاكتشاف. كذلك ابتعاده عن السياسة بمفهومها البسيط والحقير أحيانا، الذين يمارسون السياسة في المغرب، إلا القليل منهم، يمارسونها فقط للاغتناء وعدم الإخلاص لأي مبدأ من مبادئهم. قديما قيل إن السياسة علم اللاأخلاق. ونحن نعيش اليوم هذا بدون ملل ولا كلل، ولا حتى استغراب كأن الأمر كان ينبغي أن يكون هكذا منذ البداية. وأخيرا وليس أخيرا ارتباطه الوفي بالمسرح. المسرح يختلف عن كل الفنون الأخرى، لعدة اعتبارات خاصة بالنسبة للذي اختار عن طواعية أن يكون مؤلفا مسرحيا. فهو من جهة يلاقي في كتاباته كل الأنماط البشرية الموجودة والغير موجودة في المجتمع، ثم أنه يعمل بمفرده في البداية، ثم لأمر ما يصبح وسط عمل جماعي هو أصله ومنبعه، وهذه إحدى معجزات المسرح، فلا هو فردي بالمعنى الدقيق للكلمة، ولا هو جماعي بالمعنى المتداول للفعل الجماعي. الكاتب المسرحي يكتب لوحده حتى لو افترضنا أنه يكتب عملا تحت الطلب، ثم يكتشف فيما بعد أن هذا العمل أصبح للآخرين ولو أنه بشكل من الأشكال مازال عمله. إن الكاتب المسرحي في الأصل رجل كتوم لا يتحدث إلا قليلا، ولكنه في الحقيقة هو الذي يتحدث أكثر من خلال الآخرين الذين يقرضونه أصواتهم وأجسادهم إن لم نقل أرواحهم لتجسيد ما كتبه المؤلف. هل يعني هذا أن الكاتب المسرحي يكون دائما على صواب؟ لا ثم لا، لأن شخصياته لا يمكن أن تستقيم إلا إذا كان هناك تناقض بينها. أحيانا لكي نسهل علينا المهمة نقول إن هذه الشخصية أو تلك تتحدث باسم المؤلف. هذا غير صحيح لأن المؤلف هو الذي اخترع كل الشخصيات بتناقضاتها وأعطى لكل واحدة دورا، وأحيانا ولكي تنجح اللعبة لابد من تناقض من هنا أهمية وفرادة المؤلف المسرحي، أتوقف لأقول بأنني لا أتحدث بشكل عام ولكن أتحدث عن المؤلف الذي يكتب بوعي. على عكس شخصياته، السي محمد بهجاجي لا يقيم كثيرا هذا التناقض في حياته الخاصة. فعلاقاته هي علاقات وفاء وعلاقات صداقة وصداقات عميقة، وهي كذلك حوار مستمر، والحوار من سوء الحظ لا يعني دائما أن نتفق على كل شيء. وإلا فليس هناك من حوار، نحن لا نستطيع أن نتحاور إلا مع الذين نختلف معهم. ولكن ليس من الضروري أن نختلف في كل شيء، فللاختلاف حدود وللاتفاق أكثر من حدود. هكذا يكتب ويحدثني عن أعمالي المسرحية، ولا يجد لا الوقت ولا الأريحية ليكتب أو يتحدث عن أعمال يراها دون أن تصل لتكون موضوع اهتمامه وتفكيره. من هنا جاء هذا الارتباط الوثيق بمسرح اليوم وبرئيسته وممثلته الأساسية السيدة ثريا جبران، ومن هنا تحول مع الأيام وألخيميائها من منتقد ومتتبع لأعمال مسرح اليوم إلى مؤلفها الأساسي. ما ثبت خلال تجربة مسرح اليوم أن كاتبا مسرحيا كتب بحجم ما كتبه محمد بهجاجي لمسرح اليوم، ولولا ظروف توقفنا التي تعرفونها بحكم أن السيدة الفاضلة ثريا جبران أصبحت وزيرة للثقافة، لكنا قد ذهبنا بعيدا بحكم كل المشاريع التي كانت بحوزتنا وكنا نفكر بجد في إنجازها. كذلك إن كتاباته حول المسرح بشكل عام جاءت شفافة ومعبرة عن وعي وعمق في التفكير، ودقة في التمييز، ورغبة في أن لا تمر المناسبة دون أن نسجل هذا العنصر أو ذاك من العناصر التي تقوم عليها كتابتنا المعاصرة، ويهدف إليها ككل هذا التفكير في الكتابة وجدواها اليوم في هذا العالم المتغير وهذا المغرب المغترب. لقد كان لي وافر الحظ أن أتابع كل هذه الكتابات وأكتب عنها أحيانا، ليس من باب المجاملة ولكن أصلا من باب التحاور العمومي إن صح التعبير، وإبداء الرأي الذي ليس دائما هو رأي محمد بهجاجي، وهذه هي أهمية الحوار. وإلا ما جدوى الحوار في الثقافة كما في الأمور الأخرى؟ إنني جد مسرور بهذا اللقاء، ومعتز بحضوره، وأتمنى أن يظل الحوار بيننا لأنه هو وسيلتنا الوحيدة لنسمو أعلى من أنفسنا، ومن ثقافتنا التي ستظل جد محدودة بدون حوار. هنيئا مرة أخرى على هذا اللقاء الثقافي الأخوي بامتياز، هذا اللقاء بالأستاذ محمد بهجاجي الذي يستحق أكثر من لقاء. *ألقيت هذه الكلمة بمناسبة التكريم الذي نظمته جمعية ملتقى الثقافات والفنون على شرف الأستاذ محمد بهجاجي يوم 3 مارس 2018 بدار الثقافة مولاي العربي العلوي بالمحمدية