من ضمن المحتجين الأنغولي جوناس سافيمي، القريب من الصينيين أكثر من الكوبيين، لم يتردد في مخاطبة غيفارا مباشرة بالقول لماذا يرفض اختياره:«تقولون إن الكونغو تكتسي أهمية استراتيجية حيوية، هذا صحيح، ولكن عليكم أن تفهموا أن الامبرياليين الذين تريدون مواجهتهم يعرفون ذلك أيضا. تريدون إرسال جميع الحركات إلى الكونغو؟ ستتم تصفيتهم جميعا، وإذا ما تمت تصفيتهم، سيتم القضاء على الحركة الثورية الأفريقية بأكملها، ومن أجل تحرير فعلي لكل بلد، لابد أن نقاتل كل واحد في بلده».لم يهتم غيفارا بما قاله سافيمي، فقط تواعدا على الحديث مجددا حول الموضوع. الانقسامات داخل الحركة الثورية الكونغولية لم تكن بسيطة، وزادت من تعقيد تجسيد المشروع في الكونغو، فقد انقسمت العائلة السياسية الموروثة عن الزعيم باتريس لومومبا. في سنة 1964، وبعد 3 سنوات على اغتيال الزعيم التاريخي الكونغولي، شكل رفاقه حكومة مؤقتة في ستانلي فيل (كيسانغاني لاحقا)، واستفادوا في البداية من دعم ومساندة العديد من الدول الأفريقية، من ضمنها تانزانيا التي أصبحت إلى جانب مصر، محطة أساسية للحركة الوطنية الكونغولية. وكان عبد الناصر وبن بلة أهم مسانديها، وكان المهدي بن بركة مكلفا بتنسيق نقل الأسلحة الثقيلة جوا غرب جنوب السودان، ومن هناك كانت الشاحنات تنقل السلاح إلى ستانلي فيل. في ختام جولته الأفريقية (7 دول) شرح غيفارا علانية تصوره لأفريقيا خلال ندوة صحفية بدارالسلام «خلال جولتي عبر سبع دول أفريقية، أنا على يقين أنه بإمكاننا خلق جبهة مشتركة للكفاح ضد الاستعمار والامبريالية..»، لكنه كان يعلم أن الأمر معقد جدا ولا يريد الإقرار بذلك، والدليل ظهر من خلال الخلافات الواضحة التي ظهرت بينه وبين زعيم المكون الثالث لحركة التحرير ضد الاستعمار البرتغاليالموزمبيقي ادوارد موندلان، زعيم فريليمو، حيث كان يعتبر أن التصور الماركسي التقليدي لا ينطبق على بلاده، وأن الطبقة البروليتارية لا تستطيع قيادة طليعة حرب التحرير لأنها غير موجودة في الموزمبيق، البلد الذي يعيش فيه أساسا الفلاحون. وهو تصور قريب جدا من تصور اميلكار كابرال الذي قاد بنجاح تحرير غينيا بيساو والرأس الأخضر. والأكثر من ذلك كان موندلان يعتبر أن كوبا ليست مثالا جيدا بالنسبة لستة ملايين موزمبيقي، إضافة إلى أن حركة التحرير الموزمبيقية كانت تواجه مشكلة ربما بعيدة عن تصور غيفارا، وتتمثل في التصور «العنصري ضد البيض»، ولذلك كان موندلان وزعماء فريليمو الآخرين (مارسلينو دوس سانتوس وأكينو دوبراغانسا وسامورا ماشيل يدعون الى موزمبيق حرة متعددة الاثنيات. ولسوء حظ الزعيم الموزمبيقي كانت سيرة حياته كيتيم تبناه راهب سويسري، وزواجه من أمريكية، سببا في اتهامه من طرف الكوبيين بالتخابر مع أمريكا. وفي المقابل كانت ترى فيه البرتغال وحكومة بريتوريا العنصرية رجلا من طينة الزعماء الانفصاليين الذين يجب تصفيتهم.. وبعد أيام على لقائه غيفارا، أرسلت المخابرات الجنوب أفريقية صورة للقائه مع غيفارا في دار السلام. و لذلك فالرجل رغم أنه على خلاف مع غيفارا، اعتبر مواليا له، و أصبح هدفا رئيسيا وجب تصفيته مثل اميلكار كابرال، وبالفعل تم اغتياله في دار السلام يوم 3 فبراير 1963 بواسطة طرد ملغوم مرسل من لشبونة من طرف عملاء مختلفين تعاهدوا على محاربة قيام منظمة القارات الثلاث بكل الوسائل. 19 فبراير 1965/ القاهرة. كان شي غيفارا يترنح في جناحه بأحد فنادق القاهرة مثل نمر في قفص... كان يتساءل هل سيخبر عبد الناصر بأنه عازم على قيادة مجموعة مقاتلين كوبيين إلى الكونغو. في اليوم الموالي كان قد حسم قراره، أثار المشروع مع الرئيس عبد الناصر لاختباره: «علينا أن نعمل أكثر من أجل الثورة العالمية وفكرت في المجيء إلى أفريقيا حيث نضج الوضع. سأذهب إلى الكونغو، لأنه حاليا النقطة الأكثر سخونة، وبمساعدة أفارقة التقيتهم في برازفيل ودار السلام ومشاركة كتيبتين من الكوبيين، اقترح ضرب الإمبرياليين في كاتانغا...». وكما شرح محمد حسنين هيكل، مستشار الرئيس المصري آنذاك، تساءل عبد الناصر ما إذا كان قد حصل خلاف بين فيديل كاسترو وتشي غيفارا بعيد رحيله عن كوبا إلى أفريقيا، و ربما الدخول في مغامرة خطيرة، لكن في الحقيقة ما كان لغيفارا أن يدرب قوة أفريقية في كوبا من دون موافقة كاسترو. ورد عليه عبد الناصر: «لا أريد التدخل في الموضوع، ولكن إذا كنت تريد أن تصبح طرزان جديد، أي أبيض جاء ليقود السود ويحميهم.. فهذا أمر مستحيل!» ورغم الإعجاب الذي يكنه عبد الناصر لغيفارا، فإنه ارتأى ضرورة إقناعه بالعدول عن المشروع: «عليك أن تتخلى عن فكرة الذهاب إلى الكونغو. فذلك لن ينجح، وكرجل أبيض، ستكون مكشوفا بسهولة، وإذا كان معك رجال بيض وآخرين، ستقدمون للإمبرياليين الفرصة ليقولوا بأنه لا فرق بينكم وبين المرتزقة..». إلا أن عبد الناصر وافق على تقديم المساعدة للثوار الكونغوليين، كما فعل بن بلة ونيريري، ونكروما وسيكوتوري وحتى جوموكينياتا. لكن بدون تفاصيل عن الدور المحتمل لغيفارا، ولذلك قبل أن يغادر القاهرة التٍقى مرة أخرى أحد مسؤولي الحركة الوطنية الكونغولية في شخص غاستون سوملالو، وزير الدفاع في حكومة المنفى، الذي كان يعيش متنقلا بين القاهرة ودار السلام، كان سوملالو أكبر سنا من كابيلا ولا يوحى حسب غيفارا بأنه من طينة الرجال القادرين حقا على قيادة الشعوب، لكنه دعاه إلى كوبا لحضور مؤتمر منظمة القارات الثلاث. وجه الكوبيون الدعوة للعديد من الشخصيات المصرية لحضور المؤتمر من أجل إضفاء صبغة خاصة عليه - مساندته القوية من طرف حركة عدم الإنحياز - حتى يظهر كطريق ثالث مناهض للإمبرايالية. ومن ضمن تلك الشخصيات المصرية خالد محي الدين، أحد «الضباط الأحرار» الذين قادوا انقلاب 1952 رفقة محمد نجيب وجمال عبد الناصر، وكان محي الدين يمثل اليسار الناصري وله علاقات قوية في الخارج. هل سيقبل محي الدين ترؤس اللجنة السياسية لمؤتمر منظمة القارات الثلاث المقبل بعد أقل من سنة؟ السؤال سبق أن طرحه بن بركة الذي كان يسكن في القاهرة والذي التقى غيفارا عدة مرات في بداية 1965، كما تمت دعوة حسنين هيكل المستشار المقرب من عبد الناصر ويوسف السباعي، أحد الضباط الأحرار والمسؤول عن السكرتارية الدائمة لمنظمة التضامن مع شعوب أفريقيا وآسيا، لحضور قمة القارات الثلاث في هافانا، هذا الحضور الوازن للمصريين سيكون وسيلة جيدة لإبراز مصر الناصرية، خاصة وأن عبد الناصر كانت له علاقات قوية مع العديد من رؤساء الدول مثل الجزائري بن بلة واليوغسلافي تيتو، وله علاقات متواصلة مع نجم قمة باندونع سنة 1955، الصيني شوانلاي... غادر شي غيفارا أرض الفراعنة متوجها إلى الجزائر التي زارها للمرة الثالثة في فترة وجيزة، ولكن ستكون آخر ظهور علني له، هل كان يتوقع ذلك؟! (يتبع)