يوم 24 يناير، عاد تشي غيفارا مجددا إلى الجزائر، بعد جولة في العديد من الدول الأفريقية، ليخبر صديقه بن بلة بالنتائج، وربما أخبر بهذه المناسبة بأن المهدي بن بركة نجا بأعجوبة من محاولة اغتيال بجنيف، بينما كان عائدا من عشاء مع أصدقاء جزائريين.. المهدي عاد إلى القاهرة لرؤية عائلته أعد مقالة نارية ستنشر بعد ذلك في مجلة «الطليعة» اليسارية المصرية بعنوان «منظمة الوحدة الأفريقية أمام امتحان الكونغو»، والتي يدعو فيها منظمة الوحدة الأفريقية، التي ساهم في تأسيسها، إلى التحرك، وينتقد فيها، في نفس الوقت، سياسة التعايش السلمي التي يرددها السوفيات. بمعنى آخر، في بداية سنة 1965 كان أبرز مهندسي منظمة القارات الثلاث، المهدي وغيفارا، متقاربين من حيث وجهات النظر بخصوص التنافس بين الصين و الاتحاد السوفياتي. و هو ما يطرح في ظل هذا الانتقاد الواضح أكثر فأكثر لموسكو، قضية علاقتهما مع الصينيين. وهنا وقع حدث لم يكن أحد يتوقعه، وهو الذي سيقطع هذه الجولة الأفريقية، فيديل كاسترو وتشي غيفارا، وكانا دائما على اتصال دائم لا سيما عبر خمس سفارات كوبية في أفريقيا، قررا أن يقطع غيفارا جولته الأفريقية والتوجه إلى الصين للتباحث مع قادتها. هذا الحدث طرح عدة أسئلة: هل من أجل ضمان الجبهة الأفريقية، لابد من ضمان دعم بكين والعديد من الجماعات الأفريقية الموالية لها في الكونغو وأنغولا وغيرها؟ هل يتعلق الأمر بالحصول على أسلحة صينية ومعدات اتصال يمكن ايصالها عبر الجزائر أو مصر؟ هل يتعلق الأمر بالطلب من ماوتسي تونغ ورئيس وزرائه زهوانلاي ما إذا كانا مستعدين لدعم منظمة القارات الثلاث كما أوحيا بذلك من قبل للمهدي بن بركة؟ ولأن غيفارا يعتبر عموما كرجل له قرب أكثر من الصينيين، فقد تم اختياره لقيادة الوفد الكوبي لهذه الزيارة. وعلى العموم فإن الصينين لا يمكن إلا أن يعبروا عن ارتياحهم لما طالب غيفارا أمام الأممالمتحدة بضرورة منح الصين مقعدا دائما داخل الأممالمتحدة بمناسبة خطابه أمام الجمعية العامة في دجنبر، ولو أن الصينيين يعتبرون هذه الأممالمتحدة محفلا امبرياليا، ومع ذلك عندما غادر غيفارا ورفاقه بيكين في اتجاه كوريا الشمالية كان القادة الصينيون متأكدين من أنه خلال الملتقيات الدولية القادمة (القمة الآفروآسيوية في ماي، مؤتمر عدم الانحياز بالجزائر في يونيو أو مؤتمر منظمة القارات الثلاث - لن ينحاز فيديل كاستر ورفقه بالضرورة إلى موسكو في صراعها الايديولوجي مع بيكين. 11 فبراير 1965 دار السلام كانت أجهزة الدفاع والمخابرات الكوبية تقدر تكلفة تكوين وتدريب متطوع ثائر بحوالي 10 آلاف دولار للفرد، ولذلك بدأت القيادة الكوبية تتلكأ في استقبال هذا العدد الكبير من المتدربين القادمين من مختلف بقاع العالم، إضافة إلى أن شي غيفارا كان يعتبر أنه من الأفضل تكوين وتدريب المقاتلين في الميدان أي في البلد الذي سيقاتلون فيه، ومن ثم برزت فكرته الداعية إلى تأسيس مدرسة نموذجية واحدة على الأقل في كل قارة: الأولى لاتينية في بوليفيا والثانية افريقية جنوب الصحراء في الكونغو وفي كل حالة يكون البلد الذي وقع عليه الاختيار هو مركز الثورة في القارة بوليفيا لها حدود مع 5 دول والكونغو له حدود مع 9 دول. كان صعبا تبرير خفض الميزانية أمام العدد الكبير من الرفاق الأفارقة الذين اجتمع بهم غيفارا فور وصوله إلى دار السلام بتانزانيا، حيث استقبله بحرارة صديقه الرئيس جوليوس نييريري الذي لا يمكن أن ينسى أن الكوبيين وأيضا الألمانيين الشرقيين ساعدوه على الوصول إلى السلطة ونجاحه في دمج المستعمرات البريطانية تنجنيفا وجزيرة زانزيبار.. في سفارة كوبا، كان شي غيفارا يستشيط غضبا وهو يرى مجموعة من الثورا يصيحون مثل نقابيين غاضبين عندما لا يستجيب رب العمل لمطلب رفع الأجور ويطالبون برفع منح التطوع في الوقت الذي يتصور غيفارا أنه يتكلم مع «ثوار أحرار» كما كان يسميهم كل الرفاق من مختلف البلدان والإثنيات كانوا يريدون زيادة المنحة والتدريب في كوبا، لن خطاب غيفارا أمامهم كان مثل ماء بارد فوق رؤوسهم. «رفاقي، أفهم ما يشغلكم، ولكن من خلال تجربتنا برزت هذه الحقيقة: كلفة تدريب شخص في كوبا يكلفنا غاليا من حيث الوقت والمال دون أدنى ضمانة بأنه سيكون مقاتلا مفيدا للحركة، انظروا إلى تجربة تورثنا: في سيراماسيترا تمكنا تقريبا من تكوين جندي واحد من أصل 5 تلقوا تدريبا، بمعنى مقاتل جيد واحد من أصل 5 متدربين.. ومرة أخرى في ساحة المعركة..». وبينما كان غيفارا يواصل عرضه، كانت وجوه الحاضرين تتجهم أكثر فأكثر، شرح لهم أن «الجندي الثائر الجيد لا يتلقى تكوينه في أية أكاديمية، وأن الدبلوم لا يفيد في شيء. بل إن إنجاز الثورة هو الذي يكون الثوري المحترف». كانت هذه الجملة تتردد كثيرا على لسانه، ثم يواصل «... وكأي محترف، فإن دبلومه الحقيقي يحصل عليه بممارسة مهنته، بقدرته على رد الفعل على الأعداء، وعلى المعاناة والهزيمة والمطاردة الدائمة وعلى مختلف الأوضاع المعادية.. ولذلك اقترح عليكم ألا يتم التدريب في كوبا البعيدة، بل في الكونغو القريبة...». فهم العديد من المناضلين الأفارقة أن المحور الاستراتيجي الذي يتصوره غيفارا بالنسبة لكل القارة يوجد قريبا منهم في الكونغو على الحدود الشرقية لتانزنيا، لكنهم لم يتمكنوا من استيعاب أنه كان من الأفضل تكوين «الجيش البروليتاري العالمي» - التعبير الذي بدأ غيفارا يستعمله أكثر فأكثر - بدل قتال كل واحد في بلده الأصلي. ويوضح غيفارا تصوره بالقول «إننا لا نواجه عدوا تافها، ولكننا نقاتل ضد الامبريالية الأمريكية التي تهدد بشكلها النيوليبرالي كل الاستقلالات الفتية لجميع شعوب أفريقيا أو تساعد على بقاء المستعمرات تحت رحمة الاستعمار، والحرب من أجل تحرير الكونغو تكتسي أهمية أساسية، والنصر أو الهزيمة ستكون له انعكاسات قارية...». تفرق المجتمعون في جو من البرود والصمت. حاول بعض المناضلين إقناع غيفارا بالعدول عن مواصلة مشروعه أو أنهم لن ينخرطوا فيه.. أغلب الحاضرين فهموا أنهم سيكونون مدعوين للمشاركة في مؤتمر منظمة القارات الثلاث وأنهم سيلتقون غيفارا مجددا في كوبا، وهناك ربما سيكون بإمكانهم التفاهم مع فيديل كاسترو وبعض المسؤولين الكوبيين الآخرين بخصوص ما لم يستطيعوا التفاهم حوله مع غيفارا. (يتبع)