الفصل الاول من الكتاب: الثلاثي بن بلة، غيفارا، بن بركة 16 أبريل 1964 سفارة كوبا، 21 زنقة عبد القادر سطمبولي المرادية الجزائر وصل بن بركة قبل الجميع، وفي انتظار المدعوين، كان يتحرك يمينا وشمالا في أركان القاعة الكبرى، كان يبتسم بسخاء وهو ينظر إلى المضيفات الشابات، وهن يضعن آخر باقات الورد وكذا أطباق الزيتون التي تزين الموائد، وكعادته دائما كان الرجل القصير دائم الحركة «الدينامو»، كما يلقبونه، اسم على مسمى، تارة مريض وغاضب، وتارة ضاحك ممازح، أكثر من رفيق يشبهه بالممثل لويس دوفينيز الذي حقق نجاحا كبيرا بدوره في فيلم «دركي سان تروبيز»، باستثناء أن الأدوار هنا مختلفة: الممثل كان يريد ضرب دركي العالم «الأمبريالية الامريكية» التي كانت تعد خططا خبيثة على طريقتها ضد الزعيم المغربي والمناضل العابر للحدود، لاسيما وأن المهدي بن بركة صدر في حقه حكم غيابي بالاعدام قبل شهر بتهمة «التآمر» ضد النظام الملكي. سلاح المهدي الرهيب، كما قال رفيقه الشاب، الطالب جان زيغلر، كان مثل «سكين سويسري بشفرات متعددة»، شفرات متعددة الاستعمالات: وسامة خارقة ممزوجة بحس رياضي لموازين القوى، حرص دقيق على التفاصيل لخدمة آفاق استراتيجية، نوع من الذكاء الخارق القادر على تلخيص الخريطة السياسية للعالم الثالث من خلال الذاكرة فقط، موقف صارم خلال اجتماع تليه على الفور لكنه تلطف الأجواء. في ذلك اليوم، داخل السفارة الكوبية، كانت المضيفات المصريات أول من تذوق مداعباته مثل حلويات تفيض بالكلمات العذبة وهن يرقن على الآلات الكاتبة نصوصا طويلة ومحاضر مسطرية لمنظمة تضامن شعوب افريقيا وآسيا... المهم هو إنجاز المهام الشاقة لهذه المنظمة التي تأسست في القاهرة سنة 1958 بمبادرة من السوفيات والصينيين والمصريين الناصريين، والتي كان المهدي بن بركة نائب رئيسها، مكلفا داخلها بصندوق التضامن والملف الاستراتيجي الذي كانت ذاكرة المهدي القوية تحتل فيه دورا حيويا: حفظ أرقام الشفرات البنكية في سويسرا وغيرها للحسابات التي تستخدم لتمويل تحرير العالم... كان «الدينامو» يعشق الشباب، إسعادهم وتلقينهم معنى الحياة، وإجبارهم على التفكير واستخدام العقل للتمكن من امتلاك مسيرة الزمن نحو التقدم، كان ذلك جانب الأستاذ فيه... كان إلى جانبه في ذلك اليوم، شاب حميد برادة، كان عمره 24 سنة، يرأس الاتحاد الوطني لطلبة المغرب محكوم بالاعدام مثل المهدي بتهمة اتخاذ موقف مساند للجزائر الثورية ضد بلدهم الأم في «حرب الرمال» في أكتوبر 1963. حرب الرمال هاته اندلعت قبل ستة أشهر، كان على «الخائنين» برادة والمهدي أن يغادرا المغرب، خاصة وأنه قبل ذلك وقعت محاولة اغتيال المهدي في حادثة سير. المنفى مقرونا بالحنين في الرباط بشارع تمارة، كان الشاب برادة يسكن أمام منزل بن بركة خارج دائرة العائلة، كان المهدي يبدو في نفس الوقت رجلا وحيدا، إنه كان محاطا بحرارة مناضلي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية إلى درجة أنه عندما كان برادة يزور بيت المهدي كان يجد نفس المشهد، ثلاثة أو أربعة أو خمسة مجموعات من المناضلين تشتغل، تحرر بيانات أو بلاغات أو مقالات صحفية، موزعين في كل غرف البيت، في الحمام والمطبخ... وكان المهدي يتنقل من مجموعات إلى أخرى يناقش يخطط ويرسم معارك الغد، يعيد رسم العالم... عالم النضال. وفي الرباط، في ذلك الوقت، وخلال مناقشة مع السفير الكوبي أنريكي رودريغيز لوشيس، أثار المهدي، ولأول مرة، فكرة توسيع التضامن الأفر وآسيوي ليشمل أمريكا اللاتينية، بمعنى آخر، فكرة تصور منظمة للقارات الثلاث. وقبل استدعاء السفير بسبب النزاع المغربي الجزائري، وصلت الفكرة إلى هافانا وأعجبت بها الأوساط الكوبية، خاصة وأنها تتطابق مع التصور الذي كان لفيديل كاسترو وتشي غيفارا عن قيام عالم ثالث متمرد. وكما كان المهدي يتنقل من مناضل في الاتحاد الوطني إلى آخر، يناقش ويستفسر، وكان يقوم بنفس الأمر مع الصحفيين، كا يتنقل بينهم، يزودهم بأخبار صحيحة أو خاطئة لاختبارهم أو معرفة ما بجعبتهم. كان يفاجئ الجميع سواء الأصدقاء المحيطين به أو الخصوم.. وابتداء من سنة 1964 تحول الخصم إلى عدو. عدو شرس لا يرحم منذ حرب الرمال، حيث رأينا أن الكوبيين وصلوا لنجدة ومساعدة الجزائريين! وهو ما يفسر التقارب القائم بينما منذ ذلك الوقت. فمنذ دخل جيش الحسن الثاني، في إطار استعادة أراضي المغرب في مواجهة مع جيش التحرير الوطني الجزائري، طلب بن بركة مساعدة خورخي سيرغير والملقب «بابيتو» السفير الكوبي في الجزائر، وأكد لغابرييل مولينا، مراسل وكالة بريسنا لاتينا، الذي كان إلى جانبه، قائلا «لن ننسى أبدا أن بن بلة زارنا يوما واحدا قبل أن تندلع أزمة الصواريخ سنة 1962، وأنه ساندنا كما لا يمكننا أن ننسى تضامن الجزائر مع كفاحنا! - إذا ماذا ستفعل؟ سأله الصحفي مولينا. - سأتصل فورا بمانويل بينير ولوسادا الملقب ب «صاحب اللحية الشقراء» (باربا روخا). ولوسادا لم يكن سوى رفيق سلاح سابق لبابيتو، ويشغل منصب رئيس مصالح المخابرات السرية الخارجية في كوبا (الإدارة العامة للمخابرات)، وهي الإدارة التي أسسها سنة 1962 في سن 28 سنة، متجاهلا التعليمات الأمنية الصارمة، ولم يستعمل خط التلكس المؤمن، والسبب أنه كانت بين الرجلين حميمية إلى حد أن بابيتو كان يستطيع التحدث إليه بكلمات مبطنة في خطاب هزلي مشفر يفهمه صاحب اللحية الشقراء فورا. «بسبب المرضى المتفشي هنا، نحتاج لممرضات بيدريتو، هل فهمتا». فهم بينيرو الرسالة: كان بابيتو يحيل على معركة خاضاها معا في السابق ضد الدكتاتور فولجانسيو باتيستا. «وممرضات بيدريتو» كانت تعني المدفعية التي كان ينقلها بيدروميريت إلى كوبا. كان يجب مساعدة الجزائريين، وكان بينيرو حساسا أكثر تجاه هذه القضية، خاصة وأن خاله باكو، كان مقيما في وهران، حيث لجأ هذا الفرع من عائلته الغاليسية النقابية إلى هناك منذ نهاية الحرب الأهلية الإسبانية. بعد ساعة ونصف، اتصل مدير المخابرات العامة الكوبية بصديقه السفير بابيتو، وكانت الابتسامة واضحة من صوته : »فيديل كاسترو مرافق سنرسل اليك ممرضاتك الصغيرة! استنفار عسكري في كوبا: تم تجميع 700 متطوع من مجموعة المدفعية الخاصة، تم ارسال نصفهم جوا عبر شركة طيران كوبا المدنية. وسيتم ارسال فيلق مكون من 22 دبابة سوفياتية t34 ومجموعة 18 مدفعا من عيار 122ملم وعدد اخر من قطع المدفعية المضادة للطائرات و القاذفات على متن باخرتين مع هدية عبارة عن شحنة 5000 طن من السكر.. وفي يوم 4 اكتوبر، يوم كان مقررا ان تتحرك التعزيزات الكوبية وقعت كارثة: ضرب اعصار فلورا الساحل الشرقي للجزيرة خلف وفاة 1400 شخص، ولم تستفد كوبا من هذه الكارثة بعد حتى كانت التعزيزات العسكرية الموجهة للجزائر بعد اسبوع تبحر عبر المحيط الاطلسي. وفي فجر يوم 22 أكتوبر حلت بميناء وهران. وبدأ الجنود الكوبيون، الذين تم تحويلهم للتو الى جنود جزائريين، بدأوا تحركهم نحو الحدود المغربية. وبشكل مفاجئ صادفوا في طريقهم وحدات فرنسية كانت بموجب اتفاقيات بين فرنساوالجزائر ولاتزال موجودة في الجزائر. ظل الجنود الفرنسيون محايدين في هذه القضية. لكن الامريكيين لم يكونوا كذلك واتخذوا موقفا مساندا للملكية المغربية. الكولونيل هواري بومدين رئيس اركان الجيش الجزائري، قال للصحفي مولينا الذي حضر لاستجوابه. في الصحراء الطائرات المغربية يقودها ربابنة امريكيون. الامريكيون حلفاء ملك المغرب فوجئوا بوصول هذا الجيش الكوبي الصغير. تعرفت عليه القنصلية الامريكية في وهران فور وصوله . رأى الامريكيون في ذلك يدا لموسكو. لكن في الكرملين كان خروتشوف ينتف ماتبقى من شعيرات رأسه. الروس وفروا هذه الدبابات شرط عدم استعمالها الا في حالة الدفاع في كوبا مرة أخرى لم يكن كاستروا ورفاقه يتحركون الا حسب اهوائهم. ولحسن الحظ، لم يضطر الملتحون الكوبيون للقتال لان منظمة الوحدة الافريقية فرضت على الحسن الثاني وبن بلة هدنة اصبحت نهائية في فبراير 1964 في هذه القضية سيبرم الكوبيون مؤقتا عقدا مهما لتصدير السكر الى المغرب. لكنهم اظهروا لافريقيا ان كوبا صديقهم. كان ذلك سلاليا اكثر منه سياسيا، فالكوبيون هم احفاد العبيد الذين كانوا يؤخذون من افريقيا. هذه الواقعة اظهرت معطى جديدا لا غبار عليه: التوجه العالمي للكوبيين لم يعد يقتصر فقط على امريكا اللاتينية. خاصة وانه قبيل فترة من حرب الرمال في يوليوز 1963 جاء شي غيفارا شخصيا الى الجزائر وخصص له استقبال رائع. والى جانب مشاركته في النقاشات حول الاقتصاد الاشتراكي والتسيير الذاتي التقى غيفارا بعض المستشارين من محيط بن بلة. كانوا يقترحون المساعدة في تأسيس هذه المنظمة الجديدة التي بدأ بالكاد اسمها يتردد: منظمة القارات الثلاث. وفي نفس اليوم 16 ابريل 1964 وبينما كان بن بركة منشغلا في الاعداد للمؤتمر، دخل شي غيفارا الى السفارة الكوبية رفقة صديقه سيرغيرا سفير كوبا وسيد المكان. كان غيفارا قد وصل قبل يومين الى مطار الدارالبيضاء حيث استقبله بن بلة بحرارة. داخل السفارة كان غيفارا في بيته و سيرغيرا كان صديقا حميما اكثر منه مساعدا. كان سفيرا شخصيا وشريك اسرار في كل المشاريع الاستثنائية التي يتحدثان فيها بين جولتي شطرنج كانا يلعبانها منذ معارك سيرامايسترا، ولعبة الشطرنج تمكن من الحوار والتبادل في صمت. وبمرح كبير ارتمى كل واحد في احضان الاخر. و جد في شخص المهدي نموذج دونكيشوت .كان الرجلان يتحدثان باللغة الفرنسية رغم ان الزعيم المغربي كان يحب تطعيم الحديث بكلمات اسبانية مرحة.. كان المهدي قد بدأ منذ فترة قصيرة تعلم لغة سيرافنتيس والتعامل مع اللهجات كان السلاح الحاسم للثوار المسافرين. فيما يخص المغرب كان غيفارا مهتما بحرب الريف لسنوات 1920 التي حدثه عنها الاسباني البيرتو بايو الذي حارب الموروس، ثوار الصحراء في اللفيف الاجنبي الاسباني. بايو الذي علمه مثل فيديل وراوول على فن حرب العصابات. بايو الضابط في الجيش الجمهوري خلال الحرب الأهلية الاسبانية والذي كان يشاركه أيضا في لعبة الشطرنج والذي نصحه بلقاء عبد الكريم الخطابي سنة 1959، كان أسير ثورة الريف وقتها يعيش منفاه في مصر، ولكل واحد أسطورته وأسطورة غيفارا كان هو عبد الكريم الذي توفي في القاهرة في فبراير 1963. تم الحديث بشكل مقتضب عن مشروع القارات الثلاث لكن المسائل التفصيلية تتطلب مشاورات بعيدا عن هذه الأجواء المرحة. بن بركة كان متحمسا للحديث عن الموضوع، كان يعتبره قضية شخصية في حدائق السفارة. كان الدبلوماسيون وأعيان النظام الجزائري وممثلو حركات التحرير الافريقية يتسابقون حول الرجلين، كان شي غيفارا منتشيا بذلك وهو ينفث سيغاره وهو ما أدهش الكثيرين علما أنه كان يعاني من الربو. ولكن أين هو الرجل الثالث زعيم الجزائر الثورية؟ في بعض الأحيان كان بن بلة يقود سيارته بنفسه من فيلا جولي، حيث كان يسكن إلى حي المرادية، حيث كانت توجد السفارة الكوبية غير بعيد عن رئاسة الجمهورية، كانت سفارة بايتو سيرغيرا محاذية لحدائق قصر الرئاسة، مما كان يسمح للرئيس عندما يكون في مكتبه بالوصول إلى السفارة، حيث على الأقدام عبر حدائق القصر، كما فعل في تلك الليلة. دخل بن بلة فجأة مبنى السفارة الكوبية بسحنته البيضاء، الناصعة وخيلائه المعهود .وإذا كان بن بركة يلقب ب »الدينامو« ماذا يمكن أن نسمي صديقه الجزائري السيد »العاصفة«. كان الشاب برادة منتشيا في أعماقه وهو يشاهد هذا العلم الصغير: كان بن بركة قد قفز إلى جانب الرئيس بن بلة وبدأ يناقشه على انفراد، اقترب منهما الزعيم غيفارا وبدأ الثلاثة يتبادلون الحديث عن ذكريات السلاح وأيضا عن مشروعهم الكبير: الجمع بين القارات الثلاث وبمناسبة اجتماع ومنظمة التضامن من الأفروأسيوي المنعقدة في الجزائر في شهر أبريل 1964، كان بن بلة قد فكر في طرح تشكيل لجنة من القارات الثلاث فاتحا بذلك الباب أمام أمريكا اللاتينية... (يتبع)