لقد وعد زاردشت الناس بثلاث فضائل منقذّة لهم : الضحك و الرقص و النبيذ أو بعبارة أخرى الانشراح خفة القدم و الانتشاء . بهذه الفضائل تتم صحة متينة و يتحقق في نفس الوقت تحولا للقيم يجعل من النبل و الاستمتاع أهداف إيتيقا تهتم و تنشغل بهما انطلاقا مما هو أرضي . لما نزل زاردشت من الجبل علّم الناس آداب اليأس و رغبة الريح وإرادة الثمالة . و لا شيء يمنع من جعل الجسد هو الحقيقة الأولى للأخلاق النتشوية . إننا نفنقد بشكل خاص للفلاسفة الكلبيين الإغرقيين في عمل نيتشه و مع ذلك لو يتوان هؤلاء على أكل اللحم النيئ و لحم الإنسان و الاستمناء في الساحة العمومية و كان فيهم ما يغري فيلسوف المطرقة . نفس الرغبة في القضاء على الاغتياب القديم لعالم شاخ و نفس الإرادة للإعلاء من شأن المحايثة و اقتراح طريق ورع نحو تجاوز يشكل العلنسان . قاسم مشترك يجمع زاردشت و دوجين ألا وهو السلوك الغريب في ذرع الأزقة بفانوس في اليد بحثا عن الإنسان في واضحة النهار . كلاهما يحبان الحياة و الشمس و البساطة . وهما معا لا يشبعان من البحث عن طريق جديدة قمينة بالحياة أكثر من البحث عن النظريات أو الأنساق . فيلسوف المطرقة و فيلسوف البرميل كل واحد منهما حسب طريقته اختار مقامه في أعلى عليين ، واختار عزلته و الصفاء البارد و القاسي ضد كل الترهات . كان ديوجين سيحب زاردشت هذا الفيلسوف لا محالة ، صاحب الحيوانات . دوما برفتقه الحيوان الشامخ النسر و الحيوان الرقيق الثعبان . و كان يحب الجمال و الأسود . و التنين و قيمه و الأفعى ولذغتها و انتقامات الرتيلاء و زمرة اليمامات. أما ديوجين فكان فيلسوف الفئران و الكلاب و السمك المملح و الضفادع و الأخطبوط . كان نيتشه يقول عن الكلبية بأنها تدرك « ما هو أرقى فى هذه البسيطة « . و كان يبحث في هذه الأعالي التي بلغها ديوجين ورفاقه عن الفضائل الجميلة للأعشاب النادرة لأخلاقه الجديدة . سيعثر عليها في شكل ضحك و رقص و انتشاء . الضحك حجاج آخر ضد العالم القديم ، يفجر اليقينيات الجميلة و يزرع الشك و يحصد العاصفة . يطلّق المقدس و المتعالي .إنه العلاج الوحيد لكل ما هو سائل مائع .خميرة المحايثة الأكثر فعالية . يحاجج من أجل الحصول على جنون عارم يهيئ فضاءات العزلة و الانعزال فضاء الانتخاب و الفخامة . للضحك في الاقتصاد النسقي النتشوي طابع معماري : إنه شرط إمكانية بهجة معرفية و صحة تامة في نفس الآن . إنه يمنح العلامة الدالة و المقدمة التامة لمعنى الأرض و التراب . الانشراح يسمح بقيام جمالية وثنية لا يحدها سقف المقدس . و ظيفة تستدعي الصفاء . ما يحققه الضحك له طبيعة تسوية نفسية : اختزال الواقع إلى حدوده الحقيقية دون افتراضاته و محمولاته الكاذبة . فيما بين تبذير الأفكار و التفكيك . الضحك يفرض على الواقع أن يظهر عاريا ، أن يتخلى عن طبقات أوهامه السميكة و عن استيهاماته و أخطائه ، ليفصح عن واقع حقيقي فيما وراء الخير و الشر . إنه إنفاق قصّي و صراخ تأكيدي و مواساة أرضية انبثقت من أعشاش أفرغت من عروشها . يستعمل زاردشت الضحك بطريقة أخّادة . فهو تضحية و انتشاء ، حكم قيمة و تطهير ، استجمام في الواقع و انغماس وسط الحماس .في الضحك يمتد الجسد و يغدو يقظا بلحمه و دمه و نفسه . لا شيء يعبر عن تفوق الجسد على الأفكار أحسن منه . كل ما يقبع في قعر الجلد و يتغذى منه على حسابه فهو مطرود . المواد السامة للتفاؤل و الأمل تفاوض لصالح فرز ساذج. لا ضحك بدون ألم ، و لا ألم بدون صفاء . لا معرفة بدون تألم . الضحك يحتل لدى نيتشه الدور الذي لعبه العقل لقرون : أداة امتلاك العالم .و هو بلاغة آسرة . الانشراح عدائي ينتمي إلى جهنم و إلى السباق نحو الهاوية .لا نفاجأ إذا كانت المسيحية تدين الضحك و كان المسيح يتجاهله . معنى اللعنة هنا بديهي : وجه عملة يزن ظهرها الدين الداعي إلى البكاء . يعمل الضحك في اتجاه تحويل القيم و يرنو نحو انقلاب الآفاق المؤسفة و الجدية .إنه موت الموت و ميلاد الحياة .مثل الماء و النار ، الضحك و السماء لا يتلاءمان . بمفرده ديونيزوس يفرز الانشراح . المصلوب يفرخ النعي و الكمد ، الدموع و جوقة المتأوهين . الضحك يؤسس هيدونية ملحدة . في قلب الضحك يوجد الازدراء . بسلاح كهذا يكون الضحوك دوما ارستقراطيا مزدرءا للمزدرئين . و لكي يبعد الاستعمال الثخين و العبودي للضحك يربطه نيتشه بما هو هوائي خفيف . « ذاك الذي منه سيتعلم الناس التحليق يوما ما ، يقول زاردشت ..سيحطم كل عائق حدودي و ستحلق كل الأشياء حوله : آنذاك تعمّد الأرض باسم الخفة . «ذلك لأني العدو اللدود للجاذبية ، مثل العصفور العدو الفتاك الصنديد الوارث لعداوته». الضحك نفس يتحالف مع الأجواء الباردة لتحطيم روح الجد الثقيلة . لما يضحك زاردشت ، فهو يركز قواه السيكولوجية لتنبثق منه العواصف السالبة «لأن في الضحك تتجمع كل قوى الشر لكن في نعيمه المطلق و المقدس «. إنه قساوة ضد البداهة و الأساطير و الأوهام و الحقائق و الاغتياب و الخيانة . قساوة طيبة ضد العالم القديم و حاجاته الخدرة . الناس لمّا أفزعتهم و أرهبتهم الطبيعة المتحولة للواقع تسابقوا في حذقهم واخترعوا مجموعة من الأكاذيب : ميتافزيقية ، دينية ، نسقية ، أخلاقية ، فضائل ، أخطاء ،عادات تنميطية ، طقوس اسرارية أيديولوجية ، مزاجية ،كما يقول نيتشه،و نصبوا قصورا من ورق و شتتوا الديكورات و أظهروا بواطن جلودهم . العالم تافه تفاهة مفضوحة و بسيط بساطة محزنة . الأقنعة التي تؤسطر الواقعي هي هي نفسها دائما ، لأنها تنبع من نفس القلق و نفس إرادة التضحية لأجل الدموع بدل الضحك .بين الواقع المرتقب المزركش و المنمق و الواقع الظاهر العاري النيء هناك هوة يطل منها الضحك . يمدح نيتشه مزايا الانشراح إلى حد الدعوة إلى قياس جديد به نقيس الأفكار و القيم : « أسمح لنفسي بوضع تراتبية للفلاسفة وفق نوعية ضحكهم واضعا في القمة أولئك الذين يستطيعون الضحك من طينة ذهبية . و في انتظار أن يزرع الآلهة هم أيضا فلاسفة وفقلا العديد من الخلاصات التي تدعوني للاعتقاد في ذلك ، فإني لا أشك في قدرتهم على الضحك بطريقة جديدة و فوق إنسانية انطلاقا من تفلسفهم على كل الأشياء الجادة « . سنرى في القمة ديوجين و قراطيس و إنبيدوقليس . فيما بعد سنرى مونتاني و شوبنهور . والآن بطاي وفوكو و روسي . زمرة قليلة أمام رهط البكّائين الحزينين . إضافة إلى الضحك المؤسس للخفة الديونيزوسية يمتهن نيتشه الرقص أيضا .ففي مؤلف «هكذا تكلم زاردشت» الشيطان مقابل الله يرمز إلى الخفة المجسدة في الرقص . إذا كان الضحك يحول القلق إلى اطمئنان و الخوف إلى فرح فالرقص هو الخمياء التي تستبدل الثقيل الوازن السميك بالخفيف السماوي الرقيق .الضحك و الرقص هما أدواة كلبية لتغيير القيم . صورتان كناية عن إرادة تجديدية بله ثورية . من هنا قوة كلمات نيتشه :» لن يكون لنا اليوم الذي لا نرقص فيه ولو مرة واحدة ، ستكون مغلوطة كل حقيقة لا يرافقها انشراحى واحد للضحك « . الرقص هو خداع للفضاء و استفزاز للجاذبية . هو اللعب مع الجسد و الأحجام ، هو تأكيد حقيقة العضلات و توترها . الرقص هو انتزاع الجسد من الأرض و محاكاة التحليق مثل إيكار ( الأسطورة) الذي تحدى الآلهة و الضرورة و تخطى الشروط الأرضية للفانين ليصل إلى العلنسان ، وشمائله السماوية هي : النفس و الأثير و الريح و الأفضية . القيون ( من طيور الجنة) عصفور السلام و فأل الاطمئنان و رمز الانزلاق فوق الماء . يؤكد نيتشه :» لا أومن إلا بإله رقص وهو يسمع ذاته (..) لقد تعلمت المشي بنفسي ، بعد ذلك تعلمت الركض و تعلمت التحليق لأتقدم و بعده لا أريد أحدا ليدفعني ، الآن أنا خفيف ، أحلق و أراني فوق أناي .ز بالنسبة إلي : الآن هناك إله يرقص «. راقص الحبل ، هاوي الهاوية ، مخترق الأعالي ، و حيد العليين ، لم يتوان نيتشه لحظة في حبه للسماء و القمم و لنبل ما يمكنه أن يعانق بنظرة واحدة كلية العالم . ضحوك و راقص كان يمنح لانشراحه و قفزاته دلالة بلاغية . الثمالة أو الانتشاء ، هما عثور الجسد على ذاته و تصالحهما رغم كل الاستلابات . هاجس نيتشه كان يقضي الانتصار لديونيزوس ضد المصلوب ، للحياة ضد الموت . الإحالة على الإله الإغريقي تتضمن كل الإجلال الممكن لمبدأ التخصيب و دوافعه و هيمنته كما تفترض تفاقم الحيوية و انتشارها و الحد من قوى الظلام و التراتبية . يرى نيتشه في ديونيزوس أنه إله الضحك و الرقص و الانتشاء .ويقدم عنه في «ميلاد التراجيديا» وصفا شاعريا . في هذه المرحلة كان نيتشه منشغلا بانهيار ألمانيا و كان يعتقد في إمكانية نهضة جماعية بالعودة إلى الأساطير ، إلى فاغنر و شوبنهور . إن الحل النيتشوي للمشكل البروسي جماعي : ديونيزوس هو المبدأ المحرك للاحتفالات و التصالحات و النهضة . في وصف حبه لديونيزوس يتحدث نيتشه عن « افتتان لذيذ ينبعث من العمق الحميمي للإنسان « و من الطبيعة « كما يشير إلى تقارب هذه الحالات مع تلك التي يخلقها شرب الكحول أو المخدرات « أو « مع القرب القوي للربيع الذي يحيي الرغبة في الطبيعة برمتها «. و يقرن ديونيزوس ب « واد هادر يروي الأرض القاحلة « و يؤكد على دور المصالح الذي تلعبه هذه القوى بين الناس و العالم : « العبد يعود إنسانا حرا ، كل العوائق و الحدود القاهرة التي وضعتها الضرورة و الاعتباطية بين الناس تلاشت الآن « . يسود إذن الانسجام و الالتحام و التوافق و الخفة و الفضائل السماوية . لما يتكلم نيتشه بحماس عن الإنسان يقول : «إنه على وشك التحليق راقصا في الهواء . حركاته تشي بأنه ممسوس (..) الطاقة الفنية للطبيعة برمتها تبدو من خلال ارتعاشات الثمالة .(..)إنه الطين الأكثر نبلا و المرمر الأكثر ثمنا ، إنه الإنسان نفسه منحوتا هنا «. بقوى السكر هاته يرتقي الإنسان إلى بعد جديد :يمتح من المنفعة و التأكيد و الحياة في أقصى رونقها متجذرا في العالم يتمتع بحضوره و يصغي للقوى التي تسكنه . فهو يمارس الفيض ضد التخلي و الفرح و اللذة والانشراح ، كإمكانات لوجود أعلى و أشكال حياة جديدة . الاهتمام لاذات يصل إلى أقصاه . الإيتيقا الوثنية تتكئ على الإستطيقا الكلبية : المبدأ الأخير والقاعدة الأولى للخفة :أنانية جيدة ، لا أنا مركزية تخفي الغل ّو الحسد و إنما الحقيقة التي تجهل الوعي الخبيث و جاذبية المسؤولية الشقية .صيغة هذه الإيتيقا الجديدة يقدمها زاردشت نفسه :» من يريد أن يصبح خفيفا و عصفورا عليه أن يحب ذاته . هذه هي تعاليمي. أنا «من هنا ضرورة حجاج بليغ للأنانية . +Michel Onfray. La Sagesse tragique. Du bon usage de Nietzsche.Livre de poche.2006.pp147-156