أصبح «الاقتصاد الفلسطيني» وهو دالٌ وهمي، غير موجود على الأرض عنواناً عريضاً في عالم ما بعد اتفاقية أوسلو. ركّز المانحون جهودهم على ضرورة النهوض بهذا الاقتصاد، وضخّوا كميّات هائلة من الأموال عبر مؤسسات السلطة والجمعيات غير الحكوميّة. جرى إدخال خطاب «التنمية» إلى الفضاء المعرفي الفلسطيني، وصار الإسكان بنداً رئيساً على الأجندة. أراد العالم أن يبني بيوتاً للفلسطينيين وأن يخرجهم، فيزيائياً وفكرياً، من ضيق المخيّم إلى رحابة الشقق الحديثة. كرامة USAID في الخامس عشر من يوليو عام 1994، وضع الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات حجر الأساس لأوّل مشروع إسكاني في قطاع غزّة. موّلت الوكالة الأمريكيّة للتنميّة الدوليّة USAID المشروع الذي اختير له اسم «أبراج الكرامة». قُصّ شريط الافتتاح بحضور رئيس الوكالة والسّفير الأمريكي في إسرائيل. وبعد عشرين عاماً من ذلك التّاريخ، لم تكن غزّة قد تحوّلت إلى سنغافورة كما وعد الرئيس الرّاحل بل كانت تتعرّض لتدمير مكثّف وواسع النطاق، وكان عدّاد الوحدات السكنيّة التي جرى نسفها جرّاء القصف المدفعيّ والغارات الإسرائيليّة في ازدياد مضطرد. جاء عدوان يوليو الأخير على غزّة كامتداد موضوعي لوجود المشروع الصهيوني على أرض فلسطين، ومعاقبة حادّة لغزّة على رفضها أن تتقمّص شخصية مدينة أخرى، وعلى استمرارها في تحقيق نبوءتها. لكن هذا العدوان الأخير يظلّ، على الرّغم من ذلك، حدثاً يمكن له، رغم اتصاله بما قبله، أن يكون نقطة تحوّل. تكفي مقارنة تقديرات الدمار الذي خلّفه عدوان «الجرف الصّامد» الإسرائيليّ بالدمار الذي خلّفته حملات إسرائيليّة سابقة، للتدليل على تميّز الأخير لجهة مدّته، وضخامة دائرة نيرانه التي طالت البنية التحتيّة، والوحدات السكنيّة وشبكات الكهرباء والمياه والمواصلات، ولأوّل مرة، الأبراج السكنيّة والعقاريّة العالية. قدّر برنامج الأممالمتحدة الإنمائي (UNDP) عدد الوحدات السكنيّة التي دُمِّرت بشكل كامل، او تضررت ضرراً فادحاً، في عدوان «الرصاص المصبوب» عام 2008/2009 بحوالي 6268 وحدة سكنيّة. تضاعف هذا العدد مرّة ونصف في العدوان الأخير ليصل عدد الوحدات السكنيّة المُدمّرة، أو المتضررة بشكل فادح، إلى حوالي 17 ألف وحدة سكنيّة، ما أدّى، في نتيجة أوليّة، إلى ترك أكثر من مئة ألف فلسطينيّ في غزّة بلا مأوى. وقبل أن ينتهي العدوان ويختفي من الجوّ غبار القصف الإسرائيلي، صرّح وزير الخارجية النرويجي أنّ مؤتمراً للمانحين سيعقد من أجل «إعادة اعمار غزّة» بمجرّد التوصّل إلى اتفاق وقف إطلاق نار طويل الأمد بين إسرائيل وحماس. كما أكّد الوزير أنّ الأموال المخصصة لهذا المؤتمر ستكون تحت تصرّف السلطة الفلسطينيّة برئاسة السيّد محمود عبّاس. الضرب في المُحاصر.. سياسة تعرّضت غزّة في آخر خمس سنوات لثلاث حملات عسكريّة إسرائيليّة. كانت 500 عائلة فلسطينيّة فقدت بيوتها في هجمات إسرائيليّة سابقة لا تزال تنتظر تنفيذ وعود إعادة الإعمار عندما أطلقت إسرائيل عدوانها الأخير، وكان قطاع غزّة يعاني عجزاً إسكانياً قدّرته وزارة أشغال حماس بحوالي 91 ألف وحدة سكنيّة. وبالمجمل، فإنّ كلّ ما تمّ بناؤه في غزّة بين عامي 2009-2013 لا يغطي سوى 14 في المئة من احتياجات القطاع الإسكّانية المتراكمة. وعلى هذا القطاع المحاصر، ألقت إسرائيل على مدار خمسين يوماً أكثر من 20 ألف طنّ من المتفجّرات عبر قصف جوّي وبرّي وبحري، بمعدّل ألف قذيفة يومياً، محققة في بعض الحالات محواً شاملاً لقطاعات واسعة من أحياء سكنيّة، الأمر الذي نجم عنه حالات نزوّج قيامويّة لا تذكّر في كمّها وكيفها ودلالاتها البصريّة إلا بمشاهد نكبة عام 1948 : أكثر من 450 ألف فلسطيني من أصل 1.7 مليون هم سكّان غزّة، اضطروا للنزوح أثناء العدوان. تركّز خطاب فصائل المقاومة الفلسطينيّة في غزّة طوال العدوان على ضرورة انتزاع الحقّ بالحصول على ميناء ومطار للقطاع. كانت هذه المطالب تُعرض بالتّوازي مع مطلب «إعادة الإعمار» الذي كان يذكر باعتباره مطلباً بديهياً: ليس عليه تفاوض ولا خلافات، مثلما هو الحال مع الميناء والمطار. دخل اتفاق وقف إطلاق النّار حيّز التنفيذ في 26 غشت . لم يقدّم الاتفاق أيّ ضمانات للميناء والمطار، إذ أجّل البحث فيهما إلى مفاوضات ستجري بعد شهر من التوقيع، كما وخلا من أيّ إشارة صريحة إلى معبر رفح الذي تغلقه السلطات المصريّة، إلا أنّ «إعادة الإعمار» قُدّمت باعتبارها عمليّة يجب الشروع فيها فوراً مثل زيادة مساحة الصيد المسموحة - لأنّها، كما صرّح خالد مشعل «واجب حكومة الوفاق وواجب العالم الحر». وعلى الرغم من تفهّم الحاجة الماسّة للشروع في تحقيق إغاثة فوريّة لنازحي غزّة والمتضررين من العدوان، إلا أنّ الاستسهال الذي تتعامل به الفصائل الفلسطينيّة مع إعادة الإعمار وعلى رأسها حماس التي حكمت غزّة على مدار السنوات الفائتة - يعكس، بلا شكّ، محاولة لدفن الرأس في الرمل، أو ركاكة في استثمار الوعي بتاريخ جهود إعادة إعمار غزّة وأهدافها، وبالمركّب السياسيّ الذي تتمحور حوله جهود «العالم الحر» الإغاثيّة، أو تعبيراً عن خيار سياسي استراتيجي يتمثّل في استكمال عمليّة الدخول في مشروع التسوية. قد تتعدد المصادر التي ستتدفق منها الأموال اللازمة لإعادة إعمار غزّة، من ممالك النفط في الخليج إلى بلاد اسكندينافيا البعيدة. لكنّ هذه الأموال، وإن تعددت مصادرها، فإنّها تتميّز جميعها بأنّ الحصول عليها يستلزم دفع أثمان سياسيّة واجتماعيّة: التخلّي عن السلاح والسير قدما في مشروع «التسوية» مع إسرائيل هو أحد هذه الأثمان في خطوطها العريضة. العائدون على ظهر خلاطة الإسمنت عُقد آخر مؤتمر كبير من أجل «إعادة إعمار غزّة» في شهر مارس من العام 2009 بمدينة شرم الشيخ المصريّة. شارك في المؤتمر ممثلون عن أكثر من 70 دولة و16 منظمة دوليّة على رأسها البنك الدولي. وبالطبع، غابت حركة حماس التي كانت في حينه تدير قطاع غزّة تحت مسمّى «الحكومة الفلسطينيّة المقالة»، في حين حضر ممثلون عن السلطة الفلسطينيّة التي كانت تستعد لتلقي الأموال وتقديم الضمانات، حسبما أشارت هيلاري كلينتون بأن «لا تقع الأموال في الأيدي الخطأ». جمع المؤتمر 4 مليارات و481 مليون دولار من أجل إعادة الإعمار. كان هذا يفوق بكثير ما طلبه سلام فيّاض رئيس وزراء السلطة: قدّم خطّة يطلب فيها 2.8 مليار دولار سيذهب مليار و450 مليون منها (52.2 في المئة) لتمويل العجز في إنفاق السلطة، في حين سيخصص الباقي (مليار و326 مليون دولار) من أجل الشروع ببرنامج إنعاش مبكّر وإعادة إعمار ما دمّره العدوان على غزّة. شروط الحصول على الأموال كانت واضحة: أن تتولى السلطة جهود إعادة الإعمار بتنسيق مع الأممالمتحدة، وأن يجري العمل على قيام حكومة وفاق وطني بعد التوصل إلى اتفاق تهدئة في غزّة، بالإضافة إلى ضرورة تسريع عملية الوصول إلى تسوية سياسيّة دائمة بين إسرائيل والفلسطينيين تحت سقف حلّ الدولتين. ليس في الاستطاعة الحصول على معلومات دقيقة حول ما استلمته السلطة في رام الله من هذه الأموال، وماذا كانت أوجه إنفاقها. لكنّ المؤكد أنّ هذه الأموال لم تحقق تحسناً ملموساً في غزّة التي جرى إقصاء كلّ المؤسسات والجمعيات العاملة فيها من التخطيط أو الاستفادة من هذه المبالغ الضخمة والمشروطة. كانت حكومة حماس في غزّة، في حينه، لا تزال قادرة على تلبية الحدّ الأدنى من المتطلبات المعيشيّة. الدعم الإيرانيّ وانتشار الأنفاق سمحا لها بأن تواظب على دفع الرّواتب، وأن تنجز بعض المشاريع الإسكانيّة الصغيرة، بالإضافة إلى توزيع مبالغ نقديّة على المتضررين. دفع هذا باتجاه رفع سقف خطاب حماس المضاد للمؤتمر وللقائمين عليه، وأولئك الذين تحصّلوا على الأموال. ومن بين كثيرين، صرّح أسامة حمدان، عضو مكتب حماس السياسي، قائلاً: «إذا كان البعض قد فشل في العودة إلى غزّة عبر دبابة إسرائيليّة، فإنّه لن يعود على ظهر خلاطة إسمنت». سيكون من الصعب تخيّل خروج تصريح مماثل من قادة حماس بعد العدوان الأخير يعكس الإصرار على خيار المصالحة مع السلطة الفلسطينيّة والمطالبات المتكررة بصرف رواتب موظفي غزّة حيث عمق الأزمة التي تعيشها حماس. إنّ لخلاطة الإسمنت اليوم إغراءً وضرورةً أكبر بكثير مما كان عليه الحال قبل سنوات قليلة. غزّة: الخيارات الصعبة لن تختلف شروط المانحين بعد العدوان الأخير عمّا كان الحال عليه في مؤتمر شرم الشيخ عام 2009 (أو أيّ مؤتمر قبل ذلك). وزير خارجيّة النرويج، وهو يبشّر بتداعي المانحين قريباً من أجل غزّة، فعلاوة على تأكيده أن الأموال ستكون تحت تصرّف السلطة الفلسطينيّة، قال إنّها «لا يمكن أن تمنح من دون شروط تضمن أمن المدنيين على الجانبين». مكمن الاختلاف هو في غزّة، وفي قدرة فصيلها الأكبر (حماس) على التعامل مع آثار العدوان ومجابهة شروط المانحين، أو محاولة خفض سقف توقعاتهم، في ظلّ انحسار قدرة الحركة على توفير بدائل رمزيّة بعد الخروج من دمشق، وانحسار الدعم الإيراني، والهدم شبه التام للأنفاق، وانقلاب مصر الذي أربك حسابات «حماس» إلى درجة جعلتها تتداعى لتشكيل حكومة وفاق. لقد أبلت المقاومة في غزّة بلاءً عسكرياً حسناً. لكنّ إمكانية استثمار الميدان الغزّاوي وما يتراكم فيه من إنجازات وإحالتها ثماراً سياسيّة تبدو رمزيّة. كما أنّ عدم وجود أي حضور فعلي لسلطة رام الله على الأرض في غزّة، حتى بعد تشكيل حكومة مصالحة، يساعد على تحجيم إنجازات غزّة العسكريّة ويعمل على حصرها في صندوق مغلق. يمنح هذا السلطة الفلسطينيّة امتياز عدم التورّط، ما ينعكس على إبدائها قدرة أكبر من «حماس» على الاستمرار في صراع لي الذراع. تجلّى هذا الترف السياسي عند السلطة مع تصريح رئيسها محمود عبّاس بأن «حكومة ظل» تعمل في القطاع. نظّر الجنرال والمفكر العسكريّ الفرنسي أندريه بوفر لمبدأ في الاستراتيجيا العسكريّة يقوم على منهجيّة «دع الجراح تتعفّن». يقوم هذا المبدأ على إحداث خسارات وأضرار إستراتيجية في صفوف وبيئة العدو، ومن ثَمّ حصاره في ظل حدّ أدنى للاشتباك حتى تتعفّن جروحه وتتعقد عملية علاجها. لقد تُركت جروح غزّة على مدار سنوات طويلة لتتعفّن. تمّ هذا بتخطيط وتنفيذ إسرائيلي ومساندة من رام الله وعواصم عربيّة، ناهيك طبعاً عن مباركة المجتمع الدولي. ونتيجة لهذا التَركْ، تحوّلت بعض حاجات غزّة الأساسيّة مثل محطّة الكهرباء ومعبر رفح (وهي مسائل بالإمكان حلّها في وقت محدود)، إلى قضايا كبرى «معقّدة» يحتاج حلُّها إلى أشهر وسنوات. إنّ ما يعرضه المجتمع الدولي واللاعبون الإقليميّون على غزّة بعد العدوان الأخير ليس علاجاً لهذه الجروح التي ترتدّ في نشأتها وعلّة وجودها إلى مشروع استعماري استيطاني على الأرض الفلسطينيّة. كلّ ما هو مطروح على الطّاولة لا يعدو كونه مسكّنات طويلة الأمد، وبأثمان باهظة قد تحكم، إن هي دُفعت، على أجيال فلسطينيّة قادمة بأن تعيش ضحيّة وهم إعادة إنتاج لاتفاقية أوسلو بجداول ومحددات زمنية جديدة. هذا هو »الليمبو« (موطن الأرواح المحرومة من دخول الجنة لذنب لم ترتكبه) الذي تغرق فيه غزّة الغارقة أصلاً، في دمها. وإذا لم تشهد الأيّام القليلة القادمة أيّ عجائب سياسيّة أو إقليميّة غير متوقعة، فإننا سنرقب بهدوء خطوة غزّة القادمة: إمّا أن تقبل المسكنات وتفاوض على الثمن، أو أن تُترك لمزيد من الحصار وتعفّن الجروح، وبالتوازي، لمزيد من المقاومة. * كاتب من فلسطين