سيقول المحلل الهادئ، في نشرة التاسعة، إن قرار دونالد ترامب بنقل السفارة الأمريكية،عمليا، بعد نقلها بقانون الكونغرس سنة 1995، إلى القدس سيزيد من شدة الصراع بين الأديان.. لكن الاستعارة تفتح التأويل على مصراعيه وتعطي للغة كل عنفوانها العقائدي. فتخرج الحمم نازلة من سماء لله البعيدة إلى براكينه في الشرق الأوسط.. يريد المحلل أن يقول.. إن القدس أرض السماء لا السياسة.. هنا تكون الصلاة فيها دوما إيذانا بميلاد زمن آخر وحرب أخرى.. القدس ليست مدينة، بل عقيدة ووعد إلهي ومحطة كل الأنبياء في أسفارهم.. وعندما يريد الاحتلال أن يحولها إلى عاصمة لوحدة تضيق السماء و تهتز الأرض:لا بسبب زلزال سياسي ولا بسبب لا توازن ديموغرافي لسبب بسيط هو أن جذور السماء والأنبياء تمتد إلى حواريها وأزقتها ومآذنها وكنائسها وبيعها.. وجدرانها، بدموع كل الأتباع... السماء فوق القدس لا تكون شاغرة فهي ليست ملحقة بالأرض: هي صرتها التي تجعل الأنبياء يتحلقون حول ثديها.. هنا، عندما سيعلن ترامب قراره، لن يفتح التاريخ لدخول الحرب من باب الشرط الممزق كل ممزق بل سيفتح الطريق إلى عودة الجنون: لن يكون من حقه أن يسأل: لماذا تكرهوننا بعد أن يكون قد أفرغ كل القلوب من آخر ما تستند إليه من الحب السماوي.. سيولد ألف مجنون بعد أن يكون المؤمنون قد يئسوا من قوى الأرض في الإنصات إلى كهرباء السماوات .. ترامب سينقل الحرب من شوارع القدس والحرم المقدسي ومن كنيسة القيامة إلى الأعالي.. سينقلها من الأرض إلى السماء، وقتها لا شيء في معادلات الأرض قادر على أن يفهم ما يقع أو يتنبأ بما بعده. فقد ترك الأنبياء نبوءاتهم في الأرض، ولن يجدها أحد عندما ستتولى السماء الحكم في خارطة الشرق الأوسط..... سيقول الاستراتيجي البارد: ما كان لهذا أن يحدث لو لم تتفكك شعوب الشرق وتدخل في حروب أهلية، حول السلطة والمجد البليد للقبيلة، ولو لم تتغير موازين القوى ويصعد التطرف إلى البوديوم الرباني لإعلان القيامة.. ولو لم تسلم الدول العربية لجامها إلى الرئيس الجديد ليقودها إلى نصر على أعدائها القدامى ...وأشقائها! لكن الجحيم ستكون له لغته في إقناع القابلين للموت: الآن وقد دجنتم حكامهم وفككتم دولهم وشردتم حماتهم الآن وقد انهزم العقل لا تطلبوا من المسلمين أن يكونوا عقلاء الآن، وقد زهق الحق لا تطلبوا منهم أن ينحازوا لحق أخلاقي في الموت وقد أهانهم بخديعته غير المألوفة.. الآن وقد ولى العدل.. لا تطلبوا منهم أن يمتلكوا الحق في التمييز بين العدل والظلم.. فما بين الإهانة الشاملة والهوان التام بين الظلم والظلامية ... سيكون الجنون آخر محاولة لهم في ...فهم ما يجري وفي الدفاع عن النفس...! وهذه السماء فوق القدس، إذا ما أثقلتها دبابات الاحتلال.. وهزتها جزمات جنوده لا بد من أن تسقط فوق رؤوس البشرية كلها.. وسيولد ألف انتحاري مع كل آذان.. و مع كل نافلة..يولد خليفة مستحدث! ولن يشعر أي إنسان كوني بضرورة عقدة الذنب إزاء صمته أوالتباس هويته: لا يمكن لأكبر دولة حداثية أن تساعد الاكليروس الديني على الاحتلال بدعوى ثلاثة آلاف سنة على انهيار السماء أول مرة على رؤوس من كانوا في الهيكل، ثم تطلب من الذين يكدون في دخول الحداثة أن ينسوا أنهم كانوا هنا...! صعبة هي الإقامة بين الجنون ...والاحتقار!** هنا فوق صخرة بنينا يقيننا وهناك في ناقوس ردد المسيح إنجيله وموسى كلم لله لا ليكون وحيده فوق الأرض، بل ليسمع الأنبياء.. قصته! ليس صدفة أن العالم كله يرى نقطة التوازن في هذه النقطة بالذات من كوكب يميد منذ بداية الألفية الثالثة.. فالجميع يعرف أن قلب القضايا كلها وقلب الصراع كله هو أن تعرف مكانة القدس وفلسطين في الجيواستراتيجية التي خلفها الأنبياء قبل الصعود إلى ربهم! ليس صدفة أن تغيير وضع القدس من الوضع الحالي إلى وضع قديم يسكن في أساطير التلمود القاتلة، هو تغيير يرعب العالم، ويخرج الأرض من التاريخ ويرميها في لاهوت الاحتلال.. تحتاج دولة إسرائيل إلى التلمود لكي تحول أرض الحاضر إلى مشتل للأسطورة، لا لكي تقيم دولة دينية فقط، بل لكي تغطيها بقداسة الاحتلال.. مرة أخرى كما كتب دو شاتوبريون : «نسمع، كما حدث في الماضي، في القدس، صوتا يقول: الآلهة تغادر»! أقسى ما يحدث للمؤمنين اليوم، هو أن القوة، وهي قوة رأسمالية، عسكرية بنكية صناعية، تعطل إرادة لله وتحرم الأنبياء من أخوتهم السماوية كما أخوتهم الأرضية ..