في روايتهِ "دروز بلغراد، حكاية حنا يعقوب"، الحائزة على الجائزة العالمية للرواية العربية(البوكر) سنة 2012 (صدرت عن المركز الثقافي العربي/ دار الآداب)، يواصِلُ ربيع جابر هوايته المُفَضّلة في خلقِ عوالم تاريخية جذّابة، وقادرة على خطفِ القارئ منذ السطُور الأُولى، ويعتمِدُ هذه المرّة على حادثةٍ حقيقيّة جرى فيها نفي 550 درزياً إلى بلغراد وطرابلس الغرب في القرن التاسع عشر، محوّلاً ذلك إلى رواية زاخِرة بقصصٍ مُبتكرة وشخصيّات مكتُوبة بنبرةٍ سردية متدفّقة ومنضبطة في آن واحد. عقب حرب جبل لبنان التي شهدت مجازر دمويّة، فرّ كثيرون إلى بيروت، تاركين الجبل، وباحثين عن ملاذٍ آمن في المدينة الكبيرة، فامتلأت بيروت بالعساكر، والقناصل الأجانب، وغصّ ساحِلُها بسفنٍ من دول عدّة. وفي أحد الصباحات خرجَ حنا يعقوب، بعد أن كحّل عينيه برؤية رضيعته بربارة، وزوجته هيلانة ساعياً الى لقمةِ عيشه، حاملاً سلّته، مُنادياً على بيضه المسلُوق، تقُوده الأقدار إلى مرفأ المدينة، ليجدَ إحدى السفن المُحمّلة بجماعة من الدروز المحكُوم عليهم بالنّفي إلى بلغراد، بعد إدانتهم بالتورّط بجرائم في الحرب الأهلية. ولولاَ القدر الذي أرسله(حنا يعقوب) إلى الميناء في تلك اللحظة الخاطئة، لمَا كان قد رُحِّلَ كبديلٍ عن آخر لم يعرفهُ ولم يلتقه أبداً، كلّ علاقته بهِ أنّ القدر ساقَهُ إلى المكان الخطأ، في اللّحظة الخطأ، ، ذلك أنّ الضابط العثماني المسؤول عن سفينة الدروز سيأخُذ حنا "كبش فداءٍ" ليكملَ عدد المحكُومين المنفيّين(550 درزياً)، ليحلّ بديلاً لسليمان عز الدين الذي تركه الوالي بعد شفاعةٍ من أبيه، فلا تفلحُ محاولات حنا في التوسّل لإطلاقِ سراحه، فيقيّد بالسلاسِل ويُرمَى في السفينة ليواجهَ سنواتٍ من المنفَى والتشرّد والسجن في بلادٍ بعيدة. سيعاني هؤلاء السجناء في قلعة بلغراد من الظلام والقمل وعذابات الأقبية، وآلام الجوع، والبرد والثلج، كمَا داهمتهم الأمراض، التي أخذت تفتكُ بهم واحداً تلو الآخر، حتّى كانت المصيبة الرهيبة بانتشارِ الكوليرا التي حصدت منهم حوالي ستة عشر رجلاً دفعةً واحدة، ثم يأتي استغلال هؤلاء الدروز لأعمالٍ خاصّة، فتارة للعمل في كروم نازلي هانم، وتارة ثانية في بناء الأسوار لجودت باشا، الذي يخشى غارات الصرب بعد أن اتسع نفوذهم، بالإضافة إلى تصليح طريق أفسدتهُ السيول، أو محاربة الذين شقوا عصا الطاعة عن السلطان، يعملُون في أجواءٍ صعبة؛ كأن يسقُط المطر الغزير عليهم، لتداهمهم برودة الصقيع والثلج، كما سقطت عليهم أحجار كبيرة فأهلكت أحدهم. تتلاحق السنوات فلا يتغيّر شيء في وضعهم، سوى أنّهم يتساقطُون واحداً تلو الآخر، ذلك، لإصابة الكثير منهُم بالعاهات والأمراض المُزمنة. لكنّ هذه المعيقات بأكملها لم تمنعهم من الحفاظ على عاداتهم التي حَملُوها بين ضلوعهم من الجبل، فعمَّرُوا المنطقة وزرعُوها بالأشجار، كما بنوا البُيوت واستقرّوا فيها لردح من الزمن. بتكاثف أحداث الرواية، يموتُ السواد الأعظم من أفرادِ الجماعة، ويحاولُ حنا الهرب إثر رُؤيتهِ مشاهد رفاقه في السجن وهم يُقتلون واحداً إثر الآخر، يهرب حنا من السجن إلى السجن، إذ يقعُ بعدَ هروبه في قبضة والٍ تركي، يحكُم إحدى المناطق في البلقان، فيدينُه بالسجن لهروبه من خدمةِ السلطان، وقطع اليد لسرقته بيضة، أنقذ بهَا نفسهُ من الموتِ جوعاً، لكن يُخفّف الحكم إلى السجن فقط، في محكمة عبثيّة، حاولَ فيها حنا أن يروي حكايته، لكنّ صوته المقهور لم يخرج. يعود حنا يعقوب إلى بيته بعدَ رحلةِ عذابٍ وقع فيها ضحية قدرِه الذي قادهُ إلى أحداث متعاقبة يُفلت فيها من الموت والمرض والسّجن، ليأتي الفرج أخيراً حين يصلُ إلى مقدُونيا، بعد أن احترق سجنه الأخير وهرب من أنقاضه، ليلحقَ بقافلة الحجّ التي تُوصله إلى دمشق في وصف متدفّق للكاتب، يعوّض فيه حنا يعقوب والقارئ معاً عن الرحلة التي كلّفته سنوات طويلة من الشّقاء والحِرمان. إنّ الرواية دعوةٌ صادِقة، عبر عالمِها التخييلي الناهِض على أحداث تاريخيّة، إلى تقبّل الآخر وعدمِ نبذه بناءً على انتماءه العرقي والدّيني، ذلك أنّ المعاناة الإنسانيّة لا تُفرّق بين إنسانٍ وآخر نسبةً لتلك المحدّدات الواهية، التي تَقُود إلى استشراء العُنف والتقتيل والتعصّب .