شخصية الأستاذ غلاب أشهر من نار على علم بالمعنى الحقيقي والمباشر للعبارة..يعرفه التلاميذ في المدارس والطلاب في مدرجات الجامعة ويتداول أعماله القراء في المغرب والمشرق..ومن هنا صعوبة تقديمه في كلمات وجيزة تستعرض ملامح بصمته الثقافية والأدبية العريضة وتلمّ إلماما شاملا بمنحنيات عالمه الفكري ومساره الإبداعي الذي امتد على مساحة زمنية تقرب من الستة عقود. ولكن لابد مما ليس منه بدّ كما يقال.. فقد ولد الأستاذ بمدينة فاس أواخر العقد الأول من القرن العشرين (1919) وبها تلقى تعليمه الذي امتزجت فيه المعارف الأكاديمية بالمبادئ الوطنية على أيدي أعلام كبار مثل عبد العزيز العمراوي وبوشتى الجامعي وعلال الفاسي..ثم رحل إلى مصر لاستكمال تكوينه الأكاديمي بين سنتي 1937 و1948..حيث أتيح له التشبع بالأفكار القومية والإسهام في النضال من أجل تحرير المغرب من الاستعمار الفرنسي عبر أنشطة (مكتب المغرب العربي) بالقاهرة..كما سيتهيأ له كذلك أن يواكب نشوء وتطور أدب عربي جديد يقطع مع الأشكال التعبيرية التقليدية ويختطّ لنفسه مسارا رائدا في الثقافة العربية الحديثة مطوّعا الأداة التي استمدها من المشرق لتستوعب انشغالات وهموما أخرى هي انشغالات وهموم وطن ما يزال سجين مرحلة تصفية الاستعمار. ويدلنا المجيء المتأخر للكتابة الأدبية، أو النشر لنكون أكثر دقة..أي بعد أن جاوز الأربعين من عمره..على أن الرجل قد أخذ ما يكفي من الوقت لجعل تجربته تنضج على نار هادئة..هي نار الوعي بدور الكتابة في التغيير واتخاذها سلاحا ضد التدجين السياسي والتزييف الإديولوجي والارتقاء بوظيفتها التعبيرية إلى درجة الممارسة العضوية المسؤولة والصميمية. ونحن نستحضر الدور التأسيسي الذي قام به غلاب في تطوير الأشكال التعبيرية الجديدة علينا..مثل الرواية والقصة القصيرة والسيرة الذاتية وأدب الرحلة والمقالة الأدبية..لابد أن نقف على ما نعتبره مميزات لعموم تجربته الإبداعية والتي بوسعنا إيجازها في العناصر التالية: 1_ الانتظام الدؤوب في التأليف بمختلف فروعه وخاصة في مجال التعبير الأدبي الذي يعنينا شأنه هنا. فمنذ أن ولج غلاب عالم الإبداع الأدبي أوائل الخمسينات من القرن الماضي ارتبط به عضويا وصار لا يمرّ عام دون أن يُصدر كتابا أو كتابين حتى جاوزت الحصيلة اليوم السبعين مؤلفا بين أدبية وفكرية وسياسية ودينية.. 2_الالتزام الدائم بالقضايا القومية والوطنية الراسخة والانكباب على المعضلات الفكرية والسياسية ذات الصلة بالواقع العربي والإسلامي بما يعني الابتعاد بقدر منظور عن هواجس التجريب الفني والتجريد الفلسفي والتأكيد على الوظيفة التعبوية للفكر والإبداع معطيا بذلك صورة نموذجية عن المفكر السياسي وقد أصابته حرفة الأدب بالمعنى الإيجابي للكلمة. 3_ الانفتاح على الأفق العربي الذي ورثه عن إقامته الطويلة في المشرق وإصراره على التواجد بقوة في مجال النشر حيث كان من الأدباء المغاربة الأوائل الذين نشروا أعمالهم في الشرق العربي..ويكفينا أن نلاحظ بأنه قد نشر منذ وقت مبكر في كبريات دور النشر العربية مثل دار المعارف ودار الهلال في مصر ودار العلم للملايين والمؤسسة العربية للدراسات والنشر بلبنان..فضلا عن دور النشر المغاربية العديدة مما يفسر اتساع قاعدة قرائه وانتشارهم عبر المحيط والخليج وعموم الرقعة العربية. أما على المستوى العملي فلابد أن نذكر له إنجازاته الأساسية الكبرى التي بصمَت تاريخ الأدب العربي الحديث في المغرب الأقصى مقتصرين بسبب ضيق الحيّز على مجالين اثنين هما الرواية والسيرة الذاتية: ففي المجال الروائي سيكون غلاب المؤسس الفعلي الأول بدون منازع لهذا اللون الأدبي في المغرب عندما سيصدر سنة 1964 عمله الرائد (دفنا الماضي) الذي سيكرسه لعرض أطروحته الروائية الكبرى التي سيطوّرها في إنتاجه اللاحق وتجعل الآخرين ينسجون على منوالها إن بطريقتهم الخاصة كما فعل عبد الله العروي ومبارك ربيع وآخرون.. ويتعلق الأمر بموضوع أثير في الرواية المغربية هو مساءلة الواقع المغربي غداة الحصول على الاستقلال (1956) من خلال طرح السؤال: ما الذي جناه الوطنيون والمقاومون وهم يناضلون ضد الاستعمار سوى الإهمال واللامبالاة؟ وتصوير كيف احتل مراكز السلطة الخونة والممالئون للاستعمار وتنحّى إلى الهامش الأوفياء والخلّص من أبناء هذا الوطن في مناورة عجيبة أفسدت على المغاربة نشوة الاستقلال وفرحة الانعتاق.. إنها الرواية كجنس أدبي وقد تحولت إلى وثيقة وشهادة على تحولات الواقع السياسي والاجتماعي ولم تعد تقنع بدورها كتخييل محض لوجه الإبداع الخالص..وطبعا لا يضعنا الكاتب أمام رواية تاريخية بتوابلها الواقعية المألوفة بل إزاء كتابة أدبية خالصة تأخذ على عاتقها معالجة الواقع بطريقة سردية تستحضر الشخوص والفضاءات والوقائع وتعرضها في إيهاب حكائي جذاب..فعَل غلاب ذلك في باكورته (دفنا الماضي) حيث الموضوع هو تفاعل الحركة الوطنية مع المقاومة الشعبية في إطار مجتمع محافظ ما يزال..وقام بذلك في روايته التالية (المعلم علي) عندما صوّر بداية النضال العمالي وقيام الحركة النقابية بهدف استرداد حقوقها التي سلبها الاستعمار الفرنسي.. وفي مضمار السيرة الذاتية أنتج لنا غلاب أربعة نصوص متكاملة نشرها بين 1965 و2001..وهي تتوزع من حيث نوعيتها إلى القطاعات العمرية التي عاشها المؤلف بكامل الوعي والامتلاء الروحي والجسدي..فهناك السيرة التعليمية ويستغرقها كتاب (سفر التكوين.2001) الذي يتناول فيه حقبة الدراسة الابتدائية والثانوية بجامعة القرويين بفاس..وكتاب (القاهرة تبوح بأسرارها.2000) حيث يصف إقامته في القاهرة التي استطالت حتى جاوزت العشر سنوات بسبب ظروف الحرب الكونية الثانية..وسيرته السجنية (سبعة أبواب.1965) التي يسجل فيها تجربة اعتقاله أواخر عهد الحماية التي رسّخت نضاله الوطني وشحذت وعيه السياسي..وأخيرا سيرته اللطيفة المسماة (الشيخوخة الظالمة.1999) التي لم يسبقه إلى كتابة مثلها مؤلفون كثيرون في هذا الطرف أو ذاك من العالم لتركيزها ليس على فترة اليفاعة أو الشباب بل على مشاكل شيخوخة الكاتب والمفكر ومعاناته مع منغصات التقدم في السن.. ونحن نقف على خصائص نوعية تميز هذا المتن نُجملها هنا لإضاءة هذا القطاع من إبداع الكاتب..وفي مقدمتها كون تلك السير تنطوي في تأليفها وطريقة صياغتها على مسحة أدبية لا تخطئها العين. فبغض النظر عن قيمتها التاريخية والتوثيقية الاستثنائية فهي تعطينا الانطباع بأنها صادرة رجل أديب كرّس حياته للفكر والإبداع..ومن هنا تلك السلاسة التعبيرية والطلاوة الأسلوبية التي تجعلنا نقرأها بشغف لا مزيد عنه..ثم إنها تقدم نفسها كسيرة جَمعية تؤرخ لجيل كامل من رواد الوطنية المغربية الذين لم يُمهلهم العمر أو لم يسعفهم المزاج لتدوين مذكراتهم وكتابة سيرهم الذاتية أمثال الزعيم علال الفاسي وأحمد بلافريج وآخرين عديدين..وأخيرا فنحن نعثر فيها على نوع صريح أحيانا من النقد الذاتي الذي يبعدها عن الخطاب التمجيدي للذات الذي يطغى على كثير من السير الذاتية التي يصور فيها أصحابها أنفسهم وكأنهم (أسطورة حية)..وهذا الملمح يعطي لتجربة الأستاذ غلاب نكهة استثنائية وتلوينا رائقا. ونريد أن نختم هذه الكلمة التأبينية في حق الراحل الكبير بالحديث الموجز عن حكاياته الطريفة مع النقد المغربي..ومن ذلك أن الأستاذ قد عانى كثيرا خلال السبعينات والثمانينات من سهام النقد المسمى منهجيا أو واقعيا أي تلك الألوان من المقاربات الإديولوجية التي لم تكن ترى في الإبداعات الأدبية سوى مظهرها السياسي والطبقي وتسعى إلى تصنيفها بل محاكمتها على هذا الأساس.. ومع أن الكاتب غلاب لم يتوقف أبدا خلال مساره الطويل عن معالجة القضايا الاجتماعية للفئات الفقيرة من فلاحين وعمال ومناولة معضلات الطبقات الهشة خاصة في البوادي المغربية فإن هذا النقد أبى إلا أن يعتبر ذلك مداهنة منه ومصانعة مفتعلة لوجه السلوك البورجوازي..ولم يشفع له في تلك الأحكام الجائرة كونه زعيما سياسيا وطنيا وقائدا تاريخيا في حزب سياسي عريق هو حزب الاستقلال..كما أن وجوده لعدة عقود على رأس جريدة معارضة هي جريدة (العَلم) حيث واظب على تحرير زاويته النارية (مع الشعب) لم يجنّبه السهام النقدية التي ظلت تنهال على رواياته ونصوصه القصصية ومذكراته الأدبية خلال عقدين من الزمن.. وجاءت حركة النقد الجديد في المغرب أواخر الثمانينات محمولة على أكتاف البحث الجامعي ذي الميول الموضوعية والنظرة المحايدة متخذة مبدأ يعطي الاعتبار (للنص ولاشيء غير النص) فدشن رحلة إنصاف لإنتاج العديد من الروائيين الذين غبنهم النقد ذو المخالب الإديولوحية وفي طليعتهم كاتبنا عبد الكريم غلاب..فبدأت تظهر أطروحات ودراسات تعيد الأمور إلى نصابها كاشفة عن مصادر إبداع أصيلة ظل يتعالى عن التصنيف الطبقي ويقطع مع الاعتبارات التمييزية والأحكام القبلية. وطال هذا التغيير المنهجي والفكري الكتاب والنقاد من أعضاء اتحاد كتاب المغرب الذي رأسه غلاب بين 1968 و1976 فأعادوا النظر في انشغالاتهم على ضوء المستجدات الفكرية والمنهجية التي وإن لم تقطع كلية مع السؤال الإديولوجي فإنها كانت تستضمر سؤال الإبداع والكتابة وتخوض في تجربة البحث عن أفق جديد لنقد يرغب كما يقال أن يمسك العصا من الوسط.. وفي هذا السياق المنفتح تقرر إعادة الاعتبار الأدبي للأستاذ عبد الكريم غلاب من خلال إقامة ندوة وطنية كبرى (فبراير 1991) تتناول إنتاجه السردي في مدينته بالذات..أي العاصمة العلمية فاس..وخلال الترتيب لهذه المبادرة ذهبنا إلى الأستاذ في مكتبه لنطلعه على فحوى هذا المشروع ونلتمس رأيه وموافقته فأبدى استغرابه من هذا التحول العجيب..بل والانقلابي في رأيه..الذي كان بعض الداعين إليه ياللمفارقة من كتيبة النقد المناهض له بالذات..وقد أخذنا وقتا لنشرح للأستاذ أن ظروفا استجدتْ وتحولات حصلت..وتوجّنا حديثنا معه بطلب إجراء حوار شامل ومطول معه نضع فيه النقط على الحروف بكل الوضوح والدقة التي تفرضها المرحلة..فكان الحوار التاريخي الذي ظهر صفحات مجلة آفاق التي يصدرها اتحاد كتاب المغرب بعنوان : (عبد الكريم غلاب: في الكتابة والتغيير والهوية. مجلة آفاق. العدد.1991.2) والذي شارك فيه النقاد عبد الحميد عقار وعبد القادر الشاوي ونجيب خداري وكاتب هذه السطور.. إلى جانب المواد التحليلية والفكرية التي ألقيت في حضوره بمدينة فاس وتناولت كل صغيرة وكبيرة في تجربته الأدبية برؤية جديدة وبناءة أعادت الاطمئنان لقلب الأستاذ غلاب وأنهت رحلته القاسية مع نقد جائر لم يكن يقيم وزنا لإخلاص الرجل لمرجعياته الفكرية وثوابته الأخلاقية. وهكذا فإن إعطاء كل هذا الاعتبار والتشريف للرجل الذي رحل عن عالمنا قبل أيام لم يأت اعتباطا أو مصادفة بل بفضل كدحه الأدبي ونضاله الصحفي الذي جاوز نصف قرن قضاه متعبدا في محراب الكتابة والإبداع..زاهدا في المناصب السياسية والحكومية..وناشدا خدمة الثقافة العربية بالإضافة النوعية المتواصلة والانخراط في معركة تحرير العقل العربي من الأساطير والخرافات..وعاملا بكل إخلاص على تشكيل الذوق الجمالي لأجيال القراء المتعاقبة التي كانت عرضة لرياح الاتجاهات والتقلبات من كل نوع..عن طريق زرع بذور الرأي الحر والاستقلال الفكري والاستقامة الأخلاقية.