في أجدد إصدار له حلّ ثانيا بعد الباكورة « حانة المحو « سنة2015،يسعى الشاعر المغربي المبدع صالح لبريني لأن يُلبس بوح أقاصي الذات، عنفوان القصيدة الحداثية بالمقلوب،ويقحم أناه في أفق برزخي تسطع معه النرجسية المتلصصة على العالم من ذاكرة موغلة في الطفولة والملائكية. بلغة كريستالية تتدفّق صافية كأنقى وأشهى ما تكون بلورة الإحساس تجاه الذات والغيرية والكونية انتهاء. كتابة تتحقق بها ومعها القفزة النوعية المرغوبة، في اجتراح القول الشعري المنكفئ على سنابل المعاناة الغاطسة في اختبارات الفراغ ومتاهاته، بشقّيه المادي والمعنوي،و تستطرد في جملة انزياحات متاخمة لحدود العوالم الصوفية المحتّمة منطق إعمال البصيرة في حيّز حركيّة خيوط الرؤى المنتجة للفسيفساء الإبداعية المتشبّعة بثرثرة البياض. يغيب الترقيم في منجز صالح إلاّ فيما نذر ، تاركا السلطة المطلقة لميكانيزمات المحو و إبدالاته، وهي تقنية تتيح تكثيف المعنى و تفسح لتناسلات دلالية وظلال تصويرية مسعفة في الدغدغة التي من المفترض أن تُصعق بها الذائقة في تلقّيها واصطدامها المخملي بالجوانب الرّسالية، و الغرض العام من كتابة مغايرة تنزع نحو الترتيب تحت قناع فوضوي ، والتجاوز بلبوس استنساخي ،داخل أفلاك لعبة كلامية هادمة بانية، ومخصّبة لمعنى تمجيد الخراب ،و لتيمة العبثية و الخواء كنتيجة أو معطى طبيعي لصفعة اليتم المبكّر. مند أولى عتبات الديوان، تفتح الذات الإبداعية صراعا بلاغيا رصينا، مع هذه الحياة المريرة والمذيلة بجلال الجنائزية واصطباغ الآني بالدم ، كأنّما على غفلة منّا تتسلّل و عن ظهرانينا،يد الردى كي تقطف الوجوه العزيزة والأسماء التي نحب،والفجيعة تجيء مضاعفة لمّا يطال ثقل المشهد السوداوي الذاكرة الطرية الغضّة التي وإن تلقّفته في بادئ الأمر بعفوية وبراءة وتسليم، يظلّ ما كابدت منقوشا في جدار اللاوعي ردحا من الزمن، يتخطّى الطاقة والمقدرة على تحمل تبعات المصاب الأليم الجلل. بحيث يقبع الألم بين الحنايا متوهّجا و أشبه بكتاب مفتوح:الْأَلَمُ كِتَابِي الْمَفْتُوحُ عَلَى تَارِيخِ الْجَسَد/هَذَا الْجَسَدُ أَبِي/أَلِفُهُ آَهُ الطَّفُولةِ/بَاؤُهُ بَيْتٌ تَرَكَهُ يَتِيمًا مِنَ الْغِبْطَة/يَاؤُهُ يَاءُ النِّسْبَةِ مِنْ نِدائِي/المَبْحُوحِ مِنْ غُصّةِ العَدَم. وإذن…توسّلُ الأجدى وإن حلمية ،لا يتمّ إلاّ من خلال افتعال أبوة رمزية في وسعها ترع كامل هذا الفراغ. وهنا تتماهى الذات مع انقسامها في أكثر من محطّة، تدلّل على ثورة وتغضّب خفيض يناور تحت خلفية من المواقف المبطّنة بأنفاس صوفية وملء روح عارية تماما وتوّاقة إلى فوقية خالية تماما من فعل الاستذءاب المشين، والطعن غير الرّحيم المودي بمنظومة تطلّعات الإنسان المدفوع عنوة إلى هاوية الوجود. فهمّ العالم الثقيل حدّ قصم ظهر البعير، يتفتّق من خلفية الفقدان المناوئ لمدارات النبل والجمال والنورانية في الكائن البشري إذ تتقاذفه التواءات الخيبة والضياع، وتزيّف جلّ ما حوله ، على نحو غرائبي محرّض على عقّ الغصن وترك بيضة الهامش،لأجل التحليق الحرّ، أبعد ما يكون هنا/ هنالك في الأعالي المخولة للزقزقة رجعا وصدى مطمئنا، وإن على سبيل العزلة الإبداعية، والوهم والمراوغة، وهكذا الانتشاء ولو برهة وبأقلّ جرعة برزخية ممكنة و رافعة فوق واقع سلْعنة الوجع، وتلوينها بنتانة العولمة المجحفة في حقّ روح منهكة ومنشطرة تتأمم أسباب خلاصها واسترداد مركزيتها ورجاحتها. قصائد شكّلت بتطريز ،واستغراق في معجم نيوكلاسيكي، يغترف من المألوف جاعلا إياه على هيأة نابضة بجماليات المحاكاة ،والتّسربل بنكهة اللمسة المضافة: من على أرض مضطربة فوارة بتناقضاتها،خارج الملكية والشرعية حتّى، ودروب معبّدة بظلال الغياب، وعائلة حصاد الخيبات من حروب الحياة، ومصادقة كرسي في مقهى بما الديدن روتينا قاتلا عافته النفس دونما إيجاد البديل،وخلاّنية ليل الهزائم،ومدن الإسمنت التي تقتل سيرة الحياة،والموتى العائدين في كرنفالات تقدّس نعوش القادم، ومثالب اغتيال المحبة في الوجود الأقوى لُحمة بهشاشة ومنفى الكائن. إلى تغريبة ناي يحاول مباغتة الحياة،يبارك خطوات التائهين في صحراء اللامعنى واللاطعم واللاشكل،وأنّى تعانقها أمسيات الرّحيل،ومن ثم خيار ترك الحياة للحياة،وكفى تدخلا قد يعصف بما تبقّى ودونه ذروة المرثاة والمناحة. وإلى مناخ مستنكر ومقزّز،تؤثثه محافل لصوص الكراسي الذين ألفوا اختطاف اللقمة من أفواه الفقراء،ينخرون أناسا ضعفاء ومدنا يسكنها ربو الملل فتلفى التسلية في ابتلاع أبنائها. والحقيقة أن كهذا مسرح، لا ضير في أن يمدّنا بانطباعات كاذبة، وباعثة على أولوية تقمّص أدوار الرائي الأعمى الذي يقوده قلبه المفتوح فقط، وهو يدوس دونما دراية نقاط قبح و وساخة العالم، قفزا إلى ما يغمد الروح في انتعاشة أبدية، وينتشلها من رتابة الزمن و فوبيا الاغتراب. شعرية نافرة محمولة على المعنى الزئبقي،وكمّ الدوال المتفلّتة، تترنّح في المراوحة ما بين مرايا الحضور والغياب،مسايرة لأسلوبية المراوغة والمكشافات التي توبّخ العالم:وَتُلْقي التّحية عَلَى بَدْوٍ قَادِمِينَ مِنْ فِجَاجِ النِّسْيَان/عَلَى حَصَّادِينَ يَزْرَعُونَ الْمدَى بِغَنَائِمِ الْمَنَاجِل/يَنْتَشُونَ بِطَيْبُوبَةِ الْحَيَاة/وَهُمْ وَاثِقُون أنَّ الأَرضَ كِتَابٌ مَفْتُوحٌ عَلَى الْمَاء/وَأَنَا لاَ أَنَا/لِذَالكَ أُرَاوِغُنِي/ كَيْ أَكونَ مَا أَكون. ذلك ،وحيثما يطغى خطاب ذمّ الذات، لا لتبرير الفشل والعجز، وإنّما لتهيئ وتثوير هواجس القفز فوق جرح اللّحظة، والتنّصل من فصول لعبة الإمساك بجمرة الحياة المنقوصة والممقوتة، يتّقد فتيل الحنين إلى البادية، وتلوّح تباشير العودة إلى مكان هجوع الذاكرة. لكنه انشطار يصون للذات وقرينها المنازع أو المناقض، اشتراطات التصالح في شموليته وعلى امتداد تلاقح وتكامل أبعادها الأنوية والغيرية والوجودية ،ويسكب من فانطازيا التيمة المحتفية بما ورائيات حياة الشلل والخمول، ويمارس جناية تدوير البوح الملغوم بانثيالات تجربة ما بعد الموت،مستنبتا المواصفات شبه المكتملة لشعرية مغرية ترفع من قيمة القصيدة في خضم عصف ذاكرة تختزل أسمى مفردات الطفولة المطعونة في هويتها،وترتقي بأهدافها على أنقاض زمن العدمية والهراء،حدّ وضعها فوق الحياة المنوطة بجرائم واغتيالات الحلم الإنساني المشروع. تلكم شعرية الموت بوصفها معادلا لولادات ثانية ،تحاول أن تستدرك بها الذات الإبداعية المحذوف من حياة جديرة بصاع القدح المستجلب لحياة موازية ترسم ملامحها القصيدة المتضمخة بصدق المعاناة واختمار التجربة، والتي لا تقبل مهادنة ولا مساومة فيما ينشدّ إلى جذور شجرة الإنسانية انتصارا لهوية لامّة ومشتركة. * شاعر وناقد مغربي