أقسم لكم أني لست عاقا،أنا بار بوالدي.هما يعترفان بهذا.نعم أتعبتهما ولكن بدون نية رغم أن ما فعلته كان عن سبق إصرار وترصد.تشابكت علي الحلول وارتميت على واحد. بنت جارنا ملكت علي عقلي وتفكيري،ابتليت بها فلم أستطع الهروب منها.عيناها تشع ذكاء وتوهجا،وعقلها يزن ذهبا. كانت أكبر من سنها،جمعت الرزانة والثبات وكل شيء..حتى الأخلاق.أسير بمحاذاتها يوميا دون أن أستطيع أن أصارحها بما يختلج في قلبي.كنت ضعيفا جدا أمام سلطة الأخلاق و الجمال و..الحب. عشقت هدني العشق سهرت،تعبت،هباء عصرت دماغي باحثا عن حل،عبثا عزيت قلبي،باطلا نشدت النسيان…أمشي في الطريق مشتتا قلبي بين عقلي. كتبت رسالة طويلة،استغرقت مني ليال بيضاء قضيتها ساهرا أنقح و أعدل في عباراتها. سهرت الليل وكان الليل طويلا. كنت أعرف أن هذه الرسالة هي الرصاصة الوحيدة الذي أملك،إن أخطأت التصويب فقدتها إلى الأبد.خرجت لصلاة الفجر و في الطريق رميتها من تحت الباب. في الصباح ذهبت إلى الإعدادية منهكا مرهقا جراء السهر و التفكير،نمت في الحصة ولم أنتبه إلا والأستاذ يقف بجانبي،وبحكم أني كنت مجدا لم يشأ إحراجي فوضع يده على جبيني وقال لباقي التلاميذ «إن حرارته مرتفعة جد،إنه مريض جدا».ثم وجه إلي خطابا مباشرا:»اسمع يا بني،أعرف مدى حبك للدراسة لكن الصحة أولا اذهب إلى المنزل لترتاح..» وكان أن كسبت تعاطفا من لدن الجميع بفضل حكمة الأستاذ وذكائه.. رجعت إلى منزلنا،يا ليتني ما رجعت،لو أخبرني أحدا بما يقع ما رجعت،لكن لم يكن هناك لاهاتف ولا فيسبوك ولاهم يحزنون.وجدت الحومة مقلوبة سافلها على عاليها.أب الفتاة يرغي ويزبد وأمها تولول وتضرب فخديها بكل قوة:وناري هذ الصلكوط خرج على أخلاق بنتي.. الرسالة وصلت إلى مقر الشرطة،والمخزن من سيفكها على حد قول والد الفتاة. وجدت مساندة كبيرة من جدي الذي أوصاني بعدم إنكار ما في الرسالة،و أنني لست سارقا ولا لصا بل رجل أحب امرأة كما يقع في هذا العالم ومن لم يعجبه الحال فليشرب من المياه العادمة وليس البحر. دخلنا عند أحد المسؤولين الأمنيين وقرأ علينا الرسالة بصوت مسموع،وكانت أول مرة تسمع الفتاة محتواها،لأن الرسالة وقعت في يد والدها مباشرة؛من تحت الباب ليده. سألني ذلك الضابط الذي لم أعرف رتبته:هل أنت من كتب هذا؟ قلتت:نعم..أنا من كتبها. -لمن كتبتها؟ سألني بهدوء. -كتبتها لوفاء،وأشرت برأسي تجاه بنت جارنا.فصاح والدها في غلظة وجفاء:»إنها وقاحة وقلة حياء…»،فرد عليه جدي بأن «الوقاحة وقلة الحياء هي عندما يمد يده لجيبك».فنهرهما الضابط وأخرجهما وبقينا نحن الثلاثة،فحثنا المسؤول على ضرورة الاهتمام بالدراسة وأن أيام الحب لم تصل بعد..كان في منتهى اللياقة والاحترام أقنعنا وخرجنا متصالحين. في المساء،وفي طريقنا إلى الإعدادية وجدت وفاء تنظرني فلم أستطع أن أتجنبها وسرنا معا، أخبرتني بأنها أعجبت برجولتي وشهامتي و أنني دافعت عن حبي لها أما الجميع و أن ما سمعته في الرسالة لم يكن كلاما فقط بل ترجم إلى فعل في لحظة اختبار حقيقية.وفي الفصل جلست جنبي في نفس الطاولة.لم أصدق… من سوء الحظ أن هذه الحصة سيراقب الأستاذ الرياضيات الواجبات المنزلية التي لم ننجزها معا ولأول مرة.فكان يتجول بين الصفوف يراقب و يسمع الأجوبة ومن لم ينجز يوجهه إلى السبورة من جل حصة من العذاب الحقيقي:ضرب وركل وصفع..ما أفزعني هو الإهانة التي سأتلقاها في حضرة من خفق لها قلبي.أن يهزمك الحب شيء عادي ،ن يهزمك المخزن شيء أكثر من عادي.أما أن تهزمك صفعات صفعات فشيء مذل وقاس. وقفنا أمام السبورة كطابور من المجرمين ينتظر الإعدام.فكرت في الهروب لكن سأكون جبانا فوقفت خلف التلاميذ في اخر الصف عصبيا حائرا ثائرا أضع يدي في جيبي أنزعها أشبكهما خلف ظهري أفكهما بسرعة أقاوم كعصفور في قفص حديدي..أحب وفاء أكرهها تراودني لحظات من الضعف تراودني لحظات من القوة،أفكر في حل. طبقت وصية جدي الذي تقطر انتهازية ووصولية:في اللحظات السعيدة كن في المقدمة،وفي اللحظات السيئة كن خلف الجماعة.وفاء كانت أول من أدى الثمن وتبعها الآخرون تباعا دون مقاومة ولما وصل دوري قلت بهدوء ورزانة مفتعلة :»يا أستاذ لقد أنجزت التمارين ولكنها لم تقنعني فتحرجت في قراءتها عليكم». -»عد إلى مكانك وأقرأ أنجزت».قال الأستاذ متحديا الصراحة لم أنجز شيئا،فقد بدأت أتذكر أجوبة السابقين وأعيدها بطريقتي الخاصة.لما انتهيت قال لي بابتسامة مشجعة:»أجوبة جميلة ومقبولة رغم بعض الأخطاء،لكن عليك تجنب الخجل و لا تحاول أن تكون مكتملا فالكمال لله،والهدف عندي هو المحاولة وليس دقة الانجاز المتناهية،لحظتها تنفست الصعداء كمحكوم بالإعدام جاءه العفو لحظة التنفيذ. في اللحظة ذاتها نهضت وفاء من مكانها وقالت،بدون إذن من الأستاذ،بصوت مختلط بالنحيب:»يا أستاذ عليك أن تكون عادلا،فالذي يجلس بجانبي لم ينجز الواجبات بل غشك وخدعك وقرأ من صفحة بيضاء ورفعت الدفتر من أمامي كدليل واضح على بشاعة الإدانة».