كعادتهم يحاولون معرفة ما المطلوب منهم بالضبط ، تشرئب أعناقهم؛ يتمايلون ؛يهمسون لبعضهم ، هم في مأزق والتعليمات مهما توافرت و كانت وثيقة الصلة بالموضوع إلا أنها تبقى قاصرة على زرع متعة الحماس و التشويق في أرواحهم كان درسا في كيفية إكساب التلميذ مهارة كتابة مذكراته يوما بيوم تزدحم الأفكار في أذهان الفتية لكن اللغة أضيق من صدورهم . قلت لهم: تكلموا عن حبكم، أنتم مراهقون؛ و لكل منكم حكايته، لن يقرأ أحد ما كتبتم . الحب نظرة فكلام؛ ثم موعد فلقاء، كيف تطور هذا الحب في ثلاثة أيام؟ كل يوم بفقرة، تسجلون التواريخ بعناية لتؤرخوا للذكرى؛ ثم ثلاثة أسطر تصفون في كل منها أحاسيسكم انشرحوا و ابتسموا ملئ أفواههم ، و تساءلوا: كيف تقرئين يا أستاذة ما كتبناه؟ و من سيصحح لنا؟ و انفجروا ضاحكين. فشرعت أحكي لهم قصة حبّيَ الأول. مع بزوغ فجر أولى بدايات سنة دراسية مفرنسة؛ كانت فيها كلثوم المحفّز الأول و هي تهلّ علينا كالسّهم سريعة في خطواتها ؛ تتوسط منصة الفصل و تقف تحاذي بعينيها البارزتين أجسامنا الصغيرة تتأبط محفظة جلدية باليد اليمنى، بينما تشير ببنصرها المعقوف على أحد الأطفال ؛ تنهال عليه بوابل من الشتائم بسبب عدم احترامه لطقوس الاستقبال عند وصولها. استسلم مصطفى لقضاه و غادر مقعده ثم تقدم بخطوات ثابتة من معلمته، صوت الصفعتين المتتاليتين من كفها الأيمن على خديه أذهل الجميع ، لا أنساه ما حييت لم تكتف كلثوم بالصفعتين ؛ و بقبضة سبابة و إبهام ضغطت على أذنه اليمنى؛ سحبته نحوها ؛جحظت عيناها؛ و بغضب شديد رددت: هذا مصير من لا يقف لمعلمته يوافيها التبجيل ، كادت المعلمة أن تكون رسولا. أتذكره كأني أراه اليوم ، طفل بعيون شاردة كأنهما قطعتان متزاوجتان أشبه بمرآة أو منظار ليلي يتنقلان عبر أمواج الزمن، كان فريدا من نوعه ، و كلثوم لا ترحم ، عازمة كانت على أن تذيق مصطفى أكثر من غيره جميع أنواع التنكيل الجسدي و النفسي ؛ كونه لا يتوسل ولا يبكي. أحببت مصطفى، كنت أحثه على حفظ دروسه، و إن تلعثم و هو يستظهر جدولَيْ الضّرب و الصّرف ،أهمس بالجواب الصحيح في أذنه. كنت أكرهها و هي تعذب أيا كان من رفاق صفي . سائل أبيض كان ينزل من أذن مصطفى، لمحتني مرارا أمسحه له بمنديلي ، لم تشجعني يوما ما على ذلك ، و لا هي مرة زجرتني ، لكنها أمرتني مرارا بتغيير مقعدي قصد إبعادي عنه . لكن ذلك لم يكن يزيدني إلا إصرارا على الاقتراب منه، أتحاشى نظراتها فأطرق برأسي لا خوفا و لا وجلا و إنما دلفا. ماذا لو كان لكل المعلمات عينين جميلتين كأشعة شمس دافئة أو قطرتي مطر تطل علينا بهما لتداعب عيوننا البريئة ؟! كنت يوميا قبل النوم أنزوي إلى ركن من غرفة المكتبة، أتناول قلما وأكسو بياض صفحة جديدة من وحي خواطري، أسقط غضبي ؛ ألعن المرض و القسوة ؛أتخيل شخوصا لمقاطع من مسرحية ألعب فيها دور المعلمة؛ فلا يعجبني؛ و دور الزوجة فلا يعجبني ؛و دور الطبيبة فلا يعجبني. كل الأدوار تشكل علقة حياتية تقمع حرية أحلامي البسيطة. أدخل في دوامة اللعب أحضن دميتي و دبدوبي لأقول لهما ما أحلم به، لعلني أنال من حالة قهرية تقبع في باط لو كانت كلثوم قادرة على كتم أنفاسي أو فقأ أعيني ؛ لما ترددت لحظة ؛ و لكنه المدير من كان يشفع لي عندها. تعلم أني أصغر براعيمه و بؤبؤ عينيه . عند عودتي للبيت ، مرارا كنت أتوقع من والدي كلاما أو تلميحا بشأن مصطفى ، لكن الجرأة كانت تخذلها ، لعل الكلام في الحب يربكها ، فتخذلها لغة العيون وتبوح نيابة عنها بما تكتمه في ذاتها؛ كابسة أنفاسها أحببت مصطفى، رددنا الأناشيد و لهونا؛ ذهابا و إيابا من البيت إلى المدرسة؛ حلمنا ؛عشنا سويا أسعد لحظات حياتنا؛ و الرفاق من حولنا . و دارت الأيام، ومرت الأيام ، و على غفلة من قلبي البريء، رحل ذات يوم مصطفى ؛ و لم يترك أثرا؛ كما ترحل الأحلام بعيدا؛ حيث تستريح هادئة .. ومرت الأيام أبدا لم تتوقف عقارب الساعة يوما لم يستسلم الزمن لم يرحم كما لم يرق قلب كلثوم يوما لمصطفى ماذا يا ترى حل بمصطفى؟؟ لو كان حيا يرزق لجادت عليّ بإطلالته إحدى منعرجات أزقة مدينة فاس الطيبة التي تحتفظ بين كل زقاق و قوس و باب بذكرى حكاية حب أبهى من حكايا ألف ليلة و ليلة. لكنه الزمن السفاح داهمني سلبني الحق في الاستفسار عن مصير مصطفى علّمني الزمن كيف يصير الحب حراما و سؤال البنت على أحوال الولد فيه شبهة ًو أن الأنوثة فيَ تصير يوما بعد يوم صارخةً و صرت شغلَ أمي الشاغلَ و أدركت أن مجرد وجودي و أن التغير الفيزيولوجي الذي لا ذنب لي فيه فتنة فتنة صرت فتنة هذا الزمن! كل شيء جميل فيه ؛ حرام ، فقط الكذب و القسوة ؛حلال ، بدليل أن كلثوم صارت يوما ما جارة ، وكثيرا ما ألحّت الطريق و أصرّت إلا أن تلاقيَني صدفة بأخت مصطفى . هل مات مصطفى؟ و هل يسأل الموت عن الموت ؟حينما نتنكر لأجمل لحظات حياتنا، نقذف بها بعنف في غياهب، في دهاليز، في مزابل التنكر و النسيان .تلك هي عين الموت