لن يطل مجددا على جبل درسة بتطوان، لن يتنسم رائحة النسيم القادم من جهة الشاون، لأنه فتح باب الأرض، صباح أمس الخميس، وغاص فيها.. إنه الشاعر المغربي التطواني محمد الميموني، صاحب «بداية ما لا ينتهي» (آخر دواوينه الشعرية الصادر سنة 2017، عن «باب الحكمة»). وبرحيله، يدلف صوت شعري مغربي مناضل، بالمعنى الغرامشي، إلى رفوف الشرف في بيت التاريخ. لأن سيرة الرجل، كانت، وظلت، عنوانا لقيمة الوفاء والإلتزام. الوفاء للكلمة المبدعة، والإلتزام بالقيم الكونية التقدمية المنتصرة لحقوق الناس، أولئك البسطاء المقاومين أمام صلافة الموت والنسيان. وليس غريبا منه ذلك، هو الذي ظل رجل تعليم فاضل، من ذلك الجيل الذي كان التعليم عنده، ليس مهنة، بل اختيار حياة، أي مربيا للأجيال، ناقشا للقيم في لاوعيها إلى الأبد. ليست تطوان، ولا الشاون (موطن مولده)، وحدهما الحزينتان برحيل الشاعر محمد الميموني، بل بلاد بكاملها تستشعر ألم فقدان علم من أعلام جيل الشعراء المغاربة من الستينات. جيل محمد السرغيني، الخمار الكنوني، عبد الكريم الطبال، أحمد المجاطي، أحمد الجوماري، بنسالم الدمناتي، عبد السلام الزيتوني، عبد الرفيع الجواهري وأحمد صبري.. فرسان الكلمة المبدعة، أولئك، عنوانا عن ذائقة إبداعية مغربية، خاصة ومميزة، ضمن ريبرتوار الشعر العربي الحديث والمعاصر. جيل لم يقلد أحدا، قدر صعوده من قلق السؤال المغربي، ومن لغة المغاربة، في معناها الحضاري، تلك التي بلورتها الخلطة السحرية التاريخية، بين صوت الجبال وصوت السهول وصوت الصحراء وصوت البحر.. تلك التي نحثها احتكاك المغربي مع العالم منذ مئات السنين وعشرات القرون، فأنتجت ما أنتجته من لغة شعرية، فيها كبرياء الجبال وخصوبة السهول وحكمة الصحاري ولج البحار. محمد الميموني، الذي انتصر دوما للقيم الكونية، عاشق الشاعر الإسباني لوركا ومترجمه إلى العربية، كان واحدا من أهم شعراء المغرب، المنتصر للمرأة، كإنسان. هو الذي ظل دوما، يقدم من خلال سيرة حياته مع زوجته السورية، السيدة فوزية، المثال عن معنى ما تكونه الرفقة بين المرأة والرجل: قصيدة أخرى للحياة. كان الرجل صموتا جدا، هادئا وشفيفا كنسيم الصباح، لكنه كان صارما كصخرة الأعالي، تلك التي تحرس دوما مدينته الشاون، حين يتعلق الأمر بالمبدأ السياسي. ولم تكن تمة أبدا خصومة بين الشاعر والسياسي فيه، هو الذي ظل لسنوات كاتبا إقليميا لحزب الإتحاد الإشتراكي بتطوان. وكان يدرك بفطنة النازل من أعالي الجبال، كيف يضع المسافة بين القصيدة والخطبة السياسية، تماما مثلما يضع «راس الما» هناك في أول الجبل، المسافة بين جدر الشجرة وزبد الضفاف. وحين توالت دواوينه الشعرية («آخر أعوام العقم»/ «الحلم في زمن الوهم»/ «طريق النهر» / «شجر خفي الظل»/ «بداية ما لا ينتهي»)، كانت تطوان تعيد تصالحها مع الذي كانته دوما، معنى للمدينة المغربية، تلك التي تعلي من قيمة الكلمة قبل ذهب التجارة. تلك التي فيها يتحقق، المعنى المغربي، لإنتاج المعرفة بتواشج الإرث الأندلسي مع الإرث الجبلي مع الإرث الريفي ومع خلاصات حكمة جامع القرويين في فاس. ولم يكن محمد الميموني، غير عنوان آخر لتطوان تلك. حتى حين أصدر كتابه العميق «كأنها مصادفات» الذي هو «تداعيات سيرة ذاتية»، كان الرجل متصالحا مع الطفل الذي ظل يسكنه، ذاك الذي يظل يسكن كل شاعر أصيل. أي أنه يظل دوما طفلا أمام أمه الحياة، ينسل إلى ظلها، ويرضع من ثدي معانيها، ويتعلم من أبجديات قول الحكمة فيها. ففي تلك السيرة، نكتشف محمد الميموني، وهو يدب في أديم الأرض بمدينته الشاون، في الأربعينات والخمسينات، نقرأ تفاصيل العائلة، قصته مع الأم والأب، مع الأمكنة والناس، مع الأدب والكتابة، مع المرأة الزوجة والأبناء. ونعيد من خلال ذلك اكتشاف محمد الميموني، الإنسان، ذلك المغربي الشمالي، الهادئ، الأشبه بنسر يطل على ملتقى البحرين، المتوسط والأطلسي، من على جرف عال، إسمه التاريخ. وداعا الشاعر محمد الميموني، وكل العزاء لتطوان ولقرون الجبال، لزوجتك الفاضلة السيدة فوزية، لأبنائكما فردوس، خالد، ورياض. لشقيقك الشاعر المغربي أحمد بنميمون، ولكل الجسم الأدبي والشعري بالمغرب.