تصوير: عمر سعدون أسدل الستار عن فعاليات المهرجان الوطني للشعر المغربي الحديث في نسخته الواحدة والثلاثين، دورة الشاعر محمد السرغيني المنظم من طرف جمعية أصدقاء المعتمد بشفشاون ،بعدما امتدت على طول يومي:14 و15 أبريل 2016.وقد شارك فيها مجموعة من الشعراء والنقاد المغاربة بمختلف حساسياتهم وأجيالهم. استهلت الجلسة الافتتاحية، المسبوقة بمقاطع موسيقية من أداء فرقة محلية مختصة بالموسيقى الأندلسية،بكلمة رئيس جمعية أصدقاء المعتمدالشاعرعبد الحق بن رحمون الذي رحب فيها بالمشاركين شعراء ونقاد مبرزا دواعي تنظيم هذا المهرجان الذي يحتفي ،هذه السنة، بالشاعر محمد السرغيني ، أحد رواد الحداثة الشعرية المغربية ، وبمنجزه الإبداعي الرائد إيمانا بأن الأوطان الراقية تكرم شعراءها وفلاسفتها ومفكريها لأن الإنتاج الفكري صنو الإنتاج المادي بهما تتوازن المجتمعات. كما أشار إلى مكانة هذا المهرجان الذي حافظ على استمراريته منذ نصف قرن ، وظل منبر الشعر المغربي وذاكرته وعكاظه الرمزي الذي يحج إليه الشعراء والنقاد من مختلف أرجاء المغرب .وأعلن أن حدائق القصبة المضمخة بعبق التاريخ وفتنة الطبيعة ستكون مكانا لاحتضان الفقرات الشعرية التي تنشطها أصوات الشعر المغربي بكل أجياله وأطيافه وبمكونيه العربي والأمازيغي، وأن المركز الثقافي بعراقة معماره سيكون مكانا لاحتضان جلسة النقد والشهادات. وأكد أن مدينة شفشاون حريصة على جعل هذا اللقاء الشعري ملكا للشعراء والمثقفين يغنونه بحضورهم وإبداعاتهم وكتاباتهم لرمزية هذا المهرجان الذي يعد أعرق مهرجان شعري مغربي وأحد أعرق المهرجانات العربية والمغاربية،الأمر الذي يدفع الجمعية إلى السعي لجعل المهرجان أ تراثا إنسانيا على غرار مهرجانات تشبهه في عراقتها وقيمتها. ولم يفته إلا أن يشكر الشعراء والشاعرات والنقاد المشاركين وكذلك داعمي وشركاء المهرجان من وزارة الثقافة ومندوبيتها الإقليمية وعمالة إقليمشفشاون والجماعة الحضرية للمدينة ومجلس جهة طنجةتطوانالحسيمة والمركز الثقافي. وبعده ،أعطى الشاعر مخلص الصغير الكلمة للمحتفى به محمد السرغيني الذي عبر عن شكره الكبير للجمعية مؤكدا أن حياته لم يصرفها هدرا وإنما صرفها في شيء أحبه، وزادت من حبه له هذه اللحظة الاحتفائية التي يعيشها رفقة شعراء من جيله أو من الأجيال اللاحقة ،و ألح على أن يكون الشاعر كونيا وأن يكون تحت تأثير قوة داخلية وخارجية . ثم قرأ نصا شعريا مضمخا بالحداثة من ديوانه الشعري الأخير. واستمر المسير في إدارة الجلسة الشعرية الأولى باقتدار فتعاقب على المنصة كل من الشاعر عبد الكريم الطبال ومحمد الأشعري و الشاعرة ثريا ماجدولين والشاعر محمد علي الرباوي ومحمد بودويك ثم أعقبتها الجلسة الثانية التي نسقتها الشاعرة صباح الدبي والتي ساهم فيها مجموعة أخرى من الشعراء والشاعرات:أمينة لمريني، صلاح بوسريف، عبد الدين حمروش، وأحمد بنميمون. وبعد الجلستين أقيمت حفلة شاي على شرف المشاركين والحضور كانت مناسبة للتعارف والتواصل الإنساني والإبداعي. وفي صباح اليوم الموالي انعقدت ندوة نقدية في محور:"التجربة الشعرية عند محمد السرغيني" بالمركز الثقافي "دار الثقافة"(الهوته) أدارها الشاعر والإعلامي مخلص الصغير التي افتتحت بثلاث شهادات في حق المحتفى تقدم بها كل من الشاعر عبد الكريم الطبال الذي حن إلى زمن الدراسة بجامعة القرويين يوم كان على معرفة بثلاثة طلاب ( محمد السرغيني علال الهاشمي الفيلالي ادريس بنجلون) رغم عزلته ظل في علاقة بهم ،من بعيد، كما ظل يتتبع ما ينشره هؤلاء من نصوص إبداعية... ووقف عند أول لقاء له بالسرغيني الذي شارك سنة 1965في المهرجان الأول بالقصبة بشفشاون بحضور الخمار الكنوني وأحمد الجوماري والموسيقي عبد السلام عامر الراحلين. وأكد أنه ظل يقرأ للمحتفى به ما ينشره من شعر في الستينيات ولكن سرعان ما تفرقت بهم السبل وسار كل واحد في واديه وإن كان النقاد يقولون إنهم في سبيل واحد. أما الشاعر عبد السلام الموساوي فقد عبر عن سعادته لحضور هذا الاحتفاء بالشاعر السرغيني معتبرا شهادته شهادة طالب في أستاذه والتي عنونها ب "شاعر لا يتمرَّن على الحب بالمجاز" مؤكدا على مرور سنوات على لقاء الطالب بأستاذه الذي وجد في بستانه المعرفي الخصيب ( دروسه الأكاديمية جلساته الخاصة) كلما يتمناه. تلك الجلسات التي تبدأعادية غير أنها سرعان ما تتحول إلى ندوة تناقش مجالات معرفية متعددة وخصبة. واعترف بأن ما تعلمه من الأستاذ تجاوز محتويات دروسه الجامعية إلى النبش في عوالم شعرية واسعة كعوالم شعر أمل دنقل وموضوعة الموت في الشعر العربي المعاصر.. وأكد أن نصوصه تقنعنا بأن اللغة العربية بعد القرون الطويلة ما تزال قادرة على التهيب والإنجاب لكونها تحمل معرفة إنسانية ووجدانا لا يابه للألم الكبير وأن الشاعر ظل وفيا لأصدقائه لما سافر إلى العراق لمتابعة دراسته مازاده من الاطلاع الواسع على الشعريات العالمية والسير قدما باتجاهه الفني. هكذا نجده في نصوصه حكيما يسخر باللغة كما نجده متقنا لمجموعة من اللغات وثقافاتها ومطلعا وشاهدا على الشعر المغربي بشكل مستمر. وكشف أن السرغيني لم يفرح بمنصبه الجديد (نائب العميد)وأنه تأخر في إصدار ديوانه الأول .. وخلص إلى أن السرغيني خريج القرويين لم يلبث داخل عباءة التقليد وإنما خرج إلى الحداثة. أما الشاعرة أمينة المريني فإن شهادتها لم تكن إلا شهادة ابنة جاره ، وقد عنونت شهادتها ب:"خارز الحرف محمد السرغيني" حيث ذكرت علاقة أبيها المرحوم بجاره السرغيني اللذين ينتميان إلى حي رأس الجنان الواقع على عدوة القرويين. كان يذكره أبوها بكثير من الإعجاب حاثا أبناءه على الدراسة أسوة به لما علم بهجرته إلى العراق لمتابعة دراسته. كما تذكرت رؤيتها للسرغيني برحاب الكلية أستاذا يتحلق حوله الطلبة ،ومحاورتها له في الإذاعة يوم كانت تنجز برنامجا بالإذاعة الجهوية بفاس ما مكنها من اكتشاف كنز ثقافي ثمين قسمته على أربع حلقات. ثم استرجعت مكارم زوجته الداعمة لزوجها كى يحقق ما وصل إليه، وأت أنها أولى بالاحتفاء والتكريم ايمانا بأن وراء كل رجل عظيم امرأة عظيمة أو العكس. وبعده أدلى المحتفى به بكلمة شكر فيها الأساتذة الذين قدموا شهاداتهم في حقه مؤكدا على أن الشاعر يحاول أن يضع كامل قوته في شعره ، وهذا اجتهاد مشروع، وان قوة الإشارة التي يتضمنها الشعر تحمل في طياتها عالما خاصا يريد أن ينقله إلى الآخرين.. كما أى أن المعنى يختلف من إنسان لآخرلاختلاف تكوينه : تكوين فلسفي أو تكوين عضوي.. وبعدئذ انتظمت الندوة التي شارك فيها الناقدان : نجيب العوفي ومحمد بودويك، فالأول كانت مداخلته تحت عنوان:" محمد السرغيني شجرة الإبداع المباركة" اعتبر فيها السرغيني شجرة إبداعية وفكرية متشابكة الأفنان، وارفة الظلال وصامدة مع الأزمان لأنه لا يتعب من قول الشعر باعتباره زاد روحه وسنده في الوجود. فالاقتراب منه تحفه هيبة خاصة فهو أب لكل الأجيال لكنه شاب متجدد مع الأجيال يساند أبناءه وأحفاده في المسافات الصعبة.لذا من الصعب تصنيفه جيلا وزمنيا. إنه فنيق شعري متجدد يتنقل من فنن لآخر ويعزف على أكثر من وتر. فالشاعر قدره في الشعر وخاصة حين يكون الشعر أسبق في حياته. وأكد الناقد أننا أمام شاعر لا يُفهم ولا يُهضم في زمانه ولكنه خالد في سمع الزمن، فالشاعر العميق لا يفهم في واضحة النهار بل في هدأة الليل. فهو مؤسس القصيدة المغربية المعاصرة رفقة معاصريه عبد الكريم الطبال وأحمد المجاطي. نشر شعره في مجلة "الأنيس" التطوانية باسم مستعار( محمد نسيم) ابتداء من سنة 1949 . يعد بمعية عبد الكريم الطبال ومحمد الصباغ المؤسسين الأوائل للشعر المغربي الحديث. ثم ذكَّر بمجموعة من حواراته التي نستشف منها مفهومه للشعرمعتبرا إياه فاتا للعناوين الغامضة والقصائد الشعرية الغامضة ولذا فهو مشرِّع شعرية الغموض ، حيث اتخذ هذه الأخيرة والإيغال الدلالي نزعة ومنهاجا له صادرة عن رؤيا شعرية باطنية والسبب هو دخول الفكر على الشعر، واختراق اللغة العادية بخلق لغة انزياحية شبيهة باللغة السوريالية ... فهو وحش الشعر المغربي وذلك لفحولته التراثية من جهة وحداثتها الوارفة من جهة ثانية، وغموضه الملغوم من جهة ثالثة. فمساره الشعري مر بمرحلتين: 1 مرحلة الصنعة الشعرية المتنوعة المصادر؛ 2 مرحلة الصور فيها أواصر الغنوصية الشعرية والوجودية والفلسفية. وفي الأخير خلص إلى أن محمد السرغيني شاعر حداثي وتراثي كبير على بينة من أمره وقواعد لعبه الشعري ، واحد مؤسسي كلية الآداب والعلوم الإنسانية بفاس، وحلقة جامعية لصقل الأصوات الجديدة بجريدة "العلم" بعد رحيل مصطفى الصاغ، وكاتب مواظب على كتابة المقالات الأدبية والفكرية على الصفحة الأخيرة من نفس الجريدة في عمود عنونه ب:"أفكار تحت الأرض". أما الناقد محمد بودويك فقد قدم مداخلة موسومة ب:"شعر محمد السرغيني:يؤبد زمن قيامته" مستهلا إياها بأن التقاء الشعر والفكر قدرة مبهرة على الكشف والغوص في عوالم اللغة والفكر والشعر وباقي أجناس الفن والأدب، مهارةمدوخة في إتيان الشعر بالفكروالفكر بالشعر أو ما سمى بالشعر الفكري الوجودي. فالسرغيني يتكئ على الموروث والعجيب الإنساني من الابتهاج المعرفي والروحي ، ينشئه ويشكلنه بسبيكة شعرية فكرية ... كتابه : "تحت الأنقاض ... فوق الأنقاض" مسار مصير إنساني ينبت في الحطام ، وسرعان ما ينهض من خرابه مما يشي بجبروت الإنسان في ضعفه كما أنه أيكة من الأفكار والتعريفات والمقولات والحكمة، فهو تكملة وتوسعة لعمله الشعري السابق" من أعلى قمم الاحتيال" مادام أن التيمة المحورية لهما هي: أنقاض شظايا أشتات فتيت مِزق حطام بقايا أشياء انكسارات .. كل ذلك توصيف لما لحق المكان والفضاء والروح من خراب وهدم وطمس معالمه التاريخية والحضارية التي لا تزال موشومة في الذاكرة والوجدان . وعبر الناقد عن تهيبه من الاقتراب من الكتاب وعمرانه اللغوي وشوكه المعرفي المستكن في قطيفة الإلماع الشعري والدفق الإحساسي. كما ذكر بأعماله :"بجار رحيل قاف"، "الكائن السبإي"، "وجدتك في هذا الأرخبيل"،" من فعل هذا بجماجمكم"، "احتياطي العاج"، "من أعلى قمم الاحتيال"، " وصايا ماموث لم ينقرض"و"تحت الأنقاض ... فوق الأنقاض" التي كانت دوما نبعا ثريا فياضا يزركش الشعر بمطلقيات ومؤثثات واسعة. كما ذكر بوفاء السرغيني للشعرية بمفهومها الكوني العميق، الشعرية التي تتصاهر فيها الرؤى جميعها...فيصبح الشعر مفكرا أو مشعرنا ومحافل السرود المختلفة وكذلك السخرية. كما اعتبر التقويسات التي تتخلل نصوص بحواش خادعة مدسوسة في تضاعيف الكلام الشعري تعمل على تفتيق الدلالة وتوسيع المعنى محددا الأهداف المتوخاة مما يؤثث رفوف عمارته الشعرية من حكم ونصوص وأمثال شعرية وذكر بأن السرغيني ربما هو الوحيد عربيا قديما ومعاصرا الذي أنشأ الشعر بلغة المتنبي كما بلغة مولييرضمن الديوان الواحد . وهذا يندرج في فتوحات إضافية تسبغ على الشعرية المغربية تنوعا وتحديثا وأصالة ، وعلى العربية رفدا وعمقا وتخصيبا وإنسانية وثقافة مخصوصة. وخلص إلى أن الشاعر السرغيني مدرسة قائمة الذات ، ونهر شعري طام هادئ في المظهر ومصطخب في الداخل. وأنه أقام صرحه الشعري على نقطتين أساسيتين هما "عقلنة الشعر ووجدنة الفلسفة". ومساء بحدائق القصبة الأثرية (وطاء الحمام) حج جمهور غفير وحضر السيد عامل الإقليم اسماعيل أبو الحقوق، الحريص على نجاح المهرجان واستمراريته رفقة وفد رسمي ،انعقدت الجلسة الشعرية الثالثة التي أدارها الشاعر عبد الجواد الخنيفي والتي شارك فيها العراء والشاعرات: حسن الوزاني، عبد السلام الموساوي، مخلص الصغير ، حياة بوترفاس ، صباح الدبي والزبير الخياط. أعقبتها الجلسة الشعرية الرابعة التي سيرها الشاعر الزبير الخياط والتي تعاقب على منصتها الشعراء والشاعرات: جمال أزراغيد ، عبد الحق بن رحمون، عبد الرحيم فوزي، عبد المنعم ريان، محمد بن يعقوب، أمل الأخضر وعبد الجواد الخنيفي. وقد نظم في إطار المهرجان معرض للديوان الشعري المغربي. ثم أعلن رئيس الجمعية المنظمة عن اختتام فعاليات الدورة الواحدة والثلاثين للمهرجان بعد متعة القراءات الشعرية بمدينة شفشاون التي كانت على مدى يومين منبرا أخضر للقول الشعري والنقدي ومحفلا وفيا بتكريم رائد الحداثة الشعرية المغربية محمد السرغيني. كما ظلت عكاظا للشعراء والنقاد والإعلاميين وعموم المثقفين الذين حجوا أليه من كل جهات المغرب. وكان الشعراء رسل الجمال والمحبة والسلام ومنارات الهدي والتنوير. لقد كانت شفشاون عروس الكلام ، وهي المدينة التي تتشرف بالشعر والفكر وتجمع أهله وتكرم اصفياءه لأنها تؤمن بثقافة الاعتراف. وخلص بأن دورات المهرجان المنتظمة سنويا وإشعاعها الإبداعي مسؤولية جمعية أصدقاء المعتمد والداعمين لها والشركاء محليا وجهويا ووطنيا ومسؤولية الشعراء والمثقفين من أجل أن يستمر وهجها وألقها وانتظامها حفاظا على تراث شعري وإنساني .وجدد شكره لكل الداعمين والشركاء والمشاركين في المهرجان شعراء ونقاد ضاربا لهم موعدا الربيع القادم في حلة جديدة. وصفوة القول، إن المهرجان الوطني للشعر المغربي الحديث في دورته الواحدة والثلاثين عرف نجاحا كبيرا لما استقطبه من أسماء شعرية ونقدية وازنة في المشهد الشعري المغربي، وللحضور الكبير الذي تابع بشغف القراءات الشعرية التي حفت بها الجلسات الشعرية الأربعة،ولانفتاحه على المكون الشعري الأمازيغي الريفي الذي يكمل صورة الشعر المغربي .. المهرجان عكاظ الشعر المغربي على بساط خضرة فصل الربيع بشفشاون الرائعة بطبيعتها وأناسها الطيبين...